هنا قاعدة عظيمة وهي: أن الله قصر دخول الجنة على من اتصف بصفة الإيمان، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3] وقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ))[التين:6] وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا))[الكهف:107]، وغيرها من الآيات، وفي الحديث الصحيح: {إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة} فعلق دخول الجنة على وصف أخص من مجرد الإسلام وهو الإيمان؛ لأنه مرتبة أعلى.
وقد يأتي الإيمان بمعنى الدين، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين : {الإيمان بضع وستون، أو قال: بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فالإيمان في هذا الحديث وأمثاله يشمل الدين كله، لأن شهادة أن لا إله إلا الله التي ذكرت في حديث جبريل وفي حديث ابن عمر مذكورة في هذا الحديث أنها أعلى شعبة من شعب الإيمان: (أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله)، ولا يتوهم متوهم أن هناك تعارضاً بين القولين؛ لأنه ليس المقصود في حديث جبريل عليه السلام أن المسلم هو من شهد الشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت، وأتى بهذه الأعمال الظاهرة دون أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر...
وكذلك ليس المقصود أن المؤمن هو من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، دون أن يأتي بعمل ظاهر من صلاة وزكاة وصيام وغيرها؛ ففي حديث شعب الإيمان نجد أن شهادة أن لا إله إلا الله هي أعلاها، ومعنى ذلك أن هذه الشعبة تستلزم الإيمان الباطن والظاهر، فإذا قالها المرء بلسانه أخذ حكم المسلمين، وأما إذا حققها بقلبه، وذلك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر واعتقد حقيقتها؛ فقد حقق الإيمان الباطن.
فبمجرد أن يقول المرء: أشهد أن لا إله إلا الله يكون له ما للمسلمين حتى لو كان في أرض المعركة؛ كما في حديث أسامة، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: {أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟!}.
وشعب الإيمان أهلها متفاوتون فيها؛ لأنها متعلقة بإيمان القلب وإيمان الجوارح معاً، ومعنى ذلك أن أهل (لا إله إلا الله) متفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، ولهذا أكدت الأحاديث على قضية تصديق القلب واللسان، كما في الحديث الصحيح {من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}، {من قال: لا إله إلا الله؛ يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه}، : {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. من قالها غير شاك...}؛ فهذه الأحاديث تبين أن التلفظ بالشهادتين لابد أن يلازمه اليقين والاعتقاد الجازم دون أي شك، وهذه أعمال قلبية علق دخول الجنة عليها.
أما أحكام الإسلام فإنها تجرى على كل من أظهر الإسلام؛ إذ لا تفاوت بين الناس في الأحكام الظاهرة؛ فلو جاءنا كبير من كبار المنافقين لكنه مظهر للإسلام، وجاءنا رجل من أفاضل المؤمنين وخيارهم؛ فإننا نجري عليهما الأحكام الظاهرة ونعاملهما سواء، فكل منهما له حق الإسلام في الظاهر، وإن كان من علمنا إيمانه نحبه أكثر؛ لكن القصد من حيث إجراء الأحكام الظاهرة، أما ثوابهما عند الله تعالى وموضعهما من الجنة فبينهما فرق كبير، فلا يستوي من يقول: (لا إله إلا الله) بلسانه، مع من يقولها موقناً غير شاك، يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه، فالأخير على درجة عالية عظيمة من الإيمان، بخلاف الأول.
وصاحب البطاقة توضع بطاقته التي تحمل لا إله إلا الله في كفة، وتوضع التسعة والتسعون سجلاً من الذنوب والمعاصي في كفة؛ فترجح كفة لا إله إلا الله، فهذه الكفة لم ترجح لمجرد أن فيها كلمة قيلت، ولو كان الأمر كذلك لكان لكل من يقول: (لا إله إلا الله) أن يرتكب ما يشاء من الذنوب والموبقات، وتظل كفة حسناته راجحة على سيئاته، وليس الأمر كذلك.
وصاحب البطاقة أمره عجيب، وحالته لم تكن عادية؛ فإنه من الصعب أن تشهد أن لا إله إلا الله بيقين وبصدق وبإخلاص، ومع ذلك ترتكب تلك الموبقات البالغة تسعة وتسعين سجلاً؛ فهذا الحديث يبين لنا فضل شهادة أن لا إله إلا الله، وأهمية التوحيد وأنه يكفر الذنوب، وقد بوب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في كتاب التوحيد باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.