جاء في الأثر عن
محمد بن الحنفية أنه قال: [[
لا تنقضي الدنيا حتى تكون خصومات الناس في ربهم]].
ولو أن المسلمين انصرفوا إلى العلوم الكونية، وإلى النظر في الأنفس والآفاق، وفي سنن الله، وفي قيام الأمم وسقوطها، وتأملوها وشغلوا عقولهم بها؛ لكانوا أسبق إلى الحضارة والتقدم من الغرب، لكنهم انشغلوا بالخصومات في الغيب الذي كفاهم الله أمره من القدر والصحابة وغيرها من الأمور، فجاءت
أوروبا بعد أن تركت دينها فنظرت في المادة ففتح الله عليها في هذا الجانب.
ثم ذكر أثراً آخر عن
الحسن البصري رحمه الله: [[
أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد ! إني أريد أن أخاصمك! فقال الحسن : إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه]] وفي رواية أخرى أظنها عند
الآجري قال: [[
اذهب إلى شاك مثلك يناظرك، فإني قد عرفت ديني]]. وهذا ينطبق على
المتكلمين.
ثم ذكر أثراً آخر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [[من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر الشك -أو قال- يكثر التحول]] وفي بعض الكتب: [[من جعل دينه عرضة للخصومات؛ أكثر التنقل]] فإذا ناظره أحد المرجئة صار من المرجئة، وإذا ناظره أحد الخوارج صار من الخوارج، وإذا ناظره أحد المعتزلة صار معتزلياً وهكذا.
ثم ذكر في الأثر الذي بعده: عن الأصمعي قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال: [[ما كان جدل إلا أتى بعده جدل يبطله]] .
وهذا حق، فقد تكلم أفلاطون، فنقض كلامه أرسطو، ثم جاء أفلوطين، ثم فرفريوس، وكل واحد ينقض كلام من قبله. ثم جاء ابن سينا واعتنق رأي أرسطو ونقض فيه أشياء، وكتب الشفاء الذي يقول فيه العلماء:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من كتاب الشفاء
فـأبو حامد الغزالي أمرضه الشفاء، ثم جاء ابن رشد ونقض كلام ابن سينا، وهكذا المعتزلة: ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاختلفا، ثم النظام والعلاف، وما ماتا حتى كفر كل منهما الآخر، والخوارج اختلفوا وماتوا حتى كفر بعضهم بعضاً، فـنجده يكفر نافع بن الأزرق، ونافع يكفره وهكذا، لأن أمورهم بنيت على غير سنة.ثم قال: عن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم بن عتيبة : [[ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات" أي أنهم يتجادلون ويتخاصمون ويتناظرون ثم يذهب كل واحد منهم برأيه.
وأنت لو جئت إلى مسجد فيه شباب، كلهم يقرءون كتاب الله، ويسبحون ويهللون ويعبدون الله على منهج سليم، وافتعلت مسألة خلافية بينهم، فستجد أن ذلك يؤدي إلى تفرقهم، وهذا هو الواقع، ولهذا فعلى شباب الإسلام أن يحذروا الخصومات ومَنْ يبثها، وليسعنا ما وسع الصحابة والتابعين والسلف في الخلاف والرأي، وهذا هو المنهج الصحيح، ولو أردنا أن نحجر الناس على منهج واحد مما وسع السلف فيه القول؛ لكنا بذلك على خطأ، ولن يجتمع الناس على منهج واحد مما وسع السلف فيه القول، وسيكون ذلك على حساب القضايا الأساسية المهمة التي ليس للسلف فيها إلا قول واحد، وهو إثباتها والدعوة إليها]].
ثم ذكر أثراً عن الأحنف بن قيس قال: [[كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب]] وقال معاوية بن قرة : [[إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال]] فالذي يعيش كل وقته في جدل لا يشعر بلذة الإيمان وحلاوته، بل سيجد قسوة في قلبه، حتى ينبت النفاق في قلبه والعياذ بالله، حيث يحب أن يظهر أنه قد جادل خصمه حتى أفحمه، ثم يشتغل بما لا يعنيه، ثم ترى الغلظة في أقواله وأعماله، ويبتعد عن الرقة واللين، وعن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله بالرحمة والشفقة، ويبتعد عما كان عليه الصحابة الكرام قليلاً قليلاً، حتى يصبح على أخلاق أهل البدع والعياذ بالله، وإن كان في ظاهره وفي أصل دعواه أنه على الحق.
ثم قال: وعن هرم بن حيان أنه قال: [[صاحب الكلام على إحدى المنزلتين: إن قصَّر فيه خُصم، وإن أعرق فيه أثم]] أي: فإن حقق وتعمق غلب خصمه؛ لأنه لابد أن يأتي بما لا دليل عليه وأن يقول على الله بغير علم، وأن يفتري الكذب فيأثم.
ثم ذكر أثراً عن الفضيل بن عياض أنه قال: [[لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله]] أي: والله تعالى قد نهانا عن جدالهم، وأمرنا أن نعرض عن الذين يخوضون في آيات الله.
ثم ذكر في الأثر الذي بعده قصة: [[أن حماد بن أبي حنيفة -وقد كان من أهل الكلام- أتى إلى شريك بن عبد الله القاضي في شهادة، فقال له شريك : لا أقبل شهادتك، فقال: لم ترد شهادتي؟ فقال: أما إني لا أطعن عليك في بطن ولا فرج؛ ولكن متى تدع الخصومة في الدين أجزت شهادتك]] أي: إذا تركت علم الكلام والخصومة والجدال في الدين قبلت شهادتك.