ثم يقول المصنف رحمه الله: [كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً] وهذا أحد الأقوال [ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره].
وقد سبق أن قلنا: إن الأصل عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في أخذ القرآن هو الحفظ، فهم أمة أمية كما قال صلى الله عليه وسلم: {إنا أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب}، فالأصل فيهم الحفظ، وكان فيهم من يكتب، مع ملاحظة أن هناك فرقاً بين أن يكتب الإنسان مصحفاً لنفسه وبين أن يكتب مصحفاً للأمة، فما يكتبه لنفسه قد يقدم فيه ويؤخر، وقد يترك سورة لأنه لا يحفظها، وربما ترك أخرى لأنه يحفظها، بل ربما ترك سورة لأنه لم يحضرها أو لم تبلغه. وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى وهي: هل كل الصحابة رضوان الله عليهم جمعوا القرآن حفظاً في صدورهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا؛ لأن أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر في الحديث الصحيح في البخاري {أن الذين جمعوا القرآن أربعة، كلهم من الأنصار، وهم: زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل}، وفي أحاديث أخرى جاء ذكر غيرهم كـأبي الدرداء وابن مسعود وعلي وعثمان وأبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، لكن الباقلاني يحاول أن يدفع هذا القول ويقول: لا يعقل أنه لا يحفظ القرآن من الصحابة إلا أربعة أو سبعة أو عشرة أو اثنا عشر صحابياً على أكثر الأقوال تقريباً.
وكلام الباقلاني هذا هو كلام المتكلمين الذي يردون به على الزنادقة الذين يطعنون في ثبوت القرآن، وأنه نقل إلينا بالتواتر، فقد قالوا: ما دام أن القرآن لم يجمعه إلا اثنا عشر رجلاً، على أكثر الأقوال؛ فإنه لم يصل إلى حد التواتر، فقام المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة -دفاعاً عن القرآن- برد الأحاديث التي جاءت محددة للذين حفظوا القرآن، وقالوا: هذا لا يعقل! مع عظم اهتمام الصحابة بالقرآن ألا يحفظه إلا نفر قليل.
والجواب على هذا الإشكال أن يقال:
أولاً: يجب أن يفرق بين الذين جمعوا القرآن كله وبين الذين يحفظون الآيات والسور، فلا يعني هذا أن كل آية من القرآن لم يجمعها إلا هؤلاء النفر، فمثلاً: سورة البقرة يحفظها من الصحابة مائة أو مائتا صحابي تقريباً، وسورة آل عمران يحفظها مائة أو مائتان، وليس هؤلاء الذين يحفظون آل عمران هم نفس أولئك الذين يحفظون البقرة، وقس على ذلك النساء والمائدة... إلخ. والنتيجة أن الأمة في مجموعها تحفظ القرآن في مجموعه، وإن كان الذين جمعوه كله عدداً قليلاً.
ثانياً: أن الناس يوصفون بما اشتهروا به، فالذي جمع القرآن كله وحفظه هم المشهورون بالقراءة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل زيد وأبي بن كعب رضي الله عنهما، لأن هذا هو مجالهم ومنهم، فإذا ذكر القّراء أو القراءة أحيل عليهم، ولا يعني ذلك أن غيرهم لم يقاربهم في الفضل، ولكن المتخصص في هذا العلم والفن الذي أتقنه واشتهر به هم أولئك.
فإذا نظرنا إلى هذا، لرأينا أن الأمة في مجموعها أجمعت على هذا المصحف العثماني وعلى هذا الحرف وعلى هذه القراءات، فإذاً يكون القرآن فعلاً قد نقل بالتواتر، ولا إشكال في ذلك، كما أن الصحابة لم يكتفوا بجمع المصحف مكتوباً، بل كان زيد رضي الله عنه ومن معه من الصحابة حريصين على أن يطابقوا ما في الصدور على المكتوب أيضاً ليتأكدوا منه، وهكذا فلم يقتصر عملهم على المحفوظ وحده ولا على المكتوب وحده، وإنما أخذوا المجموع المكتوب ثم طابقوه على المحفوظ في الصدور، فكان نتاج ذلك النسخة الكاملة للمصحف الإمام، وهذا مما يرد به على ما قد يثار من شبهات أعداء الله حول حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وما أثاره الزنادقة في الماضي من المجوس واليهود والنصارى وممن لا يؤبه لهم، لو أن المعتزلة والأشعرية والمتكلمين عموماً لم يهتموا بهم ولم يردوا عليهم ما ضرنا ذلك في شيء، ولكن ظهرت زندقة معاصرة الآن مأخوذة عن المستشرقين قبحهم الله، فهم أخذوا يحاولون التشكيك والطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي ثبوت القرآن وفي عدالة الصحابة، لأن هذه الأسس إذا طعن فيها وسقطت؛ سقط ديننا ولم يبق من الإسلام شيء، فزعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس نبياً كما قال أسلافهم من قبل: أساطير الأولين اكتتبها أو وصمهم إياه بالجنون، وقال هؤلاء المستشرقون عن الوحي الذي كان ينزل عليه: إن هذه نوبات من الصرع وغير ذلك من الافتراءات الممجوجة، والتي حملهم عليها ما في قلوبهم من الحقد الدفين، وقالوا عن القرآن: إنه غير ثابت، وقالوا: إن عدالة الصحابة غير ثابتة؛ يريدون بذلك هدم الإسلام والقضاء عليه.
فالمستشرقون اهتموا بنشر بعض الكتب للقراءات، ولهذا تجدون مما هو مطبوع وموجود من كتب القراءات أن أول من نشره هم بعض المستشرقين، وهذا ليس حرصاً منهم على القراءات ولكن لجهلهم؛ ولأن الله سبحانه وتعالى الذي قال: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[الحجر:9] يريد أن يفضحهم على الملأ بما تعمل أيديهم، فهم بأيديهم يجمعون القراءات ويقولون: إن القرآن مختلف وفيه تناقض، هذه قراءة فلان وهذه قراءة فلان، وهم لم يعلموا أنهم بهذا العمل يؤكدون أن هذا القرآن محفوظ، إذ كيف حفظت هذه القراءة إلى أبي، وهذا السند إلى علي، وهذه القراءة إلى عثمان أو إلى زيد، كما أنك إذا نظرت إلى حفاظ القرآن في شرق الدنيا وغربها، تجد منهم الرجل الأعجمي الذي يحفظ القرآن كاملاً بعدة قراءات، ولا يستطيع أن يفهم منك كلمة عربية، فعندما يحفظ القرآن في الصدور ويطابق على هذه القراءات المكتوبة يكون ذلك شاهداً على صدق هذا القرآن وعلى صحته، وعلى أن الله سبحانه وتعالى جمع بين حفظه وبين تيسيره : ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))[القمر:17] ومن ذلك تيسير تلاوته وتيسير حفظه على الناس، حتى إن الأعجمي يحفظه بيسر ويستطيع قراءته بيسر، ولو أردت أن تعلمه اللغة العربية التي هي لغة القرآن لوجدت في ذلك مشقة.
بالرجوع إلى مسألة اختلاف مصاحف الصحابة نقول: إن اختلاف مصاحف الصحابة رضوان الله عليهم في الترتيب لم يكن لأن القرآن مختلف فيه أو في ترتيبه، بل إن بعض العلماء أخذ من هذا الاختلاف أن الأمر فيه سعة، وقالوا: هذا دليل على أن القرآن إنما يجب ترتيبه بحسب الآيات في السورة الواحدة، أما ترتيب السور بعضها مع بعض فقد كان لهم فيه فسحة وسعة، لكن بعد أن رتبه الصحابة رضوان الله عليهم هذا الترتيب الموجود وكتبوا المصحف العثماني، فلا يجوز مخالفتهم؛ لأنهم إذا أجمعوا على شيء فلا يجوز مخالفتهم فيه، وإن قيل: إن ذلك سائغ أو جائز؛ فإن هذا يكون خرقاً للإجماع ومشاقة لهم واتباعاً لغير سبيل المؤمنين، ولهذا قال: [وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه، هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء. قاله ابن جرير وغيره] يعني أن هذا القول هو المشهور عن ابن جرير .