المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إِلَى قول من قسم التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يَثبُت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقِدم، وهو توحيد خاصة الخاصة، فإن أكمل النَّاس توحيداً الأَنْبِيَاء - صلوات الله عليهم- والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً وهم: "نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومُحَمَّد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين".
وأكملهم توحيداً الخليلان: مُحَمَّد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفةً وحالاً ودعوةً للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي بهم فيه، كما قال تَعَالَى بعد أن ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأَنْبِيَاء من ذريته: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)) [الأنعام:90].
فلا أكمل من توحيد من أُمر رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي بهم.
وكان صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: {أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ}
فملة إبراهيم: التوحيد، ودين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جَاءَ به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي: ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبوديةً وذلاً وانقياداً وإنابةً.
فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [البقرة:130-131]
وكل من له حس سليم، وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إِلَى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به] إهـ.

الشرح:
تدّعي الصوفية أن العلم علمان: علم الحقيقة وعلم الشريعة، فالشريعة هي ظاهر هذه الآيات: من القُرْآن والسنة، والأحكام الظاهرة التي نسميها نَحْنُ الشريعة يسمونها هم -أيضاً- الشريعة، ويقولون: إن الحقيقة أمر آخر غير الشريعة، وقد يثبت بالحقيقة ما لا يثبت بالشريعة، -وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك- وهو استدلالهم بقصة الخضر مع موسى عليهما السلام، فإنهم قالوا: إن الشريعة لا تبيح أن تقتل نفس برئية، والشريعة لا تبيح أن تخرق مركب لمن قد أحسن إليك، والشريعة أيضاً لا تجيز أن الإِنسَان يذهب ويحسن إِلَى قوم لم يطعموه ولم يضيفوه ويبني هذا الجدار عندهم، إما أنها لا تجيز ذلك أو أنها لا تدعو إليه، فكيف فعل الخضر ذلك؟!
يقولون: إن موسى كَانَ عَلَى الشريعة، وأما الخضر فإنه كَانَ عَلَى الحقيقة، وقد فندنا ذلك القول ولا داعي لإعادته، فالخلاصة أن كلاً منهما كَانَ عاملاً بالشريعة ولم يخالفها، وأما ما يسمى بالحقيقة فإنه لا وجود له إلا في أذهان الذين اختلقوه ليهدموا به الدين، فيقولون: الصلاة والزكاة والحج والجهاد هذه كلها من الشريعة، أما نَحْنُ فنحن أهل الحقائق. والذين يسمونهم الخاصة هم الذين يوحدون الله بتوحيد الحقيقة. كما سبق. حيث يقولون: إن غاية التوحيد هو إثبات الربوبية، ثُمَّ أن يترقى الواحد منهم في التوحيد حتى يرى من قوة توحيده أن الله تَعَالَى هو الفاعل لكل شيء، وأنه لا فعل لأحد معه عَلَى الإطلاق في هذا الكون، هذا هو غاية التوحيد عندهم.

وتوحيد خاصة الخاصة: هو الحلول والاتحاد وهو أن لا يبقى ذات معبودة وذات عابدة، وإنما تصبح الذاتان ذاتاً واحدة -والعياذ بالله- وهذا هو الفناء وهو غاية السالكين كما يسمونه؛ لأن الطريق عندهم كالتالي:
يبدء المرء مريداً، وهذا المريد يتعلم، ثُمَّ السالك يمشي في المقامات، ثُمَّ الواصل وهو الذي قد وصل وانتهى وفني وسقطت عنه التكاليف، فهذا يسمى الواصل.
وعندما يبتدئ الإِنسَان عندهم يقولون له: عَلَى المريد أولاً: أن يلتزم بأحكام الشريعة، ويجب عليه أن يصلي وأن يصوم لأنه أولاً: لن يألف توحيد خاصة الخاصة لأن قلبه لم يتعود بعد عليه.
ثانياً: حتى لا ينكر عليه العامة، إذ لو أنكروا عليه العامة في أول الطريق لهرب منهم، ولم يمشِ في الطريق، ففي أول الطريق يعمل بالأحكام الظاهرة، التي هي الشريعة الظاهرة من إقامة الصلاة ونحو ذلك كما يعمل النَّاس وهذا هو توحيد العامة عندهم، ولكنه يترقى بالأفكار التي يعطونه وكل طريقة تعطيه كما تشاء، حتى يصبح من أهل الحقيقة فإذا أصبح من أهل الحقيقة فإن التكاليف تتحول عنده من تكاليف صلاة وصيام ونحو ذلك، إِلَى أذكار وأوراد وعبادات يملونها هم عليه، ثُمَّ يترقى حتى يصبح من أهل الفناء ومن أهل الشهود، وهَؤُلاءِ هم أهل وحدة الوجود -والعياذ بالله- فيرى نفسه أنه هو الخالق والمخلوق عياذاً بالله فلا يبقى هناك ذاتان منفصلتان، وإنما ذات واحدة، وهذا من أعظم أنواع الكفر، وأبو حامد الغزالي-غفر الله له- قد رجع عن هذا في آخر حياته، وندم عَلَى ما فرط منه، لكن نقول: إن أبا حامد عندما ذكر هذه الأشياء ذكرها كمصدر من مصادر الحقيقة ومصادر المعرفة، ولم يكن مستيقناً من لوازم هذا القول وما ينبني عليه، لأنه يقول كما ذكر في الإحياء: كيف يترقى الإِنسَان لينتقل من كونه من أصحاب توحيد العامة [من أصحاب الشريعة] إِلَى أن يكون من أصحاب الحقيقة، يقول: إما أن يذهب إِلَى جبل أو إِلَى مغارة يختبئ فيها ويذكر الله حتى يأتيه الكشف، فإن لم يستطع فليأخذ كساء أسوداً غليظاً ويلفه عَلَى رأسه، وبهذا يكون قد اختلى ويظل يردد ويقول: الله الله الله وغيرها من الأذكار حتى يأتي الكشف، فمثل هذا الكلام من الإمام أبي حامد الغزالي والهروي شيء غريب جداً لكن نحسن الظن بهم لأنهم لم يكونوا يدركون ماذا سيترتب عَلَى هذا الكلام، فإنه كَانَ سبباً لأن يأتي بعدهم الملاحدة الذين كشفوا القناع وصرحوا بذلك، وقد كَانَ قبلهم من صرح بذلك، ولكن أكثر المتأخرين يعتمدون عَلَى كتاب الهروي منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في كتابه مدارج السالكين، وكتاب أبي حامد الغزالي إحياء علوم الدين وكذلك المنقذ من الضلال، وكذلك الرسائل الأخرى التي جمعت وطبعت وفيها من هذا الكلام.
  1. الرد عليهم

    ونرد عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً وهذا هو الذي يهمنا بأن أكمل النَّاس توحيداً هم الخليلان كما قال الإمام مالك: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام هما أكمل النَّاس توحيداً، فليس هناك رقي ولا ترقي في التوحيد بحيث يكون الإِنسَان أعظم من مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ومع ذلك: فإن دين الخليل ودين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو إفراد الله بالعبادة، أي توحيد الألوهية وهو عبادته تَعَالَى إِلَى أن يأتي الموت كما قال تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] أي: لا تنفك عن عبادته تَعَالَى إِلَى أن يدركك الموت، فما دمت عبداً حياً فوصف العبودية لا ينفك عنك مطلقاً، أما ما يقال من الحقيقة والفناء أو من الشهود، فهذه مصطلحات بدعية شركية لم يعرفها الخليلان ولم يعرفها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، ولم يعرفها أولوا العزم من الرسل، وإنما هذه بدع وضلالات ابتدعها هَؤُلاءِ القوم وأدخلوها في دين الإسلام، فهل كَانَ فيما حققوه أنهم جعلوا التوحيد ثلاثة أقسام، توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، ثُمَّ توحيد خاصة الخاصة؟
    بل وإنما كانت الدعوة إِلَى عبادة الله، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعبد الله أمام أصحابه، وكان أصحابه يقتدون به في عبادته، وهكذا كَانَ الأَنْبِيَاء من قبل ولم يكن أحد منهم أبداً عَلَى هذا التوحيد الذي هو مجرد ذكر أو ترانيم، توصل صاحبها إِلَى ما يسمى بالفناء المزعوم، قال تعالى:
    ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [البقرة:130-131] وفي الحديث الذي أخرجه الدارمي وابن السني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعلم أصحابه ويقول: {أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ} ويستدل المُصنِّف بمعناه، ومعناه صحيح من حيث إن ملة إبراهيم هي دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك في ذلك وهي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم في عقبه كما قال تعالى: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الزخرف:28] وهي الشهادة شهادة أن لا إله إلا الله كلمة التوحيد فبين المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن هَؤُلاءِ الصوفية ومن ادَّعى هذه الدعوى قد افتروا عَلَى الله الكذب حين قسموا التوحيد إِلَى هذه الأنواع الثلاثة، وأما القسمة الصحيحة الحقيقية للتوحيد فهي أن نقول: إنه توحيدان توحيد خبري علمي اعتقادي، الذي هو توحيد المعرفة أي توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد عملي طلبي إرادي وهو توحيد الألوهية، أي: توحيد العبادة، وأيضاً قلنا: إن المُصنِّف قال إن هناك توحيدان -أي باعتبار آخر- توحيد المرسِل، وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتوحيد المرسَل أي: متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنوحد الله تَعَالَى بالطاعة والعبادة بأن نعبده وحده، ونوحد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء فلا نقتدي بأحد غيره.
  2. شرح أبيات الإمام الهروي والرد عليها

    ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
    [ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إِلَى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر، يفضي إِلَى الاتحاد. انظر إِلَى ما أنشده شَيْخ الإِسْلامِ أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:
    ما وحد الواحد من واحد            إذ كل من وحده جاحد
    توحيد من ينطق عن نعته            عارية أبطلها الواحد
    توحيده إياه توحيده            ونعت من ينعته لاحد

    وإن كَانَ قائله رَحِمَهُ اللَّهُ لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كَانَ أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كَانَ مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا النَّاس إليه وبينه، فإن عَلَى الرَّسُول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار إليه؟‍! هذه النقول والعقول حاضرة.
    فهذا كلام الله المنزل عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جَاءَ ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين، المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النَّصَارَى في دينهم.
    وقد ذم الله تَعَالَى الغلو في الدين ونهى عنه، فَقَالَ تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً))[النساء:171] ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)) [المائدة:77].
    وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كَانَ قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} رواه أبو داود] اهـ

    الشرح:
    كما ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ، أن القول بقسمة التوحيد إِلَى ثلاثة أقسام يفضي إِلَى القول بالحلول والاتحاد وقد ذكر المُصنِّف عَلَى ذلك مثالاً: فالأبيات التي ذكرها الهروي في كتابه منازل السائرين يقول:
    ما وحد الواحد من واحد
    الواحد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي: [لم يوحده أحد].
    إذ كل من وحده جاحد
    فيحكم بأن كل من وحد الله فهو جاحد
    توحيد من ينطق عن نعته            عارية أبطلها الواحد
    يقول: إن توحيد من ينطق عن نعته أي: كل من تكلم في التوحيد وفي صفات التوحيد من النَّاس فإن هذا التوحيد عارية أبطلها الواحد الذي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا حقيقة لتوحيد هَؤُلاءِ القوم.
    توحيده إياه توحيده
    "توحيده" الأولى مبتدأ، و"توحيده" الثانية خبر، فتوحيد الله لنفسه هو التوحيد [توحيده إياه توحيده] حقيقة توحيده هو ما وحد به نفسه لا ما وحده غيره.
    ونعت من ينعته لاحد
    أي أن وصف غير الله له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلحاد، ونستطيع أن نرد عَلَى هذه الأبيات كما رد عليها ابن القيم في المدارج وهو قول الله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] ثُمَّ قال بعد ذلك:
    ((وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)) فأثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الملائكة وأن أولى العلم وحدوه أي شهدوا له بالوحدانية فمن يقول: إنه لم يوحد الله أحد، وأن من وحده أو نعته فإنه ملحد جاحد، فهو مكذب لهذه الآية، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين أن عباده يوحدونه، بل إن ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: "إن الأرض والسماء نفسها هذه هي التي تسبح الله ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ))[الإسراء:44] فهي نفسها توحد الله وتعبده
    فهذا نقض لهذا الكلام الذي ذكر فيه أن لا شيء يوحد الله لا الأنبياء، ولا العباد الصالحون، ولا مخلوقات الله التي تسبح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده والآيتان دليل عَلَى بطلان هذا القول، والذي أوقع الهروي في هذا هو الغلو في فهم التوحيد، حتى ظن أن حقيقة التوحيد -الذي في ذهنه- أمر خفي عميق بعيد لا يدركه أحد، ومن هذا المنطلق -منطلق الغلو مع الابتعاد عن نصوص الكتاب والسنة- وقع فيما وقع فيه أهل الكتاب لقوله بهذا القول الذي تبطله الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة.
    وجاء أهل الحلول والاتحاد، وتعلقوا بهذه الأبيات وَقَالُوا: إن الهروي كَانَ من أهل الحلول والاتحاد، لأنه يقول: إن الله لم يوحده أحد غيره، فهو الذي وحد نفسه إذاً كل البشر لا يوحدون الله، والذي يعرف حقيقة التوحيد -كما قالوا- هو من يؤمن بوحدة الوجود، أي: من يؤمن بالحلول والاتحاد، فهذا الكلام دليل لهم.
    يقول المصنف: [وإن كَانَ قائله رَحِمَهُ اللَّهُ لم يرد به الاتحاد] نعم الهروي إنما أراد الغلو في مفهوم التوحيد ولم يرد حقيقة الاتحاد؛ لكنه لما جَاءَ بهذا الكلام الباطل الذي أبطله القُرْآن وأبطلته السنة جَاءَ الاتحادي فنسبه إليه وادعاه، ولا يهمنا أن يكون الهروي أراد هذا أو لم يرده وإن كَانَ الظاهر من سيرة الرجل أنه كَانَ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان من المثبتين لصفات الله تعالى، وإنما المأخذ عليه هو أنه مشى عَلَى منهج الصوفية، وأخذ اصطلاحاتهم في المقامات والأحوال والمنازل والإشارات، لكن لا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا أن هذه المعاني باطلة، وأن التوحيد الحقيقي الذي هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قام به الأَنْبِيَاء أكبر قيام ومنهم الخليلان إبراهيم ومُحَمَّد صلى الله عليهما وعلى أنبيائه أجمعين، وقام به أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
    وأننا يجب علينا أن نبتعد عن الغلو في الدين، حتى ولو كَانَ غلواً في التوحيد فلا نعمل ولا نقول إلا بما ثبت في القُرْآن أو في السنة.
    وأما الغلو فإنه قد أهلك أهل الكتاب من قبلنا، وقد أهلك هَؤُلاءِ الذين ظنوا أنهم بهذه التعقديات والتجريدات والخيالات والشطحات، يوحدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده، ويعرفون قدره وعظمته، ويظنون أن من تعظيم الله أن يقولوا: إن الله لن يوحده أحد، ونحن نقول: من تعظيم الله عَزَّ وَجَلَّ أن نقول: إننا لم نعبد الله حق عبادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونقر بأننا لا نعرف الله حق معرفته ولا نقدر الله حق قدره؛ لأن هذه درجة عالية عظيمة، ولكن نسأل الله أن نحقق ذلك في أنفسنا، وأن يتحقق لنا، ونسعى في ذلك ونرجوه.
    أما أن نقول: إنه لم يوحده أحد، وأن كل من نعته أو وصفه فإنه ملحد، فهذا غلو فاحش باطل، وهذا هو الفرق بين اعتراف المؤمن بالتقصير، وأنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يعبده حق عبادته ولم يتقه حق تقاته، وبين من يقول: إنه لم يوحده ولن يوحده أحد مطلقاً وإنما توحيده إلحاد، ووجه استدلال المُصنِّف رحمه الله تعالى في الرد عَلَى الأبيات هو في قوله تعالى:
    ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ))[المائدة:77] أي: أن هذه نتيجة الغلو، وبقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه أبو داود {لا تشددوا فيشدد الله عليكم} فإن هذا نهي عن التشدد حتى في مفهومات الإيمان والتوحيد ولذلك وقع الخوارج في تكفير الْمُسْلِمِينَ بسبب هذا التشدد، والله أعلم.