المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إِلَى قول من قسم التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يَثبُت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقِدم، وهو توحيد خاصة الخاصة، فإن أكمل النَّاس توحيداً الأَنْبِيَاء - صلوات الله عليهم- والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً وهم: "نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومُحَمَّد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين".
وأكملهم توحيداً الخليلان: مُحَمَّد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفةً وحالاً ودعوةً للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي بهم فيه، كما قال تَعَالَى بعد أن ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأَنْبِيَاء من ذريته: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)) [الأنعام:90].
فلا أكمل من توحيد من أُمر رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي بهم.
وكان صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: {أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ}
فملة إبراهيم: التوحيد، ودين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جَاءَ به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي: ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبوديةً وذلاً وانقياداً وإنابةً.
فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [البقرة:130-131]
وكل من له حس سليم، وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إِلَى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به] إهـ.

الشرح:
تدّعي الصوفية أن العلم علمان: علم الحقيقة وعلم الشريعة، فالشريعة هي ظاهر هذه الآيات: من القُرْآن والسنة، والأحكام الظاهرة التي نسميها نَحْنُ الشريعة يسمونها هم -أيضاً- الشريعة، ويقولون: إن الحقيقة أمر آخر غير الشريعة، وقد يثبت بالحقيقة ما لا يثبت بالشريعة، -وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك- وهو استدلالهم بقصة الخضر مع موسى عليهما السلام، فإنهم قالوا: إن الشريعة لا تبيح أن تقتل نفس برئية، والشريعة لا تبيح أن تخرق مركب لمن قد أحسن إليك، والشريعة أيضاً لا تجيز أن الإِنسَان يذهب ويحسن إِلَى قوم لم يطعموه ولم يضيفوه ويبني هذا الجدار عندهم، إما أنها لا تجيز ذلك أو أنها لا تدعو إليه، فكيف فعل الخضر ذلك؟!
يقولون: إن موسى كَانَ عَلَى الشريعة، وأما الخضر فإنه كَانَ عَلَى الحقيقة، وقد فندنا ذلك القول ولا داعي لإعادته، فالخلاصة أن كلاً منهما كَانَ عاملاً بالشريعة ولم يخالفها، وأما ما يسمى بالحقيقة فإنه لا وجود له إلا في أذهان الذين اختلقوه ليهدموا به الدين، فيقولون: الصلاة والزكاة والحج والجهاد هذه كلها من الشريعة، أما نَحْنُ فنحن أهل الحقائق. والذين يسمونهم الخاصة هم الذين يوحدون الله بتوحيد الحقيقة. كما سبق. حيث يقولون: إن غاية التوحيد هو إثبات الربوبية، ثُمَّ أن يترقى الواحد منهم في التوحيد حتى يرى من قوة توحيده أن الله تَعَالَى هو الفاعل لكل شيء، وأنه لا فعل لأحد معه عَلَى الإطلاق في هذا الكون، هذا هو غاية التوحيد عندهم.

وتوحيد خاصة الخاصة: هو الحلول والاتحاد وهو أن لا يبقى ذات معبودة وذات عابدة، وإنما تصبح الذاتان ذاتاً واحدة -والعياذ بالله- وهذا هو الفناء وهو غاية السالكين كما يسمونه؛ لأن الطريق عندهم كالتالي:
يبدء المرء مريداً، وهذا المريد يتعلم، ثُمَّ السالك يمشي في المقامات، ثُمَّ الواصل وهو الذي قد وصل وانتهى وفني وسقطت عنه التكاليف، فهذا يسمى الواصل.
وعندما يبتدئ الإِنسَان عندهم يقولون له: عَلَى المريد أولاً: أن يلتزم بأحكام الشريعة، ويجب عليه أن يصلي وأن يصوم لأنه أولاً: لن يألف توحيد خاصة الخاصة لأن قلبه لم يتعود بعد عليه.
ثانياً: حتى لا ينكر عليه العامة، إذ لو أنكروا عليه العامة في أول الطريق لهرب منهم، ولم يمشِ في الطريق، ففي أول الطريق يعمل بالأحكام الظاهرة، التي هي الشريعة الظاهرة من إقامة الصلاة ونحو ذلك كما يعمل النَّاس وهذا هو توحيد العامة عندهم، ولكنه يترقى بالأفكار التي يعطونه وكل طريقة تعطيه كما تشاء، حتى يصبح من أهل الحقيقة فإذا أصبح من أهل الحقيقة فإن التكاليف تتحول عنده من تكاليف صلاة وصيام ونحو ذلك، إِلَى أذكار وأوراد وعبادات يملونها هم عليه، ثُمَّ يترقى حتى يصبح من أهل الفناء ومن أهل الشهود، وهَؤُلاءِ هم أهل وحدة الوجود -والعياذ بالله- فيرى نفسه أنه هو الخالق والمخلوق عياذاً بالله فلا يبقى هناك ذاتان منفصلتان، وإنما ذات واحدة، وهذا من أعظم أنواع الكفر، وأبو حامد الغزالي-غفر الله له- قد رجع عن هذا في آخر حياته، وندم عَلَى ما فرط منه، لكن نقول: إن أبا حامد عندما ذكر هذه الأشياء ذكرها كمصدر من مصادر الحقيقة ومصادر المعرفة، ولم يكن مستيقناً من لوازم هذا القول وما ينبني عليه، لأنه يقول كما ذكر في الإحياء: كيف يترقى الإِنسَان لينتقل من كونه من أصحاب توحيد العامة [من أصحاب الشريعة] إِلَى أن يكون من أصحاب الحقيقة، يقول: إما أن يذهب إِلَى جبل أو إِلَى مغارة يختبئ فيها ويذكر الله حتى يأتيه الكشف، فإن لم يستطع فليأخذ كساء أسوداً غليظاً ويلفه عَلَى رأسه، وبهذا يكون قد اختلى ويظل يردد ويقول: الله الله الله وغيرها من الأذكار حتى يأتي الكشف، فمثل هذا الكلام من الإمام أبي حامد الغزالي والهروي شيء غريب جداً لكن نحسن الظن بهم لأنهم لم يكونوا يدركون ماذا سيترتب عَلَى هذا الكلام، فإنه كَانَ سبباً لأن يأتي بعدهم الملاحدة الذين كشفوا القناع وصرحوا بذلك، وقد كَانَ قبلهم من صرح بذلك، ولكن أكثر المتأخرين يعتمدون عَلَى كتاب الهروي منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في كتابه مدارج السالكين، وكتاب أبي حامد الغزالي إحياء علوم الدين وكذلك المنقذ من الضلال، وكذلك الرسائل الأخرى التي جمعت وطبعت وفيها من هذا الكلام.
  1. الرد عليهم

  2. شرح أبيات الإمام الهروي والرد عليها