ويذكر شيخ الإسلام أدلة وأمثلة على الاتفاق والتقارب في الأحرف السبعة فيقول: "كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[إنما هو كقول أحدكم أقبل، وهلم، وتعال]]".
يعني: كلها جائزة. وهذا أحد الأوجه في معنى الأحرف السبعة وهو أنها سبع لغات كانت العرب تتكلم بها، وكل قبيلة من العرب كما هو معلوم كان لها لغة ولذلك يقولون: لغة تميم، ولغة الحجاز، ولغة قيس ولغة اليمن . واللغة هنا بمعنى: اللهجة. فهي ضمن اللغة العربية وليست لغة مستقلة، فبعض العرب تعبر بلغتها عن معنى بكلمة، وتعبر قبيلة أخرى عن المعنى نفسه بكلمة أخرى، وهذا معروف إلى يومنا في اللغة العربية وفي جميع لغات العالم؛ فيقول: إن المعنى واحد والله سبحانه وتعالى رحمة بنا أنزل القرآن على سبعة أحرف؛ ليستوعب هذه اللغات جميعاً، وإن كان الأصل الغالب والأعم أنه على لغة قريش وليس هناك لغة أفصح منها، ولكن قد يكون في لغة قريش كلمة أو أسلوب وفي لغة اليمن أو تميم ما هو أفصح منه فيأتي القرآن دائماً على الأفصح والأبلغ، فأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن أول الأمر هكذا؛ تيسيراً منه سبحانه وتعالى، وإنما كان في ذلك حرج ومشقة أن يجتمع الناس جميعاً على لغة قريش.
يقول: "وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق" أي: قد يكون هناك معنيان مختلفان، لكن كل منهما حق فلا تعارض أيضاً وإن اختلف المعنى، قال: "وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض، وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم : {أنزل القرآن على سبعة أحرف، إن قلت: غفوراً رحيماً، أو قلت: عزيزاً حكيماً فالله كذلك، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة}.
وضرب رحمه الله مثلاً بقوله تعالى عن قوم سبأ: ((رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا))[سبأ:19] فتقرأ بكسر العين وبفتحها، فعلى المعنى الثاني -بالفتح-: أن القرى كانت متقاربة فيما بينها، ينتقلون من مكان إلى مكان فلا يشعرون بالانقطاع ولا بالخوف ولا بالبعد، لكن: ماذا قالوا؟ (قالوا ربنا باعَد بين أسفارنا) أي: أنكروا النعمة وجحدوها بخبرهم أن الله باعد بين القرى، والمعنى الآخر على قول: ((رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا))[سبأ:19] أي: قالوا: يا رب! أنت جعلت الأسفار سهلة وقريبة ربنا باعد بين أسفارنا، وهذا من البطر الذي يصيب النفوس، وهذه -كما يقولون- حالة نفسية تصيب الحضارات إذا وصلت إلى مرحلة الترف والبطر في المعيشة.
يتبين من هذا أنه ليس بينها تضاد ولا اختلاف، سواءً قلت هذا أو قلت هذا فكلا المعنيين صحيح، وإنما هو تنوع وتغاير.
ثم قال: "ومن القراءات ما يكون المعنى فيها متفقاً من وجه، متبايناً من وجه كقوله (يخدعون، ويخادعون)، و (يكذبون، ويكذّبون) و(لمستم، ولامستم)، و(وحتى يطهُرنَ، ويطَّهَّرن) ونحو ذلك.
فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق".
أي: المعنى مختلف من وجه وليس الخلاف كلياً. فالخلاف بين الخداع والمخادعة أو بين الكذب والتكذيب ليس اختلافاً كلياً وإنما من وجه؛ لأن المخادعة تشتمل على الخداع، وكذلك التكذيب يشتمل على الكذب، وكذلك (لمستم، ولامستم) فالملامسة غير اللمس من وجه ولكن هناك اتفاق في المعنى، وفي اللفظ من وجه آخر. يقول: "وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية". يعني: كأن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا آيتين: آية قال فيها: (حتى يطْهُرن) مثلاً، وآية قال: (حتى يطهّرن)، و(لامستم) أو (لمستم) فكما نؤمن بهذه الآية وهذه الآية لو أنها كانت آية أخرى، فكذلك نؤمن بكلا القراءتين، ولا نتنازع فيهما ولا نختلف ولا نتجادل، بل نقول: كلها حق.
يقول: "يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علماً وعملاً". أي: في الأمور العلمية الاعتقادية، وكذلك في الأمور العملية، والأحكام الفرعية.
قال: "لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى؛ ظناً أن ذلك تعارض".
أي: لا يقل أحد: أنا أعمل بهذه، وأترك الأخرى؛ لأن القراءتين متعارضتان وأنا آخذ بالراجح؛ بل كلاهما حق، وعليك أن تأخذ بهما وتؤمن بهما في الأمور الاعتقادية، والأحكام الفرعية، ومن رجح حكماً آخر -من قراءة أخرى- غير الذي رجحته فلا تنكر عليه؛ لأن هذا الاختلاف هو اختلاف تنوع أو تغاير، وكلاهما عمل بما أنزل الله سبحانه وتعالى، ولا يعني ذلك ألاّ نرجح، بل قد نرجح أحد الحكمين ونستند إلى قراءة لأدلة أخرى أو قرائن في السياق أو في غيره، لكن لا ننكر القراءة الأخرى من جهة، ولا ننكر على من أخذ بها من جهة أخرى.