ثم قال الشاطبي رحمه الله: "فتأملوا -رحمكم الله- كيف كان فهمهم في القرآن، ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواماً حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث، وتدافعت على أفهامهم، فجعجعوا به قبل إمعان النظر. ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة:" وهذه من الأمثلة التي سألها نافع بن الأزرق وغيره لـابن عباس قال: "أحدها: قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ))[الصافات:27] يتناقض مع قوله تعالى: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ))[المؤمنون:101].
والثاني: قول من قال في قوله تعالى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))[الرحمن:39] مضاد لقوله : ((وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ))[العنكبوت:13] وقوله تعالى: ((وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[النحل:93].
والثالث: قول من قال في قوله تعالى: ((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[فصلت:9] إلى قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْن))[فصلت:11-12]: إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء، وفي الآية الأخرى: ((أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا))[النازعات:27-30]، فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء.
ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق أو غيره على ابن عباس رضي الله عنهما، فخرَّج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لـابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، وهي قوله تعالى: ((فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ))[المؤمنون:101]، ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ))[الصافات:27] وقوله: ((وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا))[النساء:42]، ((والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ))[الأنعام:23] فقد كتموا في هذه الآية... وقال: ((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))[النساء:96]، ((عَزِيزًا حَكِيمًا))[النساء:56]، ((سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:58] فكأنه كان ثم مضى!
فقال -يعني- ابن عباس : ((فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)): في النفخة الأولى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ))[الزمر:68] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الأخرى: (أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).
وأما قوله: (مَا كُنَّا مُشْرِكِين) مع قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص ذنبهم -يعني: يغفر الله للموحدين-، وقال المشركون: -يعني: حين يرون ذلك- تعالوا نقل: لم نكن مشركين! فيختم على أفواههم؛ فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرفوا أن الله لا يُكتم حديثاً".
يعني: تشهد عليهم جوارحهم وجلودهم، حتى أنهم ينكرون على جلودهم: ((وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا))[فصلت:21]، لأنهم يريدون أن يكتموا هذا الشيء: ((قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ))[فصلت:21].
قال ابن عباس: "وعنده: ((يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ))[النساء:42].
وقوله عز وجل: ((خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)) .. ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ))[البقرة:29] آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: ((دحاها))، وقوله تعالى: ((خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ))[فصلت:9] فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين.
((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))[النساء:96] سمى نفسه بذلك، وذلك قوله -أي: لم يزل كذلك- فإن الله عز وجل لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلاّ من عند الله".
أي: كله كلام الله، والله تعالى لا يمكن أن يقع في كلامه اختلاف ولا تناقض.
ثم قال الشاطبي رحمه الله: "والخامس: قول من قال -فيما جاء في الحديث: إن رجلاً قال: يا رسول الله! نشدتك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: صدق؛ اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي في أن أتكلم ... ثم أتى بالحديث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم...} إلى آخر الحديث -: هو مخالف لكتاب الله؛ لأنه قد قال: {لأقضين بينكما بكتاب الله}؛ حسبما سأله السائل، ثم قضى بالرجم والتغريب، وليس لهما ذكر في كتاب الله.
والجواب: إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في (كتاب الله)" أي: أنهم ظنوا أن معنى {لأقضين بينكما بكتاب الله} أي: بالقرآن منطوقاً، وليس الأمر كذلك، قال: بل كل ما كان من حكم الله أو فرض الله فهو كتابه، "فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد، كان مسطوراً في القرآن أولاً، كما قال: ((كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ))[النساء:24] أي: حكم الله فرضه، وكل ما جاء في القرآن من قوله: ((كتاب الله عليكم)) فمعناه فرضه وحكم به، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن.
والسادس: قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء: ((فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))[النساء:25] لا يعقل مع ما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ورجمتِ الأئمة بعده؛ لأنه يقتضي أن الرجم يتنصف، وهذا غير معقول، فكيف يكون نصفه على الإماء؟ ذهاباً منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج، وليس كذلك، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر".
فالإشكال كان بسبب العجمة وعدم الفهم لمعنى المحصنة؛ فإن لها معنيين، الأول: بمعنى المتزوجة، وهذه هي التي ترجم إذا زنت، والثاني: بمعنى الحرة خلاف الأمة، وهذا هو المقصود هنا؛ فإذا زنت الأمة، فعليها نصف ما على الحرة، وبهذا يزول الإشكال.
وبقي إشكال آخر من جهة الرجم؛ فنقول: قد قال بعض العلماء: أن النصف يتعلق بالجلد وحده أو بالحبس، وللعلماء والمفسرين أوجه أخرى في الجمع، وقد تكون صحيحة.
والمقصود الاتفاق على ألاّ تضارب ولا تضاد في كتاب الله، فلا نضرب بعضه ببعض، ولا نضرب السنة بالقرآن، ولا نضرب القرآن بها.