المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ثُمَّ التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تَعَالَى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد أفصح القُرْآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول (الحديد) و(طه) وآخر (الحشر) وأول آلم تنزيل السجدة وأول آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك.
والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد: مثل ما تضمنته سورة: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) و((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)) [آل عمران:64] وأول سورة: (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها وجملة سورة (الأنعام). وغالب سور القُرْآن متضمنة لنوعي التوحيد بل كل سورة في القرآن.
فإن القرآن: إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو التوحيد العلمي الخبري.
وإما دعوة إِلَى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلُّ بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم،
فـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) توحيد((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) توحيد((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))توحيد((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) توحيد ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))توحيد متضمن لسؤال الهداية إِلَى طريق أهل التوحيد الذين أنعم عليهم ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))الذين فارقوا التوحيد] إهـ.

الشرح:-
جرى المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا عَلَى أحد القسمة الاصطلاحية في التوحيد.
فبعض العلماء يقسم التوحيد إِلَى نوعين، وبعض العلماء يقسمه إِلَى ثلاثة، وبعضهم يقسمه إِلَى نوعين باعتبار آخر ووجهة نظر أخرى، وبعضهم يقسمه إِلَى أربعة وغير ذلك.
فأما العلماء الذين قسموا التوحيد إِلَى نوعين ومنها هذه القسمة التي هنا أي: توحيد الإثبات والمعرفة، وتوحيد الإرادة والطلب، وإن شئت فقل: هو التوحيد العلمي الاعتقادي أو التوحيد العملي الخبري.
وليس هناك خلاف بين من يجعل التوحيد ثلاثة أقسام أو قسمين أو أربعة، وإنما كلٌ يقسم باعتبار
.
  1. أقسام التوحيد باعتبار تعلقه بالله تعالى

    فإذا قسمنا التوحيد باعتبار أنه حق الله تعالى، وباعتبار تعلقه بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية توحيد الأسماء والصفات وهذا هو المشهور كثيراً.
  2. أقسام التوحيد باعتبار تعلقه بالعباد

    وأما إذا نظرنا إِلَى التوحيد من جهة تعلقه بنا نَحْنُ كحق لله تَعَالَى علينا فإنه نوعان:
    1-التوحيد الاعتقادي أو توحيد المعرفة والإثبات وهو: أن نثبت لله تَعَالَى ما أثبته لنفسه، ونعتقد له ما أخبر به في كتابه، سواء التوحيد العلمي الاعتقادي، أو توحيد المعرفة والإثبات بالنسبة لنا.
    2-والتوحيد العملي أو التوحيد الإرادي الطلبي فهو: أن نعبده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحده، فنعرفه حق معرفته ونعبده حق عبادته، فلا يغني أحد نوعي التوحيد عن الآخر.
  3. تقسيم آخر لأنواع التوحيد

    ومن ناحية أخرى بعض العلماء يجعل التوحيد قسمين:
    1- توحيد المرسِل.
    2-وتوحيد متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وسورة الفاتحة يجب أن ننتبه لها، وأن نعلم أن هذه السورة ليست مجرد عبارات نكررها حتى تعود كأنها ألفاظ روتينية عادية، وإنما لا بد أن نعي ونتدبر معاني هذه السورة العظيمة.
    ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2] (هذا إثبات لتوحيد الربوبية)، ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين))[الفاتحة:3، 4] إثبات لتوحيد الأسماء والصفات وقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] توحيد الألوهية وقوله: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6] هذا توحيد من النوع الآخر وهو توحيد متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فالصراط المستقيم هو الذي أوصى به الله عَزَّ وَجَلَّ، وهو الوصية العاشرة من الوصايا العشر التي لا يدخلها التغيير ولا يدخلها النسخ مهما تغيرت الشرائع ((َأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ))[الأنعام:153] فلما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خط خطاً واحداً مستقيماً وخط خطوطاً معوجة فقرأ هذه الآية}.
    والخط المستقيم هو: الصراط المستقيم الذي نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ وندعوه أن يهدينا إليه في كل ركعة، ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) وهو السنة الصحيحة التي كَانَ عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومهما اختلفت الأقوال في تفسيره فقيل: القُرْآن أو الإسلام أو السنة أو طريق أبِي بَكْرٍ وعُمَر فمعناها واحد، وهو من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، فهذا توحيد متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك البدع.
    وقوله تعالى: (((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين)))[الفاتحة:7] أي: غير من غلى ومن جفا ومن فرط ومن أفرط وهكذا فاليهود والنَّصَارَى هم قمة في الاتجاهين.
    فـالخوارج والصوفية غلوهم يشبه غلو النَّصَارَى، وأيضا المرجئة تفريطهم يشبه تفريط اليهود، وكذا أهل الكلام -مثلا- مجادلتهم في دين الله عَزَّ وَجَلَّ تشبه مجادلات ومماحكات اليهود مع أممهم ومع كتبهم.
    وإن قلنا إن التوحيد نوعان: فتكون ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))هذا توحيد المعرفة والإثبات، و((ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) إِلَى آخرها توحيد الإرادة والطلب؛ لأن الإرادة والطلب لا تكون إلا بعبادة الله وحده، والاستعانة بالله وحده، واتباع طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده الذي هو الصراط المستقيم، فتكون السورة نصفين عَلَى هذا الأساس أي: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والإرادة والقصد.

    وكما يقول المُصنِّف -رحمه الله تعالى-: إن القُرْآن أفصح عن النوع الأول - توحيد المعرفة- كل الإفصاح، وقد سبق أن شرحنا معنى (المعرفة).
    ومعرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إثبات ما أثبته لنفسه تَعَالَى أو أثبته رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يتعلق بمعرفته، ولا يستلزم منا -عملاً- إلا الإيمان به والإقرار به، وإن كَانَ له أثره عَلَى جوارحنا وعلى أعمالنا.

    وتوحيد الألوهية: هي أوامره علينا، فيأمرنا الله عَزَّ وَجَلَّ أن نصلي له وحده، وأن نذبح له وحده، وأن ننذر له وحده، وكذلك الخوف والرجاء والمحبة وبقية أنواع العبادة، هذا جانب توحيد الألوهية.
    وأما توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد الأسماء والصفات، فإنما يستلزم أو يتطلب منا أن نعرفه، ونؤمن به، ونستيقن، ولا يشترط أن يترتب عليه في ذاته أمر لنا إلا الاعتقاد، فلم يكلفنا نَحْنُ بعمل، لكن كلفنا أن نعتقد أن لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يدين وأن له عينين، وأنه ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة، فنؤمن ونعتقد بها، ونؤجر عَلَى الإيمان بها واعتقادها.
    أما توحيد الألوهية الذي هو توحيد الإرادة والطلب فإنه أعمال؛ ولذلك قلنا التوحيد العملي
    وذاك التوحيد الاعتقادي، فهذا إيضاح لسبب هذه القسمة، ولذلك ذكر المُصنِّف -هنا- أمثلة كما في أول سورة "الحديد"، وسورة "طه"، وآخر سورة "الحشر"، وسورة "السجدة"، وآخر سورة "آل عمران" وسورة "الإخلاص"، وآية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ.
    وآية الكرسي: هي من أعظم الأدلة عَلَى توحيد المعرفة والإثبات، وكذلك تضمنت توحيد الألوهية أو توحيد الطلب والإرادة؛ وهي آية قصيرة أو صغيرة وقد لا يدرك المرء معانيها ولكنها في الحقيقة لم تكن أعظم آية من كتاب الله إلا لحكم عظيمة لو تأملها المسلم لو عرف شيئاً كثيراً منها.
    فآية الكرسي: عبارة عن عَشْر جُمل، كل جملة من هذه الجمل تشتمل عَلَى أصل عظيم، وقاعدة عظيمة فيما يتعلق بمعرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو أن أحداً فهم هذه الآية حق الفهم، وأدرك معانيها حق الإدراك، لعرف حقيقتها وعرف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- معرفة عظيمة بآية واحدة في جمل معدودة، وهذا من عجائب القُرْآن وعظمته، حيث أودع فيه من العجائب ما لا تدركه أكثر الأفهام، مهما نهلت منه ومهما أخذت منه.

    فهذه السور في التوحيد الطلبي والقرآن كله متضمن لنوعي التوحيد:
    توحيد المعرفة والإثبات، كالآيات التي جاءت في الاستواء، والتي جاءت في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل: آخر سورة "السجدة" وأول "الحديد".

    وسورة "الإخلاص"كلها كما قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى، ولذلك صح الحديث {بأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن} لاشتمالها عَلَى نوع من أنواع التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات.
    فالإِنسَان يقرأ سورة: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون))[الكافرون:1] و((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد))[الإخلاص:1] في ركعتي الفجر، وفي سنة المغرب والوتر وكذلك ركعتي الطواف ونحو ذلك، حيث تضمنت هذه السورة توحيد المعرفة والإثبات، وتضمنت سورة: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) توحيد الطلب والإرادة.
    فهناك حكمة في فضل هاتين السورتين، وتكرر قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهما فيما ذكرنا.
    أما التوحيد الثاني الذي ذكره المُصنِّفُ فهو: توحيد الطلب والقصد ودليله مثل قوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) و((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ))الآية [آل عمران:64] التي كتبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أعظم الملوك في الأرض في زمانه وهو هرقل عظيم الروم، وهو الذي كَانَ يمثل قمة وزعامة أرباب أوروبا النصرانية التي تدين بالدين المعروف الذي ينسبونه إِلَى المسيح عَلَيْهِ السَّلام.

    فهذه الآية من الأدلة عَلَى التوحيد العملي وتوحيد الألوهية،وكذلك أيضاً أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عن أهل الكتاب أنفسهم في سورة التوبة حين قَالَ: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه))[التوبة:31] وهنا يقول: ((وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ))آل عمران:64]، فهذه الآية دالة عَلَى أن أهل الكتاب وخاصة النَّصَارَى أعظم ما أضلوا فيه أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فالبابوات والكردينلات والأساقفة والقساوسة والبطاريق يشرعون لهم العبادات من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيطيعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، ولذلك نزلت هذه الآية في حقهم.
    ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في حق أهل الكتاب: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] فإن أهل الكتاب أتاهم الشيطان من هذا الجانب فعبدوا المسيح بن مريم واتخذوه وأمه إلهين، وعبدوا الأحبار والرهبان.
    وكذلك أول سورة: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ))[الزمر:1] ((فإنها تكرر فيها ذكر الإخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ في أولها وفي آخرها))((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:64-66] فهذه الآيات من ضمن الآيات التي جاءت في سورة الزمر تدل عَلَى أفراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعبادة وهو توحيد الألوهية، وكذلك أول سورة يونس وأوسطها وآخرها هي في التوحيد الذي هو توحيد الألوهية، وكذلك أول سورة الأعراف والآيات الأخيرة من السورة، وجملة سورة الأنعام من السور المتميزة المتفردة عَلَى طولها؛ لأنها ناقشت وبحثت وتحدثت عن قضية توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع أنواعه، فجاءت بذكر ما لم يذكر في السور الأخرى من تفصيل لشرك الْمُشْرِكِينَ.
    مثلاً: ذكر في بعض السور أن الْمُشْرِكِينَ عبدوا وأطاعوا من دون الله كما في الآية من سورة التوبة: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ))[التوبة:31] وقوله تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ))[الشورى:21] ونحو ذلك من السور، لكن في سورة الأنعام تأتي الآيات بالتفصيل في بيان ما حرم المُشْرِكُونَ، وما شرعوا من البدع الضالة.
    وفي سورة المائدة: (َ((ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَام)))[المائدة:103] وفي سورة الأنعام تفصيل أكثر: بأنهم حرموا ما رزقهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- واستحلوا المحرمات مثل قتل الأنبياء، وحرموا بعض الأنواع من الأنعام التي لا مجال الآن لتفصيلها، فرد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم بقوله -مثلا في الأنعام-: ((آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ))[الأنعام:143] بمعنى: إما أن يكون التحريم لجنس الأنثى فتحرم كل أنثى، وإما أن يكون التحريم لجنس الذكور فيحرم كل ذكر، وإما أن يكون التحريم لما حمل البطن فيحرم ما حمل البطن جميعاً لكنهم خصصوا.
    وهذا من أعظم الأدلة عَلَى تحريم البدع في دين الله عَزَّ وَجَلَّ، مثال ذلك: لك أن تتصدق بما شئت وتقول هذه الشاة لله تعالى، وهذا المبلغ لله؛ لكن أن تخصص وقتاً معيناً ومبلغاً معيناً لكيفية معينة وتتحرى زمناً معيناً فيها فهذا التخصيص يجعل القضية تخرج من السنة إِلَى البدعة، وإلا لو بقي الأمر عَلَى إطلاقه لدخل في الأدلة العامة ولَمَا كَانَ هناك حرج.

    فسورة الأنعام هي: سورة التوحيد الكبرى التي جَاءَ فيها تحريم اتخاذ غير الله رباً وولياً وحكماً، وهذه هي أصول التوحيد الثلاثة فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الرب الذي يعبد دون من سواه، وهو وحده الولي وهو وحده الحكم الذي يتحاكم إليه، وعلى هذه الثلاث القضايا تدور أكثر السورة بالإضافة إِلَى ما اشتملت عليه من توحيد الأسماء والصفات وتمجيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  4. القرآن كله في التوحيد

    يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
    [وغالب سور القُرْآن متضمنة لنوعي التوحيد] بل إن كل سورة في القُرْآن متضمنة للتوحيد، والقرآن كله في التوحيد فمثلاً: يذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- القصص في القرآن، وقد يذكر ما ليس له تعلق بالأنبياء، كقصة قارون ويحدثنا بالتفصيل عن أحوال الأمم، وهلاك قوم عاد وثمود ونوح وتكذيبهم، وما أجابوا من الرسل وليس فيها أمر صريح بالتوحيد، ولكنه خبر عن حال الذين كذبوا بالتوحيد، وماذا كَانَ مصيرهم لما جحدوا بالتوحيد وأشركوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وكذا الآيات في وصف الجنة، في وصف النار، كما في سورة الإِنسَان، وكذلك في سورة الواقعة، علاقتها بالتوحيد أنها تتحدث عن مصير الموحدين وهو الجنة، وعن مصير الْمُشْرِكِينَ وهو النار، فكل شيء في القُرْآن فهو: إما عن التوحيد في ذاته وإما عن لوازمه ومقتضياته، وكذلك إما عن الشرك في ذاته وحقيقته، وإما عن لوازم الشرك ومقتضياته، وإما عن جزاء أهل الشرك أو جزاء أهل التوحيد
    .
    فذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن القُرْآن إما أخبر عن الله وأسمائه وصفاته مثل سورة: ((قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد)) وآية الكرسي وما أشبه ذلك، وهو التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات أو التوحيد الاعتقادي كلها أسماء لشيء واحد.
    وإما دعوة إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه وهو التوحيد الإرادي الطلبي، فمثلاً: سورة الكافرون والأنعام والزمر هي أمر ونهي وإلزام لطاعته، فآيات تأمرنا بالمحافظة عَلَى الصلاة، وآيات تحث عَلَى الإنفاق وتبين فضل الإنفاق في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وآيات تدل عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالصلاة والزكاة من حقوق التوحيد كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رَسُول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} وقَالَ: {إلا بحقها}.
    وبذلك استدل أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ارتدت العرب فَقَالَ له عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومعظم الصحابة: كيف تقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله} فاستدلوا عَلَى أبِي بَكْرٍ بالرواية المطلقة التي ليس فيها التفصيل واستدل عليهم أبُو بَكْرٍ بقوله: {إلا بحقها} وأن الزكاة حق المال.
    ومثلاً تحدث في سورة يوسف عن سيرة إنسان موحد هو نبي من أنبياء الله، اصطفاه الله تَعَالَى لتتحقق عَلَى يديه هذه الآيات البينات ويدعو إِلَى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَقَالَ في السجن: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39] وأخذ يدعوهم وهم في السجن.
    وأما قصة حسد إخوانه، وكيف ألقوه في البئر، وكيف شروه بثمن بخس، وكيف وقعت له الفتنة مع المرأة وخلصه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ورفعه عن دنس الحرام والزنى، وكيف صار ملكاً، كل هذا حديث عن إكرام من الله لأهل التوحيد.
  5. سعة مفهوم التوحيد

    كل ما ذكر الله في القُرْآن من توحيد سواء في موضوعه من أصله أو مكملاته، كل هذا يدلنا عَلَى أهمية التوحيد من ناحية، وعلى سعة مفهوم التوحيد من ناحية أخرى، فإذا دعونا إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فأول ما ندعو إليه هو توحيد الله، وهو البدء بتصحيح عقائد النَّاس سواء كانوا مسلمين لديهم انحرافات؛ أو كانوا كفاراً يعبدون غير الله، فندعوهم إما إِلَى التوحيد نفسه أو إِلَى تحقيقه وتصحيحه عند الْمُسْلِمِينَ فهذا في أهميه التوحيد.
    والجانب الآخر في سعة مفهوم التوحيد، فإن بعض النَّاس يأخذ أجزاء من التوحيد ويدعو إليها وينسى الأجزاء الأخرى، وهذا لا شك أنه قد أحسن وأنه يجزى عَلَى ذلك أجراً -بإذن الله تعالى- لكن ينبغي أن ندعو إِلَى التوحيد كله كما قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))[البقرة:208]، ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ))[الأنفال:39] فينبغي لنا أن ندعو إِلَى جميع أنواع التوحيد.
    وبعض النَّاس - هداهم الله - قد يكون عن إخلاص أو اجتهاد يدعون إِلَى أن يوحد الله في الألوهية، وأن يطاع وحده، وأن تتبع شريعته وحده ولكنهم لا يريدون الحديث عن توحيد الأسماء والصفات، فنقول لهم: مهلاً -جزاكم الله خيراً- هذا خطأ فكيف تدعون إِلَى جانب من جوانب التوحيد وتتركون الجانب الآخر.
    وأكثر من ذلك أن يأتي فينتقد هذا الجانب من التوحيد وينتقد من يدعو إليه!! وهذا الإِنسَان في الحقيقة يخشى عليه لأن المسألة حرب أو إنكار لنوع من أنواع التوحيد هي في غاية الخطورة، ولولا ما نعرفه أنه قد يكون بعضهم قصده حسناً وهو جاهل به لكان حكمهم أصعب مما يظنون، لأن هذا محاربة لنوع من أنواع التوحيد.
    وبعض النَّاس يدعو إِلَى توحيد الأسماء والصفات -مثلاً- أو إِلَى جانب من جوانب الألوهية، ويترك جوانب أخرى، فمثلاً يدعو إِلَى نبذ الشرك والتقرب والتنسك لغير الله عَزَّ وَجَلَّ كشرك الدعاء وما أشبه ذلك، ويهمل بالكلية مثلاً شرك الطاعة وشرك الاتباع.
    فكما نفرد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعبادة وبالطاعة وبالتقرب معاً، فكذلك ندعو إِلَى توحيده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالطاعة والاتباع، فلا يحاكم إِلَى غير شرعه، ولا تتبع غير شرعته، ولذلك جاءت الآيات بنفي الإيمان عمن تحاكم إِلَى غير شرع الله فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((اَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه))[النساء:60] فدلت هذه الآية عَلَى أنه لا يتحاكم إلا لشرع الله وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يتحاكم إِلَى أي قانون بشري أو نظام وضعي أبداً فإن هذا من الشرك بالله، مثَلُه في ذلك مثل من يعبد غير الله عند قبر فيدعوه أو يتوسل بصاحبه، فالشرك في هذا كالشرك في هذا.
    فيجب أن ندعو إِلَى التوحيد بشموله، وكماله الذي يجتث هذه الأمراض والأخطاء والجزئيات الكثيرة، التي لو ذهبنا نعالجها لتفانت الأعمار ولم تعالج، لكن إذا عولج الأصل وهو أن يدعى إِلَى الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، وأن يوضح الإيمان بالله، وتوحيد الله كاملاً، فسنجد أن المسلم الذي يعبد الله وحده تتكامل شخصيته بتكامل حقيقة التوحيد في قلبه.