المادة    
  1. الغاية العظمى لإرسال الرسل هو توحيد الألوهية

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    (وإذا كَانَ توحيد الربوبية، الذي يجعله هَؤُلاءِ النظار، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد: داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل -عليهم السلام- ونزلت به الكتب، فليعلم أن دلائله متعددة كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول، فإن العلم كلما كَانَ النَّاس إليه أحوج كانت أدلته أظهر، رحمةً من الله بخلقه.
    والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القُرْآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
    وما كَانَ من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها، ولم يحتج إِلَى الاستدلال عليها، والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القُرْآن بخلاف ما يدعيه الجهال، الذين يظنون أن القُرْآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه.
    ولما كَانَ الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند النَّاس كلهم، باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض الْمُشْرِكِينَ إِلَى أن ثُمَّ خالقاً خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدُّهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هَؤُلاءِ يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مُشْرِكُونَ في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك، فلما كَانَ هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بيَّن القُرْآن بطلانه، كما في قوله تعالى: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[المؤمنون:91] فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إِلَى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كَانَ معه -سبحانه- إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر عَلَى قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر عَلَى ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم عَلَى قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد ثلاثة أمور:
    إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
    وإما أن يعلو بعضهم عَلَى بعض.
    وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.
    وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره، من أدل دليل عَلَى أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه. كما قد دل دليل التمانع عَلَى أن خالق العالم واحد، لا رب غيره ولا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان، فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية] اهـ.

    الشرح:
    هذا المقطع الطويل كله في بيان حقيقة توحيد الربوبية، ويبدؤه المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ ببيان أنه إذا كَانَ توحيد الربوبية الذي يجعله بعض النظار أو المتكلمين هو الغاية؛ فإن التوحيد الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء -وهو توحيد الألوهية- متضمن لهذا التوحيد، بمعني: أن توحيد الربوبية داخل في توحيد الألوهية، فكيف تجعلونه غاية وهي داخلة في الغاية العظمى التي دعا إليها الأَنْبِيَاء وهي التوحيد الحقيقي توحيد الألوهية؟! ثُمَّ يقول: إذا علم ذلك وأن هذا التوحيد داخل في ذلك التوحيد، فينبغي أن يعلم أن دلائل ذلك التوحيد -أي توحيد الربوبية- كثيرة مثلما أن دلائل توحيد الألوهية كثيرة، وأن دلائل صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرة، والدلائل عَلَى أن القُرْآن حق كثيرة، ثُمَّ يقول المُصنِّف في تعليل كثرة الأدلة عَلَى توحيد الربوبية:
    إن العلم كلما كانت الحاجة إليه أكثر، كلما كَانَ دليله أظهر وأقوى رحمة من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بخلقه، فإن أمور العقيدة الدقيقة التي لا يحتاج إليها كل إنسان لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وأدلتها تحتاج إِلَى تتبع وقراءة ودراسة ونظر، ولكن الأمور العظمى والكبرى التي يترتب عليها كون الإِنسَان مؤمناً أو كافراً، يدخل الجنة أو يدخل النار، فمن رحمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه أوضحها وأظهرها وجلاها لعباده، فجعل الأدلة عَلَى توحيد الربوبية كثيرة جداً في الكون وفي الآفاق وفي الأنفس.
    إلا أنه قد يقال كما يقول هَؤُلاءِ النظار: أين الأدلة البرهانية في القُرْآن عَلَى توحيد الربوبية أي: الأدلة العقلية فقط.
    عندما يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ))[الغاشية:17] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))[يونس:6] في الآيات الكونية، فعندما يقول: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))[الذاريات:21] وغير ذلك يقولون: هذه الآيات عيانية يعني: تشاهد بالعين والنظر، فهل جَاءَ في القُرْآن براهين نظرية يقينية عقلانية نفحم بها الفلاسفة ونسكت بها الملاحدة؟ فنقول لهم: إن الإعجاز العظيم والمعجزة العظمى التي جَاءَ بها القرآن، هو الإعجاز اليقيني قبل أي نوع من أنواع الإعجاز، والإعجاز اليقيني وبلاغته التي هي من أعظم أنواع الإعجاز الذي خرصت العرب أمامها، ما هي إلا وسيلة للإعجاز اليقيني، وهو أن هذا القُرْآن جعله الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هداية مطلقة لا ضلال معها أبداً، وما من شهوة إِلَى قيام الساعة وإلا في القُرْآن ما يعالج هذه الشهوة، وما من بدعة ولا انحراف إلا وفي القُرْآن ما يدل عَلَى بطلانه، وبيان ضرره وانحرافه أوضح وأجلى بيان، علمه من علمه وجهله من جهله.
    فالقرآن إنما جَاءَ بياناً وهدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، شفى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به القلوب، وقضى عَلَى الشكوك والريب، فلا تجد إنساناً في أي دين من الأديان غير هذا الدين يعبد عَلَى ثقة واطمئنان قلبي أبداً، بل يتردد ويتشكك، ولهذا يوجد من كبار علماء اليهود والنَّصَارَى وأحبارهم من يفكر ثُمَّ يلحد ويترك دينه نهائياً، ويوجد منهم من يفكر ثُمَّ يدخل في الإسلام أو ينقلب إِلَى أي دين غير دينه، ولكن لم يوجد -ولله الحمد- فيمن رسخ إيمانه في هذا الدين من يرتد إِلَى دين آخر أبداً، لأن هذا الدين دين اليقين، وكل من يعبد الله بغير دين الإسلام فإنه في شك مما يعبد، ولو أنه حكم عقله لعرف أنه لا يعبد حقيقة إلا وفق آراء بشرية ومكتوبات إنسانية، إلا المؤمن فإنه يعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى بينة وبرهان وطريق مستنير واضح.
    فمعنى قول المصنف: إن هذه الشبهة التي يزعم بعض النظار انهم يدافعون بها عن الإسلام، لأن القُرْآن إنما جَاءَ بالأدلة الخطابية والأدلة العيانية، ويقولون: نَحْنُ نزيد ونضيف فندافع عن الدين بالقضايا العقلية، قد يكون هذا قول بعضهم، وإما أن يكونوا ملاحدة ينكرون ما في القُرْآن لأنه لم يأت بهذه القواعد، وكلاهما عَلَى خطأ، وإن كَانَ هَؤُلاءِ كفار وأولئك مخطئون، لكن نقول كما قال المصنف: إن القُرْآن تضمن هذه الأدلة وجاء بأوجز وأعظم الأدلة البرهانية، فإن من أعظم ما تسمونه البراهين النظرية أن تقولوا مثلاً: العالم متغير وكل متغير حادث وكل حادث لا بد له من محدث، إذاً فالله موجود وهو المحدث لهذا الكون، هذه التي يسمونها براهين تقوم عَلَى مقدمات، وطريقة القُرْآن تأتي في أجلى وأوضح أنواع الاستدلال، بحيث تحذف المقدمة الضرورية المعلومة.
    فمثلاً: كون الكون متغيراً فهذه معلومة بدهية كل النَّاس يعرفونها، يتغير الليل والنهار والحياة والموت والمطر والجفاف، فالشيء البدهي المعلوم يستدل به ولا يستدل عليه، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما كَانَ توحيد الربوبية بدهياً معلوماً، استدل به عَلَى توحيد الألوهية الذي فيه النزاع.
    فالقرآن يجمع بين غاية الإعجاز اليقيني وغاية الإعجاز البلاغي العلمي في الأسلوب، فلا يصل به إِلَى الحق واليقين بعد مقدمات طويلة لا ثمرة ولا فائدة من ذكرها، فمثلاً العرب في الجاهلية كانوا يعظمون الشعر، ولذلك تجد المعلقات العشر، ولما فيها من البلاغة وقوة التعبير كتبوها وعلقوها في الكعبة، وسميت المعلقات لعظمتها ونفاستها، فالعرب أمة بيان يهمها البيان، فلما أنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا القُرْآن الذي جَاءَ بالهداية، تضمنه كلام معجز لا يستطيع العرب ولا الإنس ولا الجن ولو اجتمعوا وكان بعضهم ظهيراً لبعض، أن يأتوا لا بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة من مثله أبداً، فلما سمع أعرابي قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة يوسف:((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)) [يوسف:80] ما كَانَ منه إلا أن نزل من فوق البعير وسجد، وهو لم يؤمن ولم يدر أن في القُرْآن شيء اسمه سجود فتعجبوا وَقَالُوا: ما لك؟ قَالَ: والله هذا ليس من كلام البشر أبداً، فالجملة موجودة في كلام العرب (استيأس وخلص والنجوى والنجيء) لكن لم يوجد عَلَى الإطلاق في كلام العرب لا شعراً ولا نثراً أن جَاءَ بهذا المعنى ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)) في ثلاث كلمات تدل عَلَى معنى طويل جداً، تدل عَلَى أنهم جادلوا الملك -الذي هو يوسف وهم لا يعرفونه- حتى تعبوا ثُمَّ اتفقوا عَلَى أنهم يخرجون إِلَى مكان بعيد ثُمَّ أخذوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نفعل؟ كل هذه المعاني التي هي عبارة عن عدة حلقات أو عدة فصول من الحديث والنقاش جاءت في هذه الكلمات الموجزاة، فلذلك لم يملك الأعرابي إلا أن نزل من عَلَى ظهر البعير وسجد وقَالَ: والله لا يكون هذا من كلام البشر أبداً.
    والأعرابي الآخر الذي كَانَ يطوف وسمع القارئ يقرأ: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ))[الذاريات:21-23] فعجب وقَالَ: من أغضب الجبار؟! من أغضب الجبار؟!، هذا الكلام الذي لم يعهدوا مثله يأتي باليقين إِلَى قلوبهم، حتى أنه لا يحتاج إِلَى تأكيد ولا يمين فَيَقُولُ: من الذي أغضب الجبار حتى أقسم فقَالَ: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ)) فمجرد أن سمع ذلك أيقن أنه حق ولا مجادلة فيه.

    والآية التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)) [المؤمنون:91] هي حقيقة يقررها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه ما اتخذ الله من ولد -كما يقول اليهود والنَّصَارَى ((وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)) كما يقول جميع الْمُشْرِكِينَ "إذاً" نلاحظ الكلمة -كلمة "إذاً"- أي: لو كَانَ كذا وكذا ((إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[المؤمنون:91] أي: لو افترض وجود ولد أو إله مع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الحقيقة - كما تزعمون - لحدث الذي يحدث في حال ملوك الدنيا وهو مشاهد أنهم يتغالبون، ويحاول الملك أن يأخذ ما تحت قبضة الملك الآخر ليتفرد وحده بالملك، فإن عجز عن المغالبة فإنه ينفرد بملكه، ويتصرف في مملكته، ويتصرف الآخر في مملكته، فانتظام أمر العالم واتساقه واتفاقه ينبيء ويشعر ويدل عَلَى أن مدبره واحد وهو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أما التعارض والتصادم والاختلاف فهو الذي ينبيء ويشعر بأن هناك عدة آلهة وأنَّ كلاً منهم يملك جزءاً من هذا الكون، وحينئذ فلا بد إما أن يكون هذا الإله يغالب الإله الآخر وإما أن يتفرد بجزء من الكون، وإما أن يكون لا وجود له بل يغلبه الإله الآخر ويأخذ ما عنده.
    فالنتيجة أن المتفرد واحد، وما دام أن الكون عَلَى انتظام ولم يحدث أية تعارض ولا تصادم فيه، فالإله واحد -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما يضرب علماء الفلك لذلك فيقولون: إن احتمال أن يتصادم نجم مع آخر في المدارات التي تدور فيها النجوم مثل احتمال أن تصطدم سفينة تمخر في المحيط الهادي بسفينة أخرى في المحيط الأطلسي، فلا يمكن عَلَى الإطلاق أن تصطدم سفينة في هذا المحيط بسفينة في المحيط الآخر، بل لو لم يكن بينهما إلا مسافة مائة ميل أو عشرة أو ميل واحد لما اصطدمتا، ما دام أن كلاً منها يتجه في اتجاه، فكيف إذا كانت هذه في محيط وهذه في محيط، هل يتصور أنهما تتصادمان؟!
    ويقولون: إن هذا مثال بسيط للنجوم في مداراتها لا يتصور أن يصطدم نجمان عَلَى الإطلاق مع كثرة هذه المجرات والمجموعات ضمن المجرات التي لم يصلوا بعد إِلَى عمقها وإلى نهايتها، فهذا دليل عَلَى أن خالقهم واحد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وقد سبق أن الشرك في الربوبية وإن كَانَ ممتنعاً بإطلاق، لكن توجد أنواع من الفرق مثل الثنوية الذين يقولون: إن الظلمة إله والنور إله، وهم مقرون في النهاية -كما سبق- بأن الإله الواحد والإله الحقيقي هو النور وهي الديانة الإيرانية القديمة.
    والقدرية في أفعال الحيوان يقولون: إن الإِنسَان يخلق فعل نفسه والله لم يخلق أفعال العباد الاختيارية وإنما خلق أفعالهم غير الاختيارية -تعالى الله عن ذلك- هذا أيضاً نوع خفي من الشرك في الربوبية.
    وكذلك شرك الفلاسفة الدهرية الذين يقولون: إن الأفلاك بعضها يحرك بعضاً، فيثبتون وجود الله لكن يجعلونه وجوداً مطلقاً لا تأثير له في الكون، وأن الأفلاك بعضها يحرك بعضاً، فيقولون مثلاً: هذه الأفلاك تؤثر في المصائب والنكبات والزلازل والفتن، فإذا تحرك الكوكب واتجه اتجاهاً معيناً قالوا: سيذهب ملك فلان ويقوم ملك لفلان، سيموت كذا من الأمة، ويأتي كذا من الغيث، ويعتقدون أن هذه الأمور تكون بتدبير من الأفلاك،
    كل هذه الأفكار هي أنواع من الشرك في الربوبية، ولذلك جاءت الأدلة في القُرْآن لتنفي هذا الشرك، والأصل أن يستدل بنفي الشرك في الربوبية عَلَى تقرير حقيقة الألوهية وهذا هو الأهم.
    ويقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [كما قد دل دليل التمانع عَلَى أن خالق العالم واحد] فهذا الدليل كذلك يدل عَلَى أن الإله أو المعبود واحد.
    فهذا الدليل العقلي البرهاني -كما يسمونه-: عَلَى أن خالق الكون واحد. وهناك شيء مهم يجب أن يفهم في كلمة الكون أو الفساد، فالكون نعني به: العالم كله، نقول: في الكون كذا أي في العالم، والفساد هو البطلان أو هو ضد الصلاح.
    وأما اصطلاح الفلاسفة عندما يقولون الكون والفساد يقصدون بالكون: الوجود أو الإيجاد، ويقصدون بالفساد ضد ذلك وهو العدم، وأصل المعنى اللغوي للكون هو: كَانَ يكون كوناً أي وجد يوجد وجوداً، فالكون والوجود لهما معنى عند الفلاسفة أكثر اصطلاحاً من المعنى اللغوي الذي نَحْنُ نستخدمه، وهذا هو سبب ضلالهم في قول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:22] فظنوا أن الفساد هو العدم، فيقولون: لو كَانَ هناك أرباباً لم يوجد الكون؛ لأن هذا الإله يريد أن يخلق والآخر لا يريد أن يخلق فتتعارض إرادتان فيكون الذي تحققت إرادته هو الإله، ولهذا رد عليهم المُصنِّفُ في هذه الآية كما سبق.
  2. التفسير الصحيح لقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدتَا

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:22] وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كَانَ للعالم صانعان.. الخ. وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كَانَ فيهما آلهة غيره. ولم يقل أرباب.
    وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كَانَ فيهما -وهما موجودتان- آلهة سواه لفسدتا.
    وأيضاً فإنه قَالَ: (لَفَسَدَتَا) وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا، ودلت الآية عَلَى أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحدا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كَانَ للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السماوات والأرض، وأظلم الظلم عَلَى الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد] اهـ.

    الشرح:
    هذه الآية: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:22] دلالتها عظيمة عَلَى توحيد الألوهية.
    وهي برهان عقلي، لا كما يظنون أنها برهان التمانع أو دليل التمانع بمعنى أنه دليل لوجود الله فقط.
    وذلك: أولاً: أن الله قَالَ: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ))ولم يقل: (لو كَانَ فيهما أرباب).
    وثانياً: الكلام إنما هو بعد وجود السماوات والأرض فلو كَانَ فيهما هاتين الموجودتين آلهة غير الله لفسدتا وليس الكلام قبل أن توجدا -كما يقولون- وأن الفساد عندهم: هو عدم الوجود والكون: هو الوجود.
    وثالثاً: قوله: (لفسدتا) فلو فرضنا أن الفساد هو عدم الوجود فالآية تقول: لو كَانَ فيهما آلهة غير الله -عَزَّ وَجَلَّ- لفسدتا فعلى كلامكم: لو كَانَ هناك أرباب أخرى لبطل وجود السماوات والأرض؛ لأن الفساد عدم الوجود.
    فأنتم تقولون: إنها دليل عَلَى أن الخالق في الابتداء هو واحد، والآية تتكلم عن شيء قد خلق ووجد، والفساد الذي يحصل فيه يكون بعد وجوده وخلقه، فهذا يوضح أنها ليست دليل التمانع الذي يقولون، وإنما هي دليل للألوهية
    وأنه متى عبد غير الله عَزَّ وَجَلَّ في السماوات أو في الأرض فإن الفساد يقع الذي هو ضد الصلاح، لأن السماوات والأرض لم تقم إلا بالعدل، وأعظم العدل هو التوحيد، وأعظم الظلم هوالشرك: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))[لقمان:13] أي: أكبر الظلم.
    فانتظام السماوات والأرض وصلاح أمر السماوات والأرض، لا يكون إلا بأن يكون المعبود هو الله، وليس فقط أن نقول أن الذي أوجدها هو الله، وقد قلنا: إن السماوات لا فساد لها؛ لأن المعبود فيها واحد -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه))[الزخرف:84] أي: هو الذي في السماء معبود، وفي الأرض معبود؛ لكنه في السماء معبود وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليس ثُمَّ شرك بالله تعالى، فالملائكة كلهم عباد الرحمن المكرمون يعبدونه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20].
    وأما الأرض ففيها يقع الفساد، ولذلك قالت الملائكة منذ اللحظة الأولى: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ))[البقرة:30] لأن الأرض مكان يتوقع فيه وقوع عبادة غير الله كالإشراك بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا أعظم الفساد، لكن لو انتظم أمر النَّاس في هذه الأرض، فلم يعبدوا ولم يطيعوا إلا الله ولم يتبعوا إلا أوامر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لانتفى الفساد من الأرض، مثلما انتفى من السماء؛ ولكن حكمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، حكمة الله أنه لا يزال إيمان وكفر وصلاح وفساد، ولذلك شرع الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الجهاد ليدفع النَّاس بعضهم بعضاً وليدفع شر أهل الشر بقوة الحق عند أهل الإيمان؛ ولذلك كانت الأرض هي مكان التكليف والتعبد، وأما الذين في السماء فإنهم يعبدونه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دائماً وأبداً بلا جزاء ولا ثواب، لأنهم لم يكلفوا بأمر يترتب عليه دخول الجنة أو دخول النار.
    وهذه الآية عَلَى وجازة لفظها تدل وتبين أن صلاح العالم كله إنما يكون بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يطاع وحده لا شريك له، ولننظر إِلَى واقع العالم اليوم -مثلاً- في حق النساء جعل الله للمرأة أعمالاً ومهمات محددة تعملها، ولا تتعداها، وجعل خروجها عن ذلك فساداً في الأرض وخروجاً عما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلما ترك النَّاس أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في هذا الموضوع واتبعوا أمر غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأُخرجت المرأة -كما في العالم الغربي وأكثر العالم الإسلامي- عن العمل الذي شرعه -اللهُ سُبْحَانَهُ- واتبعت أهواء وأقوال الشياطين ودعاة الضلالة، كم حصل من الفساد؟‍‍
    وكم حصل من الشرور؟‍
    وتجدون أن الأمراض في العالم الغربي ومن قلده كلها ترجع إِلَى أن الأسرة متفككة، ‍وأن المرأة خرجت لتعمل مثل الرجل، والكفار أنفسهم مقرون بذلك.
    فلو كَانَ الله هو وحده المعبود المطاع واتُبعت أوامره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما كَانَ إلا الصلاح والخير، ولما وجد هذا الفساد في الأرض بإطلاق.
    وكذلك القتل فالعالم يموج ويضطرب بالقتل، لا يكاد يمر يوم إلا والقتلى بسبب حروب أو انفجارات أو تدميرات، لأن الله ليس هو وحده المعبود -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بل اتخذوا آلهة من دون الله، فأطاعوا أحباراً ورهباناً أرباباً أو زعماء من دون الله -سُبْحَانَهُ- ومن هنا كَانَ الفساد والاضطراب في الأرض.
    ولذلك فهذه الآية عَلَى قلة ألفاظها تدل عَلَى هذه المعاني كلها وأنه ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:22] فالفساد الواقع في الأرض اليوم إنما هو نتيجة أن المحكم هو غير شريعة الله -سُبْحَانَهُ- فجميع الشرور التي في العالم هذا مصدرها وهذا سببها.
  3. توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لا يقدر عَلَى أن يخلق يكون عاجزاً. والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً قال تعالى:((أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ))[الأعراف:191].
    وقال تعالى: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))[النحل:17].
    وكذا قوله تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً))[الإسراء:42] وفيها للمتأخرين قولان:
    أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إِلَى مغالبته.
    والثاني: وهو الصحيح المنقول عن السلف كـقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه، كقوله تعالى: ((إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً))[الإِنسَان:29].
    وذلك أنه قَالَ: ((لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ)) وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء وَقَالُوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))[الزمر:3] بخلاف الآية الأولى] اهـ..

    الشرح:
    هذه الكلمة مهمة وهي قول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس] فإن من أثبت أن الله خالق رازق محي ومميت، لا يلزم منه ولا يتضمن أنه مفرد وموحد له بالعبادة وبالطاعة، وهذا هو المهم في العلاقة بين التوحيدين، وفي بيان أن توحيد الألوهية هو الأهم.
    وأما قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً))[الإسراء:62] فهي أيضاً تتضمن برهاناً يقينياً عَلَى أن الإله المعبود واحد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكأنه يقول: لو كَانَ معه آلهة كما يقولون أو كما يزعمون إذاً لابتغوا إِلَى ذي العرش سبيلاً، فالمُشْرِكُونَ يثبتون ذا العرش الإله الأعظم أو الإله الأكبر -كما يسمونه- الذي هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويثبتون معه آلهة أخرى هي شفعاء وتقرب إِلَى الله -سبحانه- وهي واسطة ووسيلة إِلَى الله سبحانه -كما يقولون- فيرد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم فَيَقُولُ: لو كَانَ هَؤُلاءِ الآلهة موجودين -كما تزعمون- لابتغوا إِلَى ذي العرش سبيلاً.
    وفي معنى:((لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا)):
    يقول بعض المفسرين: أي لابتغوا طريقاً إِلَى مغالبته، أي: لو كَانَ هناك آلهة لغالبوا ذا العرش حتى يكونوا هم الآلهة الكبرى، ولكن هذا المعنى مرجوح.
    والمعنى الصحيح: أنه لو كَانَ هناك آلهة غير الله سبحانه ممن تعبدون لابتغوا إِلَى ذي العرش سبيلاً، أي: لابتغوا التقرب والتعبد والتزلف إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما في الآية الأخرى: ((إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)) [الإِنسَان:29] كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة))[المائدة:35] وكما في قول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ))[الإسراء:57] فالمعبودون من الملائكة والأنبياء والأولياء الصالحين لله -سبحانه- هم يبتغون إِلَى الله سبيلاً.
    فأنت تقول: أنا أتخذهم وسيلة إِلَى الله، بينما هم أنفسهم يتخذونه وسيلة إِلَى الله بالعبادة والعمل الصالح والخوف والرجاء والتقرب إليه، فعليك أن تتخذ أنت وسيلة إِلَى الله أيضاً.
    وأما الأحجار والأشجار والأبقار والنَّار وكل ما يعبده المُشْرِكُونَ من دون الله مما لا تملك شيئاً ولا تفقه شيئاً، فهَؤُلاءِ لو كانت لهم إرادة في هذا الأمر -مثلاً- لتقربت هي إِلَى الله واتخذت الوسيلة إليه؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له وحدة الربوبية والألوهية لجميع المخلوقات فلا معبود سواه أبداً، فلو كَانَ هناك آلهة أخرى لكان شأنها أن تتقرب هي إِلَى الله سبحانه.
    إذاً؛ لا توجد آلهة من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا من الأدلة عَلَى أن هناك آيات في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- لها كلمات موجزة، تتضمن من الدلائل اليقينيات والبرهانيات ما يعجز العقل عن تصوره.