المادة كاملة    
ما زال هذا الدرس يتحدث عن قضية تسلسل الحوادث، ومن خلال هذا تكلم عن بداية الخلق من خلال حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الذي استدل به ابن أبي العز، وبعد هذا تمّت مناقشة كلام الفلاسفة في قضية تسلسل الحوادث.
  1. التسلسل

     المرفق    
    فالقسمة العقلية المجردة النظرية تقتضي أن تكون المذاهب في هذا الموضوع أربعة، ولكن الموجود منها ثلاثة:
    القول الأول: -وهو أضعفها- أنه لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة.
    وهذا القول تفرد به الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف، وهو قول شاذ حتى عند جميع أهل الملل، والفلاسفة، واليهود، والنَّصارَى، فلم يقولوا: بأن الحوادث لا تدوم لا في الماضي ولا في المستقبل، وينبني عليه أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن خالقاً، ولا متكلماً، ولا فعالاً لما يريد في زمن من الأزمان، ثُمَّ حدث له ذلك - كما يقولون - فانتقل الأمر من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، ومن ذلك قولهم: إن الجنة والنَّار تفنيان، وعالم الملأ الأعلى يفنى.

    والقول الثاني: يمكن دوامها في المستقبل الذي لا آخر له، ويسمى الأبد، ولا يمكن دوام نوع الحوادث في -الزمن الذي لا أول له- الأزل.
    وهَؤُلاءِ هم الكرامية والأشعرية والشيعة وبعض المعتزلة وبعض المنتسبين للمذاهب الأربعة، يقولون: لم يكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الماضي خالقاً، ولا رازقاً، ولا مُحيياً، ولا مميتاً؛ لأنه لم يكن هناك خلق يخلقهم، ولا يرزقهم، ولا يحييهم أو يميتهم قبل أن توجد هذه الحوادث، وأما في المستقبل فالإمكان وارد؛ لأن أهل الجنة وأهل النَّار يبقون أبد الآبدين ولا يفنون.

    القول الثالث: وهو الذي عليه أكثر أهل السنة والحديث من العلماء، وهو الذي انتصر له الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللهُ-: وهو أن أنواع الحوادث دائمة عَلَى طرفي الزمان بحسب الماضي والمستقبل، وهناك فرق بين هذا القول وبين قول الفلاسفة فإنهم يقولون: إن الكون أو بعضه، أو الأفلاك، أو العقول العشرة التي سماها أفلاطون، وما أشبه ذلك، قديمةٌ كقدم الله تعالى، ويسمونه واجب الوجود أي: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    إن الأفلاك أو العقول أو هذا الكون المشهود إذا قيل:إنه لا أول له، هو كفر، وتكفر به الفلاسفة، ومنهم: ابن سينا والفارابي وأمثالهم.
    وأما أهل السنة فإنهم لا يتكلمون عن عين من أعيان المخلوقات، فلا يقولون: العرش قديم، ولا القلم قديم أي أزلي، وإنما يقولون: الجنس -جنس الحوادث- وأما الأعيان فكل مخلوق بذاته فهو مخلوق خلقه الله بوقت ما، وسيفنيه متى شاء.
    فنفترض أن هذا المخلوق كَانَ قبله شيء مخلوق وكلها مخلوقة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي ابتدأ خلقها لا أحد سواه، أما هو جل شأنه. فإنه لا شيء قبله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    القسم الرابع: قلنا: إنه لم يقل أحد أنه يمكن أن تكون الحوادث لا أول لها في الماضي، ولا يمكن أن تكون في المستقبل، والقسم الرابع قسمة عقلية لم يقل به أحد.
    والمسألة طويلة ومعقدة، وتعتمد عَلَى قضايا كثيرة لا يستطيع العقل أن يستوعبها، مثل: قضية الأزل، وتصور شيء لا أول له.
    والزمان مخلوق من مخلوقات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نقدره في الأرض بالليل والنهار الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا، لنعرف بها مواقيت عبادتنا والآجال والأعمار.
    ولو تصورنا ما معنى الأزل قبل أن تخلق السماوات والأرض، وكيف يكون الزمان بعد أن تفنى السماوات والأرض وتكور الشمس والقمر، لأدركنا حينئذ أننا لا ندري حقيقة الزمان، ولا نستطيع أن نفهمها، ومع ذلك فإنه مما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    والفخر الرازي المتوفى في أوائل القرن السابع، - إمام الأشعرية في عصره، وحوى وتبحر في العقليات والكلام الشيء الكثير -، فكتب كتاباً أسماه المباحث المشرقية وهو كتاب مطبوع وذكر عشرة براهين في نفي حوادث لا أول لها، وأنه لا يصلح القول: بحوادث لا أول لها.
    فجاء شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولم يكن قصده أن يرد عَلَى الفخر الرازي، لكن جَاءَ الذي سمى نفسه ابن المطهر الحلي وهو رافضي أبعد شيء عن الطهارة في الاعتقاد والعمل، فألف كتاباً أسماه " منهاج الكرامة " فأخذ ابْن تَيْمِيَّةَ يستعرض أقواله، فلما جَاءَ بمسألة الحدوث تطرق للبراهين العشرة التي للرازي، فنقضها شَيْخ الإِسْلامِ نقضاً طويلاً.

    وما ذكره المُصنِّفُ هنا في هذه المواضع إنما هو اختصار لها.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تَعَالَى مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من الْمُسْلِمِينَ واليهود والنَّصارَى وغيرهم.
    ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً -لفاعله لم يزل ولا يزال معه- ممتنع محال ولما كَانَ تسلسل الحوادث في المستقبل. لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء، ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: ((قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) [آل عمران:40] وقال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد)) [البقرة:253] وقال تعالى: ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:15، 16] وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه)) [لقمان:27] وقال تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) [الكهف:109]، والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذ فإذا كَانَ النوع دائماً، فالممكن والأكمل هو التقدم عَلَى كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه. وأما دوام الفعل، فهو أيضاً من الكمال، فإن الفعل إذا كَانَ صفة كمال فدوامه دوام الكمال] اهـ

    الشرح:
    كل من يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أصحاب الملل، كاليهود والنَّصارَى والمجوس من الفلاسفة ومن غيرهم، يقولون: بأن كل ما سوى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو مخلوق، ومع ذلك يقولون بدوام نوع هذه المخلوقات إِلَى ما لا نهاية له في المستقبل، كما قلنا: إن الجنة والنَّار تبقى إِلَى الأبد، وهذا لا ينافي أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الآخر كما جَاءَ في الحديث: {وأنت الأخر فليس بعدك شيء}، فإذا أمكن ذلك، فما المانع من مقابله أيضاً، أن يكون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومع ذلك فإن نوع حوادث المخلوقات قديم.
    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ ولم يزل فعالاً لما يريد، متكلماً كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) [آل عمران:40] ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد))[البقرة:253] ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16] وهناك آيات متعلقة بكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه)) [لقمان:27]، والكلمات هي أوامر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي تكون بها المخلوقات وغير ذلك، فهذا دليل عَلَى أن أفعال الله وكلماته لا تتناهى أزلاً ولا أبداً، وهذا من صفات كماله سبحانه.
    وإنما يكون النقص والعيب لو أننا افترضنا مخلوقاً من مخلوقاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متقدماً عليه أو متأخراً عنه، وأما القول بأن كل مخلوق يخلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثُمَّ يفنيه إذا شاء أن يفنيه؛ فهذا لا يقتضي نقصاً، بل النقص أن يقَالَ: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن متكلماً، ولم يكن مريداً لما يشاء في ذلك الزمن سواء كَانَ الأزل أو الأبد.
    فالكمال الذي نريد إثباته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو: أنه فعال لما يريد، متكلم بما يشاء في أي زمن من الأزمان، ونفي ما سوى ذلك هو النقص، إذا افترضنا أنه كَانَ ممتنعاً عليه من الكمال.

    ثُمَّ ابتدأ المُصنِّفُ يرد عليهم في قولهم: إن هذا يلزم منه التسلسل.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [قالوا: والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إِلَى واجب وممتنع وممكن.
    وكالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إِلَى غاية.
    والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له.
    وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال. وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تَعَالَى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل.
    وأما التسلسل الممكن، فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف. كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً -وذلك من لوازم ذاته- فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم عَلَى كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن] اهـ

    الشرح:
    أولاً: كلمة التسلسل ليست كلمة شرعية، فلم ترد في الكتاب ولا في السنة لا بنفى ولا إثبات حتى نراعيها، لأن اللفظ الذي يجب علينا أن نراعيه هو ما جَاءَ في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما جَاءَ في الكتاب نفيه يجب أن نراعي نفيه دائماً، وما جَاءَ في الكتاب إثباته فيجب أن نراعي إثباته دائماً، لكن ما لم يأت نفيه ولا إثباته فنحن ننظر فيه ونقيسه بالمقاييس الشرعية الكتاب والسنة، فإن كَانَ الأمر يقتضي نفيه نفيناه، وإن كَانَ الأمر يقتضي إثباته نثبته، وإن كَانَ فيه تفصيل فصلنا.
    وهذه الكلمة مما فيه تفصيل، فنقول: لا نطلق القول بأن التسلسل ممنوع، فإنا لو نظرنا إِلَى ما في الكتاب والسنة من البراهين لوجدنا أن التسلسل ثلاثة أقسام، وترد عليه الأحكام الثلاثة وهي: الوجوب أو الامتناع أو الجواز.
    وهذه الأحكام يسمونها: "الأحكام العقلية الثلاثة التي ترد عَلَى كل شيء"، فإما أن يكون واجب الوجود، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، أي: جائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد.
    وهذه الأحكام العقلية الثلاثة ترد عَلَى التسلسل، فمنه واجب يجب أن نثبته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومنه ممتنع يجب أن ننفيه عنه، ومنه ما هو ممكن وجائز.
    1. التسلسل الممنوع

      فالممتنع هو التسلسل في المؤثرين أي: في المفعولات، مثلما جَاءَ في الحديث: {لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟}، هذا خلق هذا وهذا خلق هذا ...فالمفعولين أو المؤثرين، التسلسل فيهم ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية، وهذه النهاية في المفعولين أو المؤثرين هي إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا أحد ما يدل عليه قوله تعالى: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى))[النجم:42].
    2. التسلسل الواجب

      وأما التسلسل الواجب فهو: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، والتى هي محل الاتفاق عند الجميع؛ إلا الجهم والعلاف، وهذان لا يؤبه لخلافهما، وهي أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يديم نعيم أهل الجنة، وكذلك -والعياذ بالله- عذاب أهل النَّار الكفار إِلَى ما لا نهاية، فكلما انقضى نعيم أحدث لهم نعيما آخر، وهكذا تتسلسل إِلَى ما لا نهاية.
      وهذا تسلسل يجب أن نثبته، وبهذا يتضح أن القول بأن التسلسل ممتنع أو أنه غير جائز عَلَى الإطلاق ليس بصحيح.

      ثُمَّ ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ التسلسل في أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنسبة إِلَى الأزل، أي: في الماضي، وأنه واجب في أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وواجب في كلامه، وإلا لزمكم -والعياذ بالله- أن تفترضوا أنه كَانَ أخرساً ممنوعاً من الكلام، ثُمَّ حدث له الكلام وتكلم، ومقتضى الكلام أفعال، بل مقتضى الحياة؛ لأن كل حي فعال، حتى أدق الكائنات، فكيف بالحي القيوم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي له مطلق الحياة وكمالها؟ إذاً فكونه حياً، وكونه متكلماً في الماضي إِلَى ما لا نهاية، يجب أن نثبته له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كانت آثار أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تكون مخلوقات، لكن لا ضير في أن نثبت ذلك، بل هذا كمال الحق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    3. التسلسل الممكن

      ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: وأما التسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما تتسلسل من طرف الأبد، أي: أنه مثل ما قلنا: إن التسلسل في الماضي واجب، فإنه في المستقبل ممكن غير ممتنع؛ لأنه لم يزل حياً، قادراً، مريداً، متكلماً، فكونه يفعل أكمل من كونه لا يفعل، وكونه يتكلم أكمل من كونه لا يتكلم، وكونه يريد أكمل من كونه لا يريد، إذاً فإثبات هذا الكمال له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ممكن ليس ممتنع، كما يقولون هم بامتناعه، والخلاف بيننا وبينهم بالامتناع، امتناع حوادث لا أول لها، أو إمكان حوادث لا أول لها.
      يقول: وهذا الشيء لا يلزم منه أنه لم يزل الخلق كلهم معه، وإن افترضنا ذلك، فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متقدم عليهم تقدماً لا أول له، فإن لكل مخلوق أول، والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي لا أول له، وهو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء؛ لأن الأزل نفسه ليس أمراً وجودياً، وليس بشيء، إنما هو ما لا أول له، فكل ما افترضناه نفترض أن قبله شيء آخر، فهذا هو الأزل.
      فنتج من هذا: أن التسلسل منه ما هو واجب اتفق الجميع عليه، وهو تسلسل أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المستقبل، ومنه ما هو ممتنع -يتكلم فيه النَّاس عادة- وهو تسلسل المؤثرين أو المخلوقين، ومنه ما هو ممكن، وهو تسلسل أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الزمن الماضي، إذاً فهذه القسمة الثلاثية تنفي أن القول بوجود حوادث لا أول لها يؤدي إِلَى التسلسل، هذا ملخص ما يريد المُصنِّف رحمه الله تعالى أن يقوله.
    4. الرد على المتكلمين

      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب تَعَالَى لم يزل قادراً عَلَى الفعل لزمه أحد أمرين لا بد له منهما:
      إما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً، وإما أن يقول لم يزل واقعاً، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، حيث زعم أن الرب تَعَالَى لم يزل قادراً عَلَى الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال. وهو مقدور له، وهذا قول ينقض بعضه بعضاً.
      والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تَعَالَى لم يزل معطلاً عن الفعل ثُمَّ فعل، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل عَلَى نقيضه] اهـ.

      الشرح:
      معنى قول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أن من اعترف بأن الرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قادر، وأن هذه القدرة من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وكل المتكلمين عن الإسلام إلا من شذ يقولون ذلك- إما أن يقول: إن الفعل لم يزل ممكناً، فإن قَالَ: نعم. إن العقل يقتضي أنه ممكن، قلنا: هذا هو المطلوب، فلا جدال إذاً بيننا وبينك، وإن قَالَ: لا، إنه لم يزل الفعل واقعاً، قلنا هذا تناقض، يعني: إذا قلت أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قديرٌ عَلَى كل شيء، وفعله أو مقدوره وقع وحصل، وأنه متصف بالقدرة أزلاً وأبداً، فكيف تنفي أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يخلق، ولم يكن له هذه المقدورات أو هذه المخلوقات؟ أو أنه في وقت من الأوقات كَانَ فعلُ المقدور ممتنع؟ وإن قلت: إنه واقع فهذا زيادة في الإثبات أكثر، وهو أنه كَانَ واقعاً.
      وننبه إِلَى قضية وهي: أن الفلاسفة تصوروا أن العالم كله أو أن بعضه قديم، ويجعلون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علة فقط، وليس خالقاً مريداً، وكذبهم واضح من كلامهم؛ لأن العلة تستلزم وجود المعلول، فلو كَانَ مجرد علة لوجدت جميع المخلوقات دفعة واحدة، أما وأن هناك من يحي ويموت، ثُمَّ يحي غيره ثُمَّ يموت ((هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ))[فاطر:39].
      فهذا دليل عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يحيي ويميت، ويكون الليل ثُمَّ النهار، ثُمَّ فناء الليل والنهار، ويكون المطر، ثُمَّ يكون الصحو، والصحة والمرض، وهكذا سائر التغيرات في الكون دليلٌ عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم هو في شأن، وأنه يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويأمر بما يشاء، ويغير كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا معقب لحكمة ولا راد لأمره.

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار عَلَى التسلسل في الماضي، فَقَالُوا: إنك لو قلت: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده درهماً، كَانَ هذا ممكنا، ولو قلت: لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهماً، كَانَ هذا ممتنعاً.
      وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة، بل الموازنة الصحيحة أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فتجعل ماضياً قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلاً بعد مستقبل.
      وأما قول القائل: لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله.
      فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع، لم ينفِ الماضي حتى يكون قبله ماض فإن هذا ممكن، والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي، والمستقبل الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لانهاية له فإن ما لانهاية له فيما يتناهى ممتنع] اهـ

      الشرح:
      [والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي] في بعض النسخ، وهذه أوضح، يعني: جعلنا ابتداءه من المعطي وهو أفضل.
      وأبو المعالي الجويني هو صاحب كتاب الإرشاد والشامل، وهو إمام الأشعرية في زمنه، وأراد بهذا المثال أن يستدل عَلَى امتناع الحوادث بالنسبة للماضي.
      وكان المُصنِّف رحمه الله تعالى فطناً ولبيباً في رده -وما أحسبه إلا أنه نقله من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله تعالى- فبين أن هذا التمثيل غير صحيح، لأن الماضي يعبر عنه بفعل الماضي لا بالمستقبل، فالصحيح أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، أما أن تعلق شيئاً في مستقبل بوقوع شيء في المستقبل، فإن هذا لم يقع!
      أما أن تعلق شيئاً بوجود شيء قبله في الماضي، فهذا غير ممتنع، بل هو ممكن من حيث القسمة العقلية. هذا ملخص الكلام، وبذلك نكون انتهينا من هذه الفقرة الكلامية.
  2. عموم دلالة قوله تعالى: فعال لما يُريد

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [ليس بعد -في نسخة منذ- خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [ظاهر كلام الشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل عَلَى أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: والجنة والنَّار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار، لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.
    وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها، من القائلين بحوادث لا آخر لها فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما، فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد، كما وصف بذلك نفسه، حيث يقول: ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[البروج:15، 16]. والآية تدل عَلَى أمور:
    أحدها: أنه تَعَالَى يفعل بإرادته ومشيئته.
    الثاني: أنه لم يزل كذلك، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء عَلَى نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [النحل:17] ولما كَانَ من أوصاف كماله ونعوت جلاله، لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن.
    الثالث: انه إذا أراد شيئا فعله، فان "ما" موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شان آخر؛ فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا، لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا.
    وهذه هي النكتة التي خفيت عَلَى القدرية والجبرية، وخبطوا في مسألة القدر، لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد، وإرادة أن يجعله فاعلا، وسيأتي الكلام عَلَى مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى.
    الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعل فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريده، فما ثُمَّ فعال لما يريد إلا الله وحده.
    الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد عَلَى الدوام، ويفعل ما يريد.
    السادس: أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز فعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده نفسه، وأن يتجلى لهم كيف شاء، ويخاطبهم، ويضحك إليهم، وغير ذلك مما يريد سبحانه لم يمتنع عليه فعله، فإنه تَعَالَى فعال لما يريد. وإنما تتوقف صحة ذلك عَلَى إخبار الصادق به، فإذا أخبر وجب التصديق، وكذلك محو ما يشاء، وإثبات ما يشاء، كل يوم هو في شأن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يزل غير فاعل، ثُمَّ صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تَعَالَى له، ليس له من نفسه إلا العدم، والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تَعَالَى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] إهـ.

    الشرح:
    هذه الأوجه الكثيرة يذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في شرح قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[البروج:16] لبيان عموم دلالة هذه الآية عَلَى إثبات ما يريده، وذكر أن ظاهر كلام الطّّحاويّ أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، إلا أنه يثبت اسمي الخالق واسمي الباري لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا لا نقاش فيه، لكن معنى كلامه: أنهما ثابتان له حتى في الفترة التي لم يكن فيها مخلوق بإطلاق، وهذا هو محل الخلاف، والذي رجحه المُصنِّفُ عدم القول بأن هناك فترة ليس فيها مخلوق بإطلاق، وهذا القول قوي، لأنه ما دام أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موصوف في كل وقت بأنه خالق، وقادر، وفعال لما يريد، فإن مقتضى ذلك أن تكون له مخلوقات بأي وقت من الأوقات.
    وقد يتساءل بعض الناس: لماذا لم يرد في الكتاب أو في السنة ما يدل عَلَى أن شيئاً من الأشياء هو أول المخلوقات عَلَى الإطلاق؟ وإنما يرد ما يدل عَلَى أولوية بعض المخلوقات عَلَى بعض أولوية نسبية، كالعرش والقلم بالنسبة لهذا الكون الذي نراه؟ هذا ما سوف نشرحه -إن شاء الله- في حديث عمران بن حصين بعد أن نتكلم عن عموم دلالة قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[البروج:16].
    والشاهد هنا أن عموم قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16] يدل عَلَى أنه تَعَالَى يفعل بإرادته ومشيئته، هذا هو الوجه الأول.
    والوجه الثاني: أنه لم يزل كذلك ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16] في الماضي، و((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16] في المستقبل، فلو قدر وقت من الأوقات أنه لم يكن فيه فعال لما يريد، لكان ذلك نقص في حقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن له الكمال المطلق في كل وقت.
    الوجه الثالث: -أي من أوجه دلالة قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16]- أنه إذا أراد أي شيء فعله، فيدخل فيها كل شيء لعموم كلمة "ما"؛ لأنها اسم موصول من ألفاظ العموم، مثل كلمة "شيء"، تدل عَلَى الإطلاق وعلى العموم في سائر الزمان والأوقات.
    ثُمَّ استطرد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في ذكر إرادة الله المتعلقة بفعله، وهي: أن الله تَعَالَى قادر، فعال لما يريد فعله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وقوله: أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شان آخر. هذا الشأن الآخر سبق معنا مجملاً في باب الإرادة، عندما أشار بكلمة الإرادة، ويأتي مفصلاً -إن شاء الله- في شرح أبواب القدر.
    لكن الشاهد هنا هو: التفريق بين هاتين الإرادتين، الإرادة الكونية التي في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [يس:82]، والإرادة الشرعية التي هي: ما هو مطلوب من العبد أن يفعله من الأوامر والنواهي، فإن أراد الله أن يوفق العبد ويهديه لفعل من الأفعال أعانه عليه، وإن أراد خذلانه فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعينه عليه، فيجب أن نفرق بين فعل يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفعله بنفسه، وبين فعل يريد من غيره أن يفعله.
    الرابع: أن فعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وإرادته متلازمان لا ينفك بعضهما عن بعض، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقد أراده، لا معقب لحكمه ولا راد لفعله، لأنه لا يفعل إلا ما يريد، بخلاف إرادة المخلوق وفعله فإنهما ينفكان، لأنه يريد ما لا يفعل -وهذا واضح- وأيضاً يفعل ما لا يريد.
    فان قال قائل: هل كلما أراد الله شيئاً لا بد أن يفعله، أم أنه إذا أراد شيئاً فإنه قادر عَلَى فعله، قد يفعله وقد لا يفعله؟
    قلنا له: إذا أراد أن يفعل شيئاً فعله، وإن لم يرد أن يفعله لم يفعله، وما لم يرد فعله، فإنه لا يفعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا لا إشكال فيه.
    أما أنه إذا أراد شيئاً فإنه قادر عَلَى فعله، ولكن قد يفعله وقد لا يفعله، فلا؛ لأننا متفقون عَلَى أنه القادر عَلَى أن يفعله فكل شيء متى أراد أن يفعله فعله، وما لم يرد أن يفعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفعله، ولا يملك أي مخلوق عَلَى الإطلاق أن يفعل ذلك فإن المخلوق يريد ما لا يفعل، ويفعل ما لا يريد..

    أما الخامس فمعناه: أن كل ما أراده الله في الكون من الموجودات فله إرادة تخصه، كما هو واضح في الفطرة وظاهر في الأدلة، فإذا قلنا أراد الله أن توجد هذه الشجرة، وأراد الله أن يوجد هذا الجبل، وهكذا في بقية الأمثلة، فإنها إرادات متعددة، لا أنها إرادة واحدة فقط، كما يقول الفلاسفة -وهي عندهم العلة التامة الموجبة التي تقتضي إيجاد كل معلول لها- بل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء.
    ولكننا لا نعلم كيفية اتصاف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالإرادة، كما هو معلوم في جميع الصفات، وإنما الذي نثبته ما دلت عليه عموم النصوص والفطرة والبداهة: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له في كل فعل إرادة تخص ذلك الفعل، وباطل قطعاً قول من يقول: إنها إرادة واحدة اقتضت كل شيء دفعة واحدة، ثُمَّ بقيت الأمور تتسلسل هكذا في الطريق.

    أما السادس: فهو يربط الموضوع بما سبق، عندما شرح المُصنِّفُ قول الطّّحاويّ: [ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه]. وذكرنا أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يزال متصفاً بصفات الكمال، من صفات الذات وصفات الفعل، وأن صفات الذات تتعلق بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا تنفك عنه، والصفات الفعلية تتعلق بإرادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،وقد شرحناهما باستفاضة.
    لكن المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أراد أن يدخل من هذا الباب لإلزام هَؤُلاءِ بأصولهم في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الفعلية؛ لأنهم يقولون: إن هذه الصفات يلزم منها الجسمية، والانتقال، والتبعيض، كما سبق أن أوضحنا بأن كل ما صح أن تتعلق به إرادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جاز أن يفعله، فما المانع عقلاً أن تتعلق إرادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا؟
    وبما أن ذلك جائز عقلاً، فكيف تنفونه؟ وكذلك: أنه يرضى، أو يغضب، أو يضحك، أو يفعل ما يشاء من الأفعال التي وردت؟
    ولكن الذي تتوقف عليه إثبات هذه الأمور في الأصل هو صحة الخبر، فإن جَاءَ الخبر الصادق، كما في قوله تعالى:((وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّا)ً) [الفجر:22]، وكما في الحديث الصحيح: {ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا كل ليلة} وأمثال ذلك، فهذا لا اعتراض عليه، ولا يحيده العقل، بل حينما يخالفه العقل يكون صاحبه غير عاقل.
    فما الذي يجعلكم تقولون: إنه لا ينزل، أو لا يضحك، أو لا يرضى، أو لا يغضب، وإرادته عامة، فقد قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه:((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16] وما تقولونه: إنها القواطع العقلية أو البراهين النظرية، أو إمكان كذا واستحالة كذا، كل هذا الكلام يسقط أمام الحق والنور الواضح المبين من كلام الله وكلام رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    هذه الستة الأوجه كل منها عظيم، وهي مأخوذة من هذه الآية الموجزة اللفظ، ولكنها عظيمة ككل القُرْآن في معناه، وهي قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16]، ولو تأمل المتأمل لربما زادت عَلَى ذلك.
  3. شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

     المرفق    
    ثُمَّ يستدرك المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فَيَقُولُ:
    [وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟
    واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟
    وقد قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7].
    وروى البُخَارِيّ وغيره عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-، قَالَ: {قال أهل اليمن لرَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقَالَ: كَانَ الله ولم يكن شيء قبله}.
    وفي رواية: {ولم يكن شيء معه}.
    وفي رواية: {غيره}.
    {وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض}، وفي لفظ: {ثُمَّ خلق السموات والأرض}.
    فقوله: (كتب في الذكر)، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)) [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكراً، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتاباً.
    والنَّاس في هذا الحديث عَلَى قولين، منهم من قَالَ: إن المقصود إخباره بأن الله كَانَ موجودا وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثُمَّ ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إِلَى حين ابتداء الفعل ولا كَانَ الفعل ممكناً.
    والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثُمَّ استوى عَلَى العرش، كما أخبر القرءان في غير موضع.
    وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {قدر الله تَعَالَى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء}. فأخبر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كَانَ قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تَعَالَى كَانَ حينئذٍ عَلَى الماء] إهـ
    .
    الشرح:
    قوله: [والقول بأن الحوادث لها أول يلزم منه التعطيل قبل ذلك ...الخ] يحتاج إِلَى تفصيل؛ لأن الأنواع تختلف عن الذوات، فأما الذوات والأعيان، فكل شيء من المخلوقات بعينه، مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وأما أنواع هذه الحوادث - وهو الذي نقول: إنه أثر صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهذا الذي لا أول له؛ لأن صفات الله عَزَّ وَجَلَّ لا أول لها.
    والكلام في أن أعيان الحوادث لها أول، ينقلنا إِلَى النقطة المهمة التي هي هذا العالم الموجود، وهذا الكون المخلوق الذي نراه ونعيش فيه الآن، هل خلق من مادة، أو أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خلقه من العدم بغير مادة؟ وما هو أول شيء خلق فيه؟
    وسنذكر بعض ما قيل في شرح حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو حديث صحيح، رواه الإمام البُخَارِيّ في أول كتاب بدء الخلق، وفي كتاب التوحيد من صحيحه، وله روايات كثيرة.
    وذكر فيه أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خرج عَلَى وفد بني تميم فقَالَ: اقبلوا البشرى يا بني تميم اقبلوا البشرى يا بني تميم، فَقَالُوا: قد بشرتنا فأعطنا -فرفض بنو تميم البشرى- فقَالَ: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا: قد قبلنا يا رَسُول الله -قبل أهل اليمن البشرى وجلسوا مع رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: يا رَسُول الله، جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فَقَالَ لهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان الله ولم يكن شيء غيره}، وفي رواية: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء، ثُمَّ خلق السموات والأرض}.
    ثُمَّ اختلفت الروايات، وكلها تُجمع عَلَى أن رجلاً قَالَ: {يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت، قَالَ: فخرجت فإذا السراب يقطع دونها، فوالله وددت لو أني تركتها}.
    أما عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - فهو من خزاعة، كَانَ جالساً قبل أن يكمل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث، فهربت ناقته، فجاءه رجل يقول: أدرك ناقتك يا عمران، فخرج يظن أنه قد يلحقها ويدرك بقية الحديث، فإذا السراب يحول بينه وبينها، وقال مقولته التي في الحديث، لما فاته بقية مجلس النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لم يفت شيء من العلم والْحَمْدُ لِلَّهِ، لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرره في مواضع، وما قاله هنا بهذا القدر هو كافل لمعرفة الجواب الصحيح في هذه المسألة الشائكة.
    والمتأمل للأقوال التي ذكرها المُصنِّفُ هنا، يجد أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقتصر في الجواب عَلَى العالم الذي جاءنا خبره، ولا نستطيع أن نقول أن هذا كل العالم، أو هذا كل خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
    وحديث عمران قد شرحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرحاً مستفيضاً وافياً، وكلام المُصنِّفُ هنا ملخص منه، وهذا الشرح موجود في المجلد "18" من مجموع الفتاوى ابتداءً من صفحة "210"، وهي رسالة طبعت أيضاً في مجموعة الرسائل والمسائل اسمها، شرح حديث عمران بن حصين.
    والروايات التي ذكرها المُصنِّفُ هنا في الشرح هي قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله}. ورواية: {ولم يكن شيء معه}. ورواية: {ولم يكن شيء غيره}.
    وحتى يعرف وجه الحق في هذه المسألة، يرجع إِلَى كلام عالم السنة الحافظ ابن حجر في الجزء "6" من فتح الباري، في أول كتاب بدء الخلق، فقد ذكر روايات منها ما رواه الإمام أَحْمَد وغيره: أن أول ما خلق الله العرش، ونقل أنه قول الأكثر.
    إلا أن ابن حجر يرى أن هناك أول مخلوق بإطلاق، ومعنى كلامه أن الروايات اختلفت أهو العرش أم القلم؟ وأن أكثر الروايات عَلَى أنه العرش، وذكر الرواية التي فيها الترتيب بأن الله خلق الماء، ثُمَّ العرش، ثُمَّ القلم.
    1. أول ما خلقه الله تعالى من هذا الكون المشهود هو العرش

      وإذا رجعنا إِلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وجدناه يقول: وقول أكثر السلف أن أول ما خلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو العرش.
      وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ لم يخض في هذا الموضوع بهذا الشكل، لأنه يرى أن ليس هناك ما يسمى بأول مخلوق بإطلاق، وإنما هناك مخلوقات قبلها مخلوقات، منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه.

      أما الأحاديث التي جاءت، فهي في بيان أولية المخلوقات المعلومة لنا، وحديث عمران بن حصين نفسه يدل عَلَى أن العرش قبل القلم، لأن فيه {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء}، إذاً كَانَ هناك ماء، وكان هناك عرش قبل أن تخلق السموات والأرض.
      ومعنى قول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في حديث: {أول ما خلق الله القلم...} -كما سيأتي في موضعه- أن كلمة "أول" هنا:
      إما أن تأتي مبتدأ والقلم خبرها، فنقول: أولُ ما خلق الله القلمُ -بضم آخر كلمتي أولُ والقلمُ- وهذا معروف، وعليه كلام الشيخ ناصر الدين الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ.
      وإما أن تأتي كلمة أولَ منصوبة، فتكون ظرفاً، بمعنى: عندما خلق الله القلمَ، أي: أول ما خلقه الله قال له: اكتب.
      ومن جمع الروايات تبين له أنها تصير عَلَى الوجه الأخير.

      وإنما قلنا العالم المشهود، لأن وفد اليمن قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر، أي: أهو العرش، أم الماء، أم هما معاً؟ فيخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعد أن خلق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العرش خلق القلم، وعندما خلق القلم -قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جَاءَ في صحيح مسلم- أمره أن يكتب كل شيء.
      إذاً؛ فهذا لا يتعارض مع ذلك، بأنه خلق هذا، ثُمَّ خلق القلم، وهو ظاهر ما في صحيح مسلم، والقول بتقدم خلق القلم عَلَى جميع المخلوقات فيه خلاف، والظاهر من روايات حديث عمران بن حصين أن العرش متقدم عليه، ويشهد لهذا روايات أخرى جاءت في المسند وفي غيره، دلت عَلَى أن العرش هو أول المخلوقات من هذا الكون الحسي المشهود، ومن القرءان قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) [هود:7]، فقوله: ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))، يدل عَلَى أن العرش وهذا الماء غير داخلين في العالم المشهود الذي هو السموات والأرض.
      وذكر الشيخ العلامة المحدث مُحَمَّد ناصر الدين الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ في الجزء الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم "133" حديث: {أول ما خلق الله القلم}، تحت عنوان: أول مخلوق.
      وتعرض هناك لنفس الكلام الذي قاله الشيخ الأرنؤوط فيما سبق، وهو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أخطأ ووهم، لأنه خالف المذهب المشهور والصحيح، بقوله: بحوادث لا أول لها وليس هذا موضوعنا في الحقيقة، لكن المقصود أننا لما قرأنا تعليق الشيخ الأرنؤوط هنا، وتعليق الشيخ ناصر الألباني، وكلامه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وجدنا نوعاً من التعجل في تخطئة شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، وكان الواجب التروي والتأكد أولاً.
      والشيخ ناصر -جزاه الله خيراً- عالم جليل له قدره، وله مكانته، وكذلك أي عالم، فلا نتسرع ونقول: وهم أو أخطأ، أو خالف الحق، أو ندَّ عن الصواب، كما قال الأرنؤوط في تخريج الحديث، إنما نتأكد ونبحث، حتى نتبين ونصل إِلَى الصواب، فإن ظهر لنا شيء قلنا: لعله -رَحِمَهُ اللَّهُ- أراد كذا أو كذا.
      خاصة علماء الإسلام من أهل السنة، والأئمة الحفاظ، أما علماء البدعة -وإن كنا لا نظلمهم ولا نكذب عليهم- إذا رأينا قولا من أقوالهم الباطلة، خطأناهم وضللناهم لأنهم مبتدعة، وهذا ليس علينا فيه حرج -والْحَمْدُ لِلَّهِ- ثُمَّ لا ننسى أن النسخ تختلف، وأن ما وصلنا من النسخ قد لا يكون الكلام فيها كاملاً، بدليل أن بعض هذه الكتب قد تطبع في المرة الأولى، ثُمَّ تطبع في مرة أخرى عَلَى عدة نسخ، فيظهر أن الطبعة الأولى فيها نقص.

      وإن كَانَ لا بد من تبيين الخطأ فبأسلوب فيه أدب، وإنما قلت هذا الكلام لأن بعض النَّاس يتخذون من هذه القضية محلاً للتشينع والتشهير بشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، ولا غرابة أن يفعل ذلك أهل البدع وهم كثير، ومن أعظمهم في هذا العصر الكوثري، ومن تلاميذه من قد ذكرناهم فيما سبق من الشرح، لكن نأسف أن يتبعهم بعض أهل السنة الأجلاء كـالشيخ ناصر مثلاً، كما في هذه المسألة، وإن كَانَ لا يوافقهم في ما يفعلونه من التشهير والتشنيع
    2. الترجيح بين روايات حديث عمران رضي الله عنه

      ومعنى كلام شَيْخ الإِسْلام ابن حجر وابْن تَيْمِيَّةَ، أن هذا الحديث قيل في موضع واحد، والجواب كَانَ في وقت واحد، لأن القصة واحدة، فلا بد إذاً أن أحد الروايات الثلاث -"قبل" أو "مع" أو "غير"- هي التي قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الروايتين الأخريين رويتا بالمعنى، والذي رجحاه كلاهما من حيث الرواية هي رواية:
      {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله}، وهي رواية الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ، وإحدى روايتي البُخَارِيّ، كما في كتاب بدء الخلق من صحيحه.
      وتُرجَّح رواية {قبل} بدلالات، منها: قوله تعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ))[الحديد:3] وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث قيام الليل: {اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء}.
      ومنها: أنها وردت من طرق صحيحة، بل يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: إنها رواية الأكثرين والأحفظ، ومنهم الحميدي وهو من أشهر حفاظ مشايخ الإمام البُخَارِيّ.
      ومنها: أنها متفقة مع القرآن، ومتفقة مع الأحاديث الأخرى الصحيحة التي لا شك ولا غرابة فيها
      .
      أما الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه يميل إِلَى أن رواية: {غيره} أولى من حيث المعنى، لأنه أصرح في نفي العدم، بمعنى كَانَ الله ولم يكن شيء غيره، ونفي الغير له أقوى في نفي العدم، ولكن ليس المقصود نفي العدم، فإن هذا هو عين القول الأول الذي سبق بعض ما فيه، وسنبين أنه خطأ فيما يأتي أيضاً.