ثم نأتي إلى قضية أخرى وهي من لفتات شيخ الإسلام -رحمه الله- الذكية، وهي في مسألة الظهور أو التجلي ثم الإشراق ثم الاستعلان، فلها معنى ولها مغزى، من جهة أن الوحي هو نور الله، قال تعالى ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا))[الشورى:52].. ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ))[المائدة:15]، والكتب السماوية كلها نور: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ))[المائدة:44]، فالوحي هو النور، فذكر أنه يبدأ النور أولاً من مكان، ثم يشرق من مكان، ثم يستعلن من مكان، وهذا يتناسب مع الواقع، وفيه شهادة عظمى لهذه الأمة.
قال شيخ الإسلام : "وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن، وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر، أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس، زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: (واستعلن من جبال فاران )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا سماه الله سِرَاجًا مُنِيرًا، وسمى الشمس: سِرَاجًا وَهَّاجًا".
فهذه العبارة من شيخ الإسلام تتناسب مع الحقيقة التاريخية، وفيها أمور: الأمر الأول أن أول ما أوحى الله إلى موسى، ثم عيسى، ثم محمد صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن موسى عليه السلام كان بداية النور، ثم جاء عيسى عليه السلام فكان الإنجيل إشراقاً؛ لأنه أضاف إلى التوراة وزاد فيها، فهو مكمل للتوراة وليس مبطلاً لها، فزاد نور التوراة بنور الإنجيل، كما أن الشمس حين تشرق فإن النور يزداد؛ ولكن أعظم ما يكون النور إذا ارتفعت في السماء من الضحى فما فوق، حين تعم العالم بالنور، وهذا هو الذي حصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: أن الله سبحانه وتعالى وصف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه: (سراج منير)، ووصف الشمس بأنها: (سراج وهاج).
قال شيخ الإسلام : "والخلق يحتاجون إلى السراج المنير، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت، وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها}".
يذكر شيخ الإسلام أن حاجة الناس إلى السراج المنير أشد منها إلى السراج الوهاج، والسراج الوهاج هو الشمس؛ فالشمس تفيد الناس في وقت دون وقت؛ لأنها قد تضر في بعض الأوقات بحرارتها، أما السراج المنير فإنه خير لا ضرر فيه، فوصف محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم مما وصفت به الشمس.
ثم قال شيخ الإسلام: "وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ))[التين:1-8]، فأقسم بالتين والزيتون، وهي الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح، وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بـطور سينا، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بالبلد الأمين، وهي مكة، البلد الذي أسكن فيه إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً، فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله، فقال: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))[إبراهيم:37]".
ومعنى (جعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً): أنه شرعاً لم يحل لأحد، وإنما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار، كما بين ذلك، وأما كونه آمناً قدراً فمعناه: قدّر تقديراً كونياً أن يكون هذا البيت محرماً معظماً.
والمقصود: أن الله تعالى أقسم بقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ))[التين:1-2] ثم قال: ((وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ))[التين:3]، فقدم ذكر التين والزيتون على طور سينين، ولعل ذلك لأن التين والزيتون يعني بلاد الشام، وهي غير مختصةٍ بعيسى عليه السلام، فقد بعث فيها قبله إبراهيم ولوطاً عليهما السلام وغيرهما من الرسل، وإن كان عيسى عليه السلام هو آخرهم، وهو الذي أشرق به الوحي كما سبق أن أوضحنا، أما الطور فمعلوم أنه خاص بموسى عليه السلام، فمع أن موسى عليه السلام آياته أعظم من آيات عيسى عليه السلام، ومع أن التوراة أعظم من الإنجيل، ولكن بلاد الشام -التين والزيتون- شارك المسيح فيها غيره من الرسل، فهي بلاد معظم الأنبياء ولذلك قدمت على الطور.. والله أعلم.
ثم قال شيخ الإسلام : "فقوله تعالى: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ))[التين:1-3] إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن؛ كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: (جاء الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ). ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق، وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها، وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله فأقسم بها على وجه التدريج، درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات؛ فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بـطور سينا، ثم بـمكة ؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء، فأقسم بها على وجه التدريج؛ كما في قوله: ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:1-4].