المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقال تعالى:((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض))[إبراهيم:10] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد عَلَى الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} ولا يقَالَ: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً -كما قاله بعضهم- لما تلونا، ولقوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يروي عن ربه عَزَّ وَجَلَّ: {خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين} الحديث.
وفي الحديث المتقدم ما يدل عَلَى ذلك، حيث قَالَ: {يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} ولم يقل: ويسلمانه. وفي رواية: {يولد عَلَى الملة} وفي أخرى: {عَلَى هذه الملة}] إهـ.

الشرح:
هذا موضوع الفطرة
قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد عَلَى الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} وفي رواية: {كل مولود يولد عَلَى الملة} وفي رواية أجلى وأصرح: {كل مولود يولد عَلَى هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} وكما في رواية الصحيح قَالَ: {كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء؟} معنى هذا الحديث أو دلالة هذا الحديث: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد أودع في فطر النَّاس الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فكل مولود من بني آدم يولد، فهو مقر بالله ومتجهٌ بفطرته إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومفطور عَلَى الإقرار والإيمان به -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بحيث لا يحتاج إِلَى أن يلقن ذلك ولا أن يعلّم، بل هو مولود عَلَى نفس هذه الملة -ملة الإسلام- التي لا يقبل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من أحد غيرها.

وضرب مثالاً لذلك بالبهيمة {كما تنتج البهيمة البهيمة}أي: تلد البهيمة بهيمةً جمعاء كاملة ليس فيها أثر من آثار إحداث الآدمي، كقطع الآذان أو العلامات التي توضع سمة عَلَى الإبل والبقر والغنم لتعرف، وإنما الذي يجدعها صاحبها.
وكذلك الإِنسَان يولد عَلَى التوحيد سليماً نقياً حتى يهوّد أو ينصر أو يمجس، فتجدع هذه الفطرة وتوضع عليها علامة معينة قد تكون نصرانية أو يهودية أو مجوسية.
وإن لم يوضع علامة فهو يولد عَلَى هذه الملة والدين.
  1. معنى الفطرة عند المعتزلة والرد عليهم

    ويقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ولا يُقَالَ: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً].
    وهذا قول بعض المعتزلة: يولد عَلَى الفطرة: أي يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، خالي الذهن، ثُمَّ أبواه يهودانه أو ينصرانه.
    ويقال لهم: لم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام في الحديث: (أو يسلمانه) فإذا كَانَ يولد لا يعرف توحيداً ولا شركاً، فمن أين يأتي إليه التوحيد والإسلام؟
    فهم أولوه بهذا التأويل ليبنوا أو يؤسسوا قواعدهم التي وضعوها، وتركوا الوحي الذي أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في المولود، وهذه قاعدة فاسدة من قواعد المتكلمين من المعتزلة وغيرهم فهم يقولون: إن التقليد ليس إيماناً، فإن اليهود يولد أبناؤهم يهوداً، والنَّصَارَى يولد أبناؤهم عَلَى دينهم أيضاً، والمجوس كذلك، أي أن كل واحد يولد يتبع ويقلد آباءه وبيئته ومجتمعه.
    قالوا: ويجب عَلَى كل إنسان أن ينظر ويتأمل ويفكر، حتى يعرف الله ويعرف توحيد الله، ويتأكد هل القُرْآن حق أم لا؟!، ويتأكد هل مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُول أم لا؟!
    فلو مات وهو في أثناء مرحلة التفكير والنظر، قيل: يكون مسلماً، وقيل: لا يكون مسلماً.
    وهكذا دار الخلاف بينهم لأنهم بنوا عَلَى هذا الأصل الباطل الفاسد.
    قال المعتزلة: هذا الحديث معناه: أنه يولد ساذجاً خالياً كالورقة البيضاء ليس فيها شيء، لكن قد يكتب فيها الإيمان والإسلام، وقد يكتب فيها والنصرانية ، وقد يكتب فيها واليهودية.
    وقد كذبهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنص الحديث الذي قال فيه: {كل مولود يولد عَلَى الملة} أو {على هذه الملة} أي: يولد متديناً بهذا الدين، فهذا صريح بأن المولود لا يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، بل يولد عَلَى التوحيد الذي أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ميثاقه علينا في الفطرة، كما قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف:172] ولذلك لما يدخل أهل النَّارِ النارَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث الصحيح لبعض أهل النار: {ابن آدم! لو أن لك ملك الأرض جميعاً أتفتدي به من عذاب النار؟ فَيَقُولُ: نعم يا رب والله لو كَانَ لي ملك الأرض لافتديت به من هذا العذاب الذي أنا فيه، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قد طلب منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً} الشاهد هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الحديث الصحيح: (صلب أبيك) فهذا يدل عَلَى أن الميثاق الذي أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى بني آدم ميثاق حقيقي، وعهد حقيقي، أخذه الله تَعَالَى عليهم في الأصلاب، ثُمَّ بعد ذلك يقرون به وتبقى في فطرهم، والميثاق الفطري هذا سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في موضوعه، لكن الشاهد منه أن هذا هو الميثاق الذي أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في عالم الذر، وولد به الإِنسَان في عالم الوجود -في العالم الحقيقي الذي نعيشه الآن- فكل مولود يولد عَلَى الفطرة، ومن أراد التوسع في موضوع الفطرة والرد عَلَى أقوال المعتزلة فليراجع كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ درء تعارض العقل والنقل، فإن الجزء الثاني منه والتاسع امتداد وشرح لهذا الحديث، وبيان لأدلة المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة، وإبطال لها ونقل لكلام العلماء في معنى ذلك، ومنهم الإمام مالك وأبو عمر بن عبد البر.
    فالشاهد أن هذا هو المعنى الحقيقي للحديث فلا يقال إن معناه أنه يولد ساذجاً.

    ومن الأدلة عَلَى ما ذكرناه حديث عياض بن حمار رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهو: قوله: {خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمتْ عليهم ما أُحِلَ لهم} فإن هذا دليل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد خلق البشرية في الأصل عَلَى التوحيد، وفطرهم عَلَى الإيمان ثُمَّ أشركوا، وكذلك كل أحد من آحاد بني آدم فإنه يولد عَلَى التوحيد، حتى تجتاحه وتجتاله شياطين الإنس أو الجن فيصرفونه ويحولونه من التوحيد إِلَى الشرك، ويصرفونه عن الفطرة التي هي دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [الروم:30] فدين الإسلام هذا دين الفطرة، وهو الدين القيم وإن اختلفت الشرائع فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا عَلَى ملة إبراهيم، وأمرنا أن نتبعها فقَالَ: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)) [النحل:123] وملة إبراهيم وملة الأَنْبِيَاء جميعاً هي التوحيد الذي هو دين الفطرة لا تغيير له أبدا، ولكن الشرائع والتعبدات تختلف من دين إِلَى دين.
  2. الأدلة العقلية تدل على وجود الفطرة

    ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [وهذا الذي أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يُقَالَ: لا ريب أن الإِنسَان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة، فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما. ونعلم أنه إذا عرض عَلَى كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إِلَى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه.
    والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا.
    والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه.
    ومنها: أنه مفطور عَلَى جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إِلَى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.
    ومنها: أن يقَالَ: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا.
    ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك. فإذا كَانَ المقتضي قائماً في النفس وقُدِّر عدم المعارض، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من يفسدها، كانت مقرة بالصانع عابدة له.
    ومنها: أن يقَالَ: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج، ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم، والمانع منتف]
    اهـ.
    الشرح:
    [وهذا الذي أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه] هذه الأدلة العقلية التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ فيها صعوبة، ولا يستطيع أي إنسان أن يفهمها إلا أن تؤخذ كلمة كلمة، ومع ذلك فإن فائدتها النهائية واضحة، وهي ما سبق أن قلناه، ونحب أن ننبه بهذه المناسبة أنه ستأتي موضوعات في شرح هذه العقيدة من مثل هذا النوع، فنقول: إننا -إن شاء الله تعالى- سوف نقتصر عَلَى الأمور التي يكون إيضاحها:
    أولاً: الأمور النقلية التي جاءت في الآيات والأحاديث.
    ثانياً الأمور العقلية التي تكون واضحة وجلية، أما القضايا الكلامية التي فيها تعقيدات، أو التي فيها بحوث متعمقة جداً نضيع من أجلها ساعات وراء ساعات، وقد يكون في الحاضرين من لا يستطيع أن يفهم هذه المصطلحات ولا يدركها، فهذه إن شاء الله سوف نضرب عنها صفحاً، ولأن هذه الموضوعات معقدة أو بعضها معقدة جداً، ويحتاج الإِنسَان أن يبين كل كلمة وكل مصطلح، فتضيع الفائدة العامة عَلَى الجميع، وهذا الأمر ليس بدعياً من عندنا، بل حتى في الجامعات كما هو معلوم أن هذا الكتاب مقرر في كليات المملكة جميعاً -تقريباً- وأن هناك مقاطع تحذف من المنهج إذا كانت في مثل هذه الأمور، لكن نقول: إن هذه التفصيلات ليست صعبة جداً لكن نَحْنُ ننبه إِلَى ما بعدها، وإلا ففي الإمكان أن تفهم وسنوضح هذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا إن شاء الله، بكلام إذا فهم تفهم جميعاً بإذن الله
    فنقول: كل إنسان عنده إرادة وإحساس، فهو حساس ومريد، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}؛ لأن كل إنسان من البشر هو حارث وهمام، مؤمناً كَانَ أو كافراً، غبياً أو ذكياً، ما دام أنه إنسان فهو حارث وهمام، أي له إرادات واعتقادات وتصورات، ويقوم بأعمال يعملها بناءً عَلَى هذه الإرادات والإحساسات، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فطر كل إنسان أن تكون إراداته وهمه وحرثه فيما ينفعه لا فيما يضره، فأي إنسان عندما يعمل أي عمل إنما يجتهد في عمل ما ينفعه، وإن كَانَ قد يكون ضاراً في الحقيقة، مثل الكافر الذي يجتهد في عبادة الأصنام فهذا شيء آخر، المهم أن يكون اجتهاده حسب ما يعتقد هو ويرى أنه نافع له، فهذه حقيقة واضحة فإذا كانت الفطرة بهذا الشيء، وكان الإِنسَان حارثاً وهماماً، وأنه لا يعمل ولا يكدح إلا فيما يعتقد أنه ينفعه، لا فيما يعتقد أنه يضره.
    فالمشاهد والمحسوس الآن عند النَّاس جميعاً أنهم يتجهون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن كل البشر الذين يولدون، يولدون وهم يريدون أن يتبعوا ديناً ما، ويتجهون إِلَى ربٍّ ما، كما سبق أن بينا شبه من يقول: إن الشيوعيين لا يتجهون إِلَى إله، بأن الشيوعي قبل أن يلقن مبادئ الحزب، وقبل أن يعرف أن مصلحته الدنيوية هي في اتباع هذا الحزب، هو أيضاً متجه إِلَى الإله بأي شكل من الأشكال، ولا يوجد عَلَى الإطلاق في أي عصر من العصور، وفي أي أمة من الأمم لا يوجد أبداً مجتمع بلا دين أبداً، حقاً كَانَ أو باطلاً، المهم أن هناك اتجاه إِلَى أن يكون هناك دين، وإله معبود.
    وقد قلنا إن أكبر الملاحدة من أمثال ألبير كامو الذي هو من المدرسة العدنية -كما يسمونها- وهي مدرسة فلسفية أوروبية قال هذا الملحد: "إن مشكلة الإِنسَان المعاصر تتلخص في كلمة واحدة، وهي البحث عن الإله.
    إذاً فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة تتجه وتبحث عن إله، وتبحث عن دين، وهذا دليل عَلَى وجود الفطرة، وعلى أن هذه الفطرة تتجه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكن قد تضل وقد تصيب، ولنضرب عَلَى ذلك أمثلة واقعية حسية من واقع الحيوان، فالحيوان إذا رأى النَّار ابتعد عنها، ولا يمكن أن يأتي حيوان ويدخل في النار، إلا إذا وقع طريق الخطأ، مثل الفراشة لأنها عندما ترى النَّار تظن أن هذه ألوان الطيف من الجمال، مثل الأزهار الجميلة، فالجمال يجعل الفراشة تقع في النار، مع أنها لا تريد أن تعذب نفسها، ولذلك إذا وقعت في النَّار واحترق جناح من أجنحتها تهرب وتحاول أن تتحرك لتبتعد عن النار، فكل إنسان متجه إِلَى ما ينفعه لا إِلَى ما يضره.

    فإن زين له، أو لبس عليه، أو أغري فوقع فيما يضر، فإنه سرعان ما يحاول الخروج، وذلك مثل الكفار، عندما تزين لهم الشبهات فيعبدون غير الله، فالاتجاه إِلَى الإله موجود، لكن زينت لهم الشبهات والشهوات، وسول لهم الشيطان أن يعبدوا غير الله، فعبدوا غير الله ووقعوا في النَّار فعندما يقولون: ((رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)) [المؤمنون:107] يدعون الله ويتمون أن يخرجهم من النَّار لأنهم قد وقعوا فيها بسبب التلبيس؛ لكن هل المُشْرِكُونَ والكفار عبدوا غير الله ليدخلوا النار؟
    لا؛ بل قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3] فهم لا يريدون أن يدخلوا النار، ولا يعبدون أصنامهم إلا لتدخلهم الجنة إن كَانَ هناك بعث.
    وقد قالوا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن افترضنا عَلَى كلامك أن هناك جنة وناراً.
    فنحن أهل الجنة لأننا أكثر أموالاً وأولاداً في هذه الدنيا، وقالوا مرة أخرى نَحْنُ الذين بنينا البيت ونحن الذين نعظم الحرم، ونسقي الحجاج، فإن كَانَ هناك من جزاء ومن عمل يحاسب عليه الإِنسَان جزاؤه الجنة، فنحن من أهل الجنة.
    فالشاهد مما سبق أن كل إنسان يتجه إِلَى ما ينفعه، وإلى ما يعتقد أن فيه مصلحته، ما لم يأت صارف فيصرفه عن ذلك، مثل ما جاءت الشياطين فاجتالت بني آدم عن دينهم وقالت: إن عبدتم غير الله فهذا خير لكم، مثل ما زين الشيطان لأبوينا عندما قال لهما: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)) [الأعراف:20] سُبْحانَ اللَّه! آدم عَلَيْهِ السَّلام نسي ما أخذه الله عليه من العهد، ووقع في المعصية؛ لأنه طمع أن يكون من الملائكة أو أن يكون من الخالدين.
    ونسي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تكفل له ما دام فيها ولم يأكل منها، أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يضحى ولا يمسه أي أذى أو نصب أو ألم، لكنه نسي طمعاً في لذة أعظم من اللذة الموجودة، فالإِنسَان حساس ومتحرك وله إرادات، ولا يعمل أي عمل إلا وفيه مصلحته، وإن عمل غير ذلك فلأنه في تصوره يسعى إِلَى لذة أعلا، وإلى مصلحة أعظم، فهذا دليل عَلَى وجود الفطرة وأن الفطرة تتجه في طبيعتها إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
    ولو خلي الإِنسَان -الذي يبحث عن الحق مع نفسه- لاتجه إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، لكن تأتيه شياطين الجن والإنس، فتلبس له الشرك وتزينه له.
    وإذا قلنا: إن توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحق وهو النافع، فلو عرض عَلَى أي إنسان يهودي أو نصراني أو مجوسي فإنه يتجه إليه، ويترك التكذيب الذي يؤدي به إِلَى النار، وإنما يقع الشرك؛ لأنه يلبس عَلَى الإِنسَان الذي ينفعه بالذي يضره، لكن لو خليت الفطرة.
    ولو جئنا إِلَى هذا الإِنسَان، وأقنعناه أن يترك تقليده الذي مشى عليه، ويترك الفلسفات التي ورثها، ويتخلى عن حقده للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لدين الإسلام، ويتخلى عن تعصبه، أي لو قلنا له: أزل هذه الموانع الخارجية جميعاً.
    ثُمَّ انظر إِلَى نفسك فاختر الدين الذي تريد، ثُمَّ أزال هذه جميعاً، وأخذ يقرأ القُرْآن وبدأ بالفاتحة مثلاً ثُمَّ بالبقرة، وقرأ في الأحاديث، فإنه سيجد أن هذا هو الدين الحق، وسوف يؤمن به، وإذا قرأتم قصص الذين دخلوا في الإسلام، وما كتبوه، لوجدتم هذا الكلام تصديقا لما قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا؛ أنه إذا خليت النفس عن الموانع الخارجية، من التقليد أو الاتباع فإنها تهتدي إِلَى الدين الحق.
    تجد الواحد منهم يقول: قرأت أديان الهند، وقرأت أديان الصين، ودخلت في دين كذا ودين كذا، ثُمَّ لم أقتنع بها، وأخذت أبحث عن الدين الحق وهنا جَاءَ ما يقوله المُصنِّف أن الفطرة تبحث، وأنها لو تركت لاهتدت، يقول أحدهم: في أثناء البحث تعرفت عَلَى شاب مسلم، أو وقع بيدي نسخة من القرآن، فلما قرأت عرفت أن هذا هو الدين الحق، فاهتدى الرجل فأسلم، فهذا دليل عَلَى وجود الفطرة.

    لكن الفطرة وحدها لا تهتدي فقد تضل، والذي يقوم الطريق ويمنع الفطرة من الخطأ هو الوحي، ولذلك لم يؤاخذنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يحاسبنا بمقتضى العهد الذي أخذه علينا في عالم الذر، ولم يحاسبنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو يؤاخذنا بمقتضى الفطرة التي فطرها في أنفسنا، وإنما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، لئلا يكون للناس عَلَى الله حجة بعد الرسل، -أي: أن الحجة والبلاغ إنما هي بدعوى الأنبياء- فهذا من حكمة الله، ومن فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا؛ أنه لا يعذب أحداً ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً))[الاسراء:15] مع قيام الحجج في الفطرة، وقيام الحجج في العقل، ومع الميثاق الذي أخذه الله في عالم الذر، والبراهين التي جعلها في الكون والنفس والآفاق، مع ذلك كله فإن العذاب ودخول النَّار لا يكون إلا عَلَى ما يبلغ الإِنسَان من العلم النبوي.
    فهذا ملخص لهذه للأوجه التي ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا، وهو أن الفطرة تتجه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الإِنسَان لديه قابلية الاتباع، كما أن لدى كل إنسان قابلية التعلم والعبادة لله، والاهتداء بهديه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما لم يحل حائل، أو يأتي حجاب من الحجب يحجب الإِنسَان عن التوحيد، فإن بني آدم جميعاً يتجهون إِلَى التوحيد.
    وكل مسلم عَلَى ظهر الأرض فليس مقلداً؛ لأنه مؤمن بالله بمقتضى الميثاق في عالم الذر، وبمقتضى الفطرة التي خلقه الله تَعَالَى عليها، وبمقتضى الإيمان بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإيمان البدهي الذي هو أقوى من البراهين النظرية العقلية، ومع ذلك فلكل مؤمن براهينه وحجته التي أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إياها عَلَى قدر علمه وعلى قدر ما بلغه.
  3. دليل على وجود الله والكلام عليه

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [ويُحكى عن أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فَقَالَ لهم: أخبروني -قبل أن نتكلم في هذه المسألة- عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلأ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟!
    فَقَالُوا: هذا محال لا يمكن أبداً!
    فَقَالَ لهم: إذا كَانَ هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟!
    وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة أيضاً.
    فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هَؤُلاءِ النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه كَانَ مشركاً من جنس أمثاله من الْمُشْرِكِينَ]ا.هـ.

    الشرح:
    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ويُحكى عن أبي حنيفة] كلمة "يحكى" أو "يُقال" معناها: أن الخبر فيه كلام، فليس موثوقاً، والحقيقة أن هذه الواقعة لا تتصور أنها تصح عن الإمام أبي حنيفة لأنه لا يمكن أن يتجرأ أحد من الملاحدة في عهد الإمام أبي حنيفة وفي أوائل القرن الثاني، ويقول أنا أنكر وجود الله، ثُمَّ يؤتى به إِلَى الكوفة إلى عالم من أكبر علمائها ويقول له: أنا أريد أن أناظرك!! لأنه حتى في هذا العصر -والْحَمْدُ لِلَّهِ- عَلَى ضعف إيماننا، وعلى ضعف علمنا، لا يتجرأ الملحد أن يأتي فضلاً عن أن يبحث عن عالم من علماء الْمُسْلِمِينَ الكبار ويقول: أنا أريد أن أناظره، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضرب عليهم الذل، وعلماء الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمُونَ جميعاً حتى العامة منهم يرفضون أصلاً أن يقابلوا مثل هذا الإِنسَان، أو يتحدثوا معه، فضلاً عن أن يفتحوا له الطريق ويقبلوا المناظرة، ويقولون وإذا لم نقنعك نذهب بك إِلَى الإمام أبي حنيفة نقول: هذا لا يمكن ولا يتخيل لكن هذا مما يذكره بعض المتكلمين ليبينوا أن الأئمة الأربعة وغيرهم قد عرفوا الأدلة والبراهين والحجج العقلية، ومثل ذلك ما ينقل عن الإمام أَحْمَد والإمام الشَّافِعِيّ أنهم قالوا: انظروا إِلَى هذه البيضة أو عجبت لهذه البيضة، التي ظاهرها هذا العظم وباطنها الماء، ثُمَّ يخرج منها ذلك الحيوان ثُمَّ يكون له العين والمنقار والرئتان، مع ذلك نقول أن هذه النقولات لو ثبتت فليس معنى ذلك أن دليل الإمام أَحْمَد عَلَى وجود الله، هو هذه البيضة، أو أن دليل الإمام أبي حنيفة عَلَى وجود الله وعلى توحيد الربوبية هو السفينة.
    أو من قال من الأئمة: من أراد أن يعرف الله فلينظر إِلَى الإِنسَان كيف خلق من طين، ثُمَّ من ماء، هذه أمثلة وعبر، مثلهم مثل أي واحد يرى منظراً في ملكوت الله في السماء فَيَقُولُ: سُبْحانَ اللَّه كيف ينكر الله عَزَّ وَجَلَّ أحد؟!
    انظر هذا دليل عَلَى ربوبية الله، فليس هذا هو دليله الوحيد الذي يقوم إيمانه ويعتمد عليه إنما هو كمثال من الأمثلة وكدليل من جملة الأدلة، فهذا الدليل دليل السفينة يذكر كذلك، ولا يعني هذا أننا لا نؤمن بالله إلا بناء عَلَى هذا الدليل، أو أن هذا هو حجتنا الوحيدة، أو أننا لا نملك عَلَى وجود الله إلا أمثال هذه الأدلة.

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له في كل شيء آية تدل عَلَى أنه واحد تَبَارَكَ وَتَعَالَى ووجوده أيقين في النفوس من وجود المخلوقين أنفسهم؛ لأننا نعلم أن هَؤُلاءِ المخلوقين إنما وجدوا؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم، فوجود الخالق الموجد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيمان النفس به أكثر يقيناً من يقينها بوجود بلد اسمه أمريكا أو الهند، ومع أنه قد يكون الإِنسَان ربما لم يرها قط ومع ذلك هو مؤمن بوجودها، فالإيمان بوجود الله أعظم وأكثر يقيناً من اليقين بذلك؛ لأنه تمتلأ به الفطرة والقلب قبل أن يعرضه الدين عَلَى المباحث العقلية النظرية والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر هذا المثال. وتفسيره واضح.
    ونختتم بما ذكره مؤلف منازل السائرين، وهذا الكتاب ألفه الإمام أبو إسماعيل عبد الله الهروي والذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين شرح منازل السائرين وهو المذكور هنا في قوله: "ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ويجعلونه غاية السالكين".
    أما المتكلمون والنظار فقد سبق الحديث عنهم، وأما هذا الهروي صاحب منازل السائرين فإنه قد وقع -عفا الله عنه- فيما وقع فيه الصوفية من الحديث عن الفناء، حيث قالوا: إن حقيقية الفناء وحقيقة التوحيد، هو توحيد الربوبية: أن تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وأنه لا فاعل إلا الله.
    وسيأتي تفصيل هذا قريباً، كما سيأتي ذكر الأبيات التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عن الهروي نفسه، وهي أبيات مردودة في موضوع التوحيد، وهذا الكلام الذي ذكره الهروي نقله صاحب حلية الأولياء عن الجنيد، وهو من كلام الصوفية حيث يعتقدون أن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد فمن وصل عندهم إِلَى توحيد خاصة الخاصة فهو الذي يصل إِلَى اعتقاد أنه لا فاعل إلا الله، وأن كل ما في الكون إنما يتحرك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الله هو الذي حركه، أي: حقيقة الفعل هذه منسوبة إِلَى الله.
    فلا ترى لغير الله فعلاً ولا حركة ولا إرادة فهذا هو غاية التوحيد عندهم، أما ما دمت تثبت فعلين، فأنت لا تزال في توحيد أقل، أو في الشرك كما قال ذلك ابن سينا حيث قَالَ: القُرْآن كله شرك، والعياذ بالله، وهذا كلام الفلاسفة، وأخذه الصوفية في الأصل أخذوا عن الفلاسفة، من اليونان والهنود، لكن فلسفة هَؤُلاءِ فلسفة روحانية، وأولئك فلسفة عقلانية.
    والشاهد أن دعاوى المتكلمين والنظار، ودعاوى الصوفية وأمثالهم، أن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وهذا مردود عليهم؛
    لأن التوحيد الحقيقي هو توحيد الألوهية، فهو الذي أمر النَّاس أن يتدرجوا فيه حتى يعرفوه حق معرفته، ويقوموا به حق قيامه، وكما سبق أن بينا أنه ليس كل الصوفية يقولون بوحدة الوجود، وليسوا جميعاً يقولون: إن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وإنما النَّاس دائماً درجات ومراتب في البدعة، أو في الضلالة، أو في الشرك، أو الكفر، فهم درجات ومراتب، والكلام عَلَى المنهج العام يختلف عن الكلام في الأعيان والأشخاص.
    فالأشخاص فيهم من يأخذ بذلك المنهج كله، وفيهم من يأخذ منه ببعضه، وفيهم من ينتسب إليه بالاسم ويدعيه وهو لا يعرفه ولا يأخذ منه بشيء، فالشاهد هو هذا، وسوف يأتي -إن شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مزيد من الحديث عن الهروي وعن كتابه عند الحديث عن الأبيات التي ذكرها في نفس هذا الموضع فيما سيأتي.