المادة    
  1. أهمية توحيد الألوهية

    موضوع توحيد الألوهية هو موضوع مهم، يبنغي لنا أن نعيد النظر والكرة إليه ونتأمله، لا سيما أنه في هذا الكتاب قد لا يعود إلينا إلا في الأخير في مواضيع متفرقة، لأن الشغل الشاغل لـابن أبي العز رحمه الله تعالى- هو توحيد الأسماء والصفات، ثُمَّ ما يتعلق بمسائل العقيدة الأخرى، كالقدر والإيمان والصحابة وكرامات الأولياء ونحو ذلك، أما موضوع توحيد الألوهية فهو عَلَى أهميته لم يكن هو الموضوع الأساس في هذه العقيدة، وإنما هو أحد هذه الموضوعات.
    فجدير بنا أن نراجعه، وأن نتأمله، وأن نرجع إِلَى الأصول التي شرحته وبينته، ولا سيما كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، فإنه من أعظم الكتب التي فصلت في هذا الجانب، وبينت أن توحيد الربوبية لم تكن تنازع فيه الأمم السابقة، أي: الإيمان والإقرار والاعتراف بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الخالق الرازق، المحيي المميت، الذي يدبر الأمر وينزل الغيث، ولم تقع العداوة والخصومة فيه بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وإنما جَاءَ الرسل والأنبياء من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى النَّاس ليقولوا لهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه))[هود:61] أي: جاءوا داعين إِلَى إفراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية.

    فهذا هو الذي وقعت فيه الأمم، أي وقعوا في شرك العبادة، عبادة غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ودعاء غير الله والاستغاثة بغير الله، ورجاء النفع أو الضر من عند غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، واعتقاد أن غير الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يعلم الغيب أو يملك من الأمر شيئا، هذا هو الموضوع الذي وقع به الشرك. عندما اختلف النَّاس بعد أن كانوا عشرة قرون بعد آدم -عَلَيْهِ السَّلام- عَلَى التوحيد كما قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: فاختلفوا ((فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين)) [البقرة:213].
    فكانوا عشرة قرون عَلَى التوحيد، حتى جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحولتهم وصرفتهم من التوحيد إِلَى الشرك،
    فوقع الشرك في قوم نوح، وهي أول أمة مشركة بسبب تعظيم الأولياء الذين يظن النَّاس فيهم الخير، فكان ذلك ذريعة إِلَى الشرك، وموصل إليه.
    فإن هَؤُلاءِ الذين ذكرهم الله من آلهتهم ودّاً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً كانوا رجالاً صالحين من قوم نوح،
    كما في الحديث الذي رواه الإمام البُخَارِيّ في صحيحه، فأراد الشيطان أن يضل قوم نوح فَقَالَ لهم: {لو صورتم هَؤُلاءِ وعملتم لهم التماثيل لتذكرتم عبادة هَؤُلاءِ لله، وتذكرتم قربهم من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فعبدتم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل ما يعبده هَؤُلاءِ} هكذا زين لهم الشيطان في أول الأمر، فوضعت التماثيل لهم ليتذكروا بها عبادة الله سبحانه فقط.
    ثُمَّ نسخ العلم، وتخلف الخلوف، وهكذا عادة الأمم، تخلف خلوف وأجيال فتنسى الغرض الأساسي الذي من أجله أنشئت البدعة أو نصب التمثال، فيتخذ التمثال أو الصورة إلهاً معبوداً من دون الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    فحدث ذلك وعبدت هذه الآلهة من دون الله، فهذا هو أحد أسباب وقوع الشرك في بني آدم،
    وهو ما ذكره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من العدل أو من التسوية التي قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) [الأنعام:1] وقال في آية أخرى حكاية عن أهل النار: قالوا: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:97، 98].
    فهم عدلوا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ غيره، وسووا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غيره في التعظيم والمحبة والتقديس، لا في اعتقاد أن غير الله هو الذي يخلق أو يرزق أو يضر أو ينفع أو يحيي أو يميت أو يدبر الأمر أو ينزل الغيث، بل هو من شرك المحبة والتعظيم والتقديس، كما قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165] وهو من أخطر وأعظم أبواب الشرك.

    ومن لوازمه: أن هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ وإن كانوا يدعون هَؤُلاءِ الصالحين أو الأَنْبِيَاء أو المقربين وقت الرخاء، فإنهم كانوا إذا ركبوا في الفلك، وجاءتهم الريح من كل مكان وأحاط بهم الموج دعوا الله مخلصين له، ويتضرعون طالبين منه الغوث، وهذا بخلاف شرك المتأخرين، فإنهم يدعون غير الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الرخاء والشدة.
    وهذا من أعظم البلاء الذي وقع في هذه الأمة، نسأل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن يرفعه عنها فالذي وقع أنهم يعتقدون أن لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تصرفاً في الربوبية، فالمُشْرِكُونَ الأولون كانوا يعتقدون أن آلهتهم إنما هي شفعاء، تقربهم إِلَى الله زلفى، ولكن الْمُشْرِكِينَ المتأخرين يعتقدون في آلهتهم ومعبوداتهم أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وهذا ما لم يقع فيه أصحاب الشرك الأول، وهو دليل عَلَى انحطاطهم، فإن البشرية كلما تقدم بها الزمن وكلما بعدت عن رسالات الأَنْبِيَاء ازدادت انحطاطاً وشركاً عياذاً بالله.

    وأعظم المصائب أن يقع هذا الشرك ممن ينتمي إِلَى أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيعتقد أن الأقطاب أو النجباء أو الأبدال أو الأولياء يملكون النفع والضر والخلق والرزق والتصرف في الكائنات، كما يزعمون أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قد وكل أمر تصرف العالم إِلَى هَؤُلاءِ الأولياء، فهم يتصرفون فيه كما يشاءون، ويقولون ذلك تلبيساً عَلَى الناس، حتى إذا قال أحدهم: الله هو المتصرف في كل شيء قالوا: نعم. إن الله هو المتصرف في كل شيء.
    ولكنه تَعَالَى يعطي من يشاء فيتصرف في ملكه. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إن أكرم أحداً من العباد أو من الأولياء أو الصالحين فلن يعطيه شيئاً من خصائص الألوهية، لأن هذه ألوهيته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهي التي من أجلها خلق السماوات والأرض، فالملائكة المقربون والأنبياء والمرسلون، ثُمَّ بعد ذلك عباد الله جميعاً والخلق جميعاً يعبدون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويتوجهون إليه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وهذا هو شأنهم، وهذا هو ديدنهم جميعاً، فلا يمكن ولا يصح بحال من الأحوال أن يعطي الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أحداً منهم شيئاً من خصائص الألوهية.

    بل هذا تكذيب لما هو ثابت بالقرآن والسنة وعلى ألسنة جميع الأَنْبِيَاء من أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الإله.
    فإن قالوا: إن الله هو الذي يعطي هَؤُلاءِ الأولياء التصرف في الأكوان، والقدرة عَلَى الخلق والرزق والأحياء والإماتة... فإن هذا من الباطل الذي ترده بديهة المسلم وفطرته، لعلمه اليقيني أن الله تَعَالَى إنما بعث الأَنْبِيَاء من قبل وبعث آخرهم محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليفرده النَّاس بالإلهية، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] فكيف يجعل -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غيره إلهاً وطاغوتاً يعبد من دونه؟!

    ومن أسباب وقوع الشرك: تعظيم الكواكب أو القياس عَلَى الكواكب، كما قلنا: إن الحرانيين الصابئين -قوم إبراهيم- والأمم قبلهم من الكنعانيين والبابليين والآشوريين وكثير من الأمم البائدة، كانوا يعتقدون أن للأفلاك والكواكب تأثيرات وتدبيرات في العوالم السفلية، ومن أجل ذلك بنوا الهياكل، ثُمَّ صوروا عَلَى مثال تلك الكواكب الأصنام. ونحتوها، وأخذوا يعبدون هذه الأصنام من دون الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بسبب هذا الاعتقاد.
    وذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الأحاديث الصحيحة في النهي عن عبادة القبور، وعن اتخاذ القبور مساجد، وهي أحاديث كثيرة وصحيحة.
  2. حديث اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد لا يفهم منه جواز تعظيم القبور والتقرب إليها

    ولكن هنا إشكال يرد، ونحب أن نفصل فيه حتى تزول الشبهة، وهو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى الإمام مالك في الموطأ عنه أنه قال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} فأورد بعض دعاة الشرك قديماً وحديثاً أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجاب الدعوة، وهو في هذا الحديث قد دعا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، إذاً فلن يعبد قبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمهما عبدنا، ومهما دعونا القبر، ومهما استغثنا، ومهما طفنا، فهذه ليست بعبادة.
    وهذه الشبهة هي من أعظم شبهاتهم -كما يظنون- ولكنها إذا عرضت عَلَى الدليل العلمي الصحيح تزول بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتنكشف،
    وكما سبق وأن قلنا ونعيد القول بأن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ودعاة التوحيد -ولله الحمد والمنة- مستعدون للإجابة عن أية شبهة علمية يوردها هَؤُلاءِ، فالجواب عليها موجود عند علماء أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وفي كتبهم، ولذلك نَحْنُ نريد من هَؤُلاءِ النَّاس أن يحرروا عقولهم من التقليد والتبعية لغير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينظروا إِلَى الأمور بنظرة علمية خالصة جادة، فإذا وافقوا عَلَى ذلك، ولم يبق إلا مثل هذه الشبهات العلمية، فان الجواب عنها قريب بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وأما الشبهات التي هي هوىً وظنون وتأويلات من عند أنفسهم، فهذه يجب عليهم هم أن يردوها، وكذلك ما كَانَ بالتقليد كقولهم: هذا رواه الأولياء، أو هذا ثبت بالتجربة عند المشايخ، أو هذا مما لُقِنَاهُ بالعلم الباطن أو نحو ذلك، فإن هذا الكلام مردود أصلا وبداهةً ولا نناقش في هذا الكلام، إلا عَلَى سبيل رده جملةً وتفصيلاً، لكن إذا جاءونا بأدلة علمية وَقَالُوا: قال الله: أو قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنهم فهموا الآية عَلَى غير وجهها، أو فهموا الحديث عَلَى غير وجهه، قلنا لهم: نعم، إذاً؛ نَحْنُ وإياكم نبحث عن الدليل العملي الصحيح ونتبعه بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    هذه قاعدة عامه في مجادلة هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ، ولا نجادلهم إلاّ بالتي هي أحسن.

    فنقول: إن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}.
    الكلام عليه يتلخص في أمرين:
    الأول: في ثبوته.
    والثاني: في معناه، وفي رد شبهة الْمُشْرِكِينَ في الاستدلال به.
    أما ثبوت هذا الحديث: فإن الإمام مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ- قد رواه في الموطأ مرسلاً عن زيد بن أسلم، وروي أيضاً مرسلاً عن عطاء، والحديث المرسل هو: الحديث الذي سقط منه الصحابي، يعني أن يقول التابعي: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا الحديث يسمى مرسلاً، كما قال الناظم: (ومرسل منه الصحابي سقط) وزيد بن أسلم أو عطاء تابعيان، ومثل ذلك سعيد بن المسيب رحمهم الله، والزهري، ونافع، وأمثالهم ممن يروون عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فإذا قال أحد هَؤُلاءِ التابعين: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يذكر الصحابي الذي روى عنه -فلم يقل عن أنس ولا عن جابر ولا عن أَبِي هُرَيْرَةَ- فهذا الحديث يسمى مرسلاً.
    والمرسل لا يحتج به بعض العلماء، لأنه يحتمل أن التابعي رواه عن تابعي أو عن أكثر من تابعي، فقد يروي الرجل الحديث عن اثنين أو عن ثلاثة من أقرانه، ثُمَّ يكون الثالث أو الرابع رواه عن صحابي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتابعي لم يدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما أدرك الصحابة.
    فالتابعي وإن كَانَ ثقة، لكنه قد يروي عن تابعي ضعيف، أو تابعي غير مقبول، وذهب بعض علماء الحديث وكثير من الفقهاء إِلَى أن المرسل مقبول يحتج به، وَقَالُوا: إن التابعي إذا قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه إنما قاله متأكداً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قاله، وراوياً له عن الصحابي الذي أسقطه، لأنه ليس من الضروري أن يذكر الراوي من روى عنه، فهو يقول: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقينه أنه سمع هذا الحديث من أحد الصحابة، هذه وجهة نظر الآخرين.
    وتوسّط في ذلك بعض العلماء فَقَالُوا: إنّ بعض التابعين يقبل حديثه المرسل بإطلاق، كـسعيد بن المسيّب رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه إذا قال:قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإنّا نقبله بإطلاق، وأمّا بعضهم فإنّ مراسيله غير مقبولة كـالزّهري مثلاً، كما قال العلماء، فـالزهري وغيره يروون كثيراً جداً عن التابعين وعن أقرانهم، ويرفعون أحاديث كثيرةً إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قال مثل هَؤُلاءِ: قال رَسُول الله. فإنه لا يقبل، وخاصة من كَانَ منهم من صغار التابعين.

    فالحديث رواه الإمام مالك مرسلاً، وهذا المرسل مردود عند بعض العلماء ومقبول عند بعضهم، ثُمَّ أورد لهذا الحديث بعض طرق روي بها مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري، وأورد الإمام أَحْمَد في المسند له شواهد، فنقول: إنّ الحديث بمجموع هذه الشواهد يرتقي إِلَى الصّحة.
    وأما دلالة هذا الحديث ومعناه فنقول لهم: إنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل كل الأَنْبِيَاء ليسوا مجابي الدعوة بإطلاق، فليس صحيحاً أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستجاب له كل دعوة يدعو بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا غرابة فيه، بل وردت وصحت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث لم يستجب فيها دعاؤه، لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له حكم عظيمة لا يدركها أحدٌ من البشر وإن كَانَ نبيّاً.
    وهو -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قد قدر أقدارًا، وقد كتب في اللوح المحفوظ أقداراً وأموراً مما تقتضيها حكمته، فتقع هذه الأمور وتجري في الكون، ولا يحيط الأَنْبِيَاء ولا غيرهم بها علماً.
    فيأتي النبي فيدعو الله بدعوة، ويكون الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قد قضى وقدر أن هذا الأمر يمضي وينفذ، فلا تستجاب دعوة النبي في هذا الأمر، ولا يعني هذا أن النبي غير مقبول عند الله، فإن جميع الأَنْبِيَاء مقبولون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا سيما رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أفضلهم، وهو سيد ولد آدم يَوْم القِيَامَةِ ولكن لله تَعَالَى حكم عظيمة.

    مثال ذلك: لو أن أحداً منا كَانَ رجلاً صالحاً تقياً عابداً، لا يدعو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في شيء إلا واستجاب له، وقد كَانَ في هذه الأمة من هو مجاب الدعوة مثل: سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فلو دعا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلاً، أو يبعث أبا بكر حتى يراه، لا يقبل دعاؤه، لأنه وإن كانت دعوته مستجابة فإن الدعاء لا يجوز الاعتداء فيه، وهذا من الاعتداء في الدعاء، فلا يصح أبداً أن تدعو الله به. فإذا دعوت الله تَعَالَى به فإنك معتد في الدعاء، وهذا الدعاء مردود، وإن كنت مستجاب الدعوة في أمور أخرى. وهكذا ما يذكر في قصة عابد بني إسرائيل -وقد كَانَ مجاب الدعوة- فقيل له: ادع الله عَلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام، فلما دعا اندلق لسانه -والعياذ بالله- وكان ذلك شؤماً عليه وخسارة.
    ولهذا جَاءَ الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دعا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثلاث دعوات، فاستجاب الله له دعوتين ولم يستجب له الثالثة، ثُمَّ بين الله تَعَالَى ذلك فقال:{يا مُحَمَّد إني إذا قضيت قضاء فإن قضائي لا يرد} فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن لا يهلك أمته بسنة بعامة أي: بالجدب والقحط العام الذي يفنيهم جميعا، كما بينته الرواية الأخرى، وفي رواية أخرى أعم من ذلك دعا الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- {أن لا يهلكهم بما أهلك الأمم قبلهم}، وفي بعض الروايات -وهي كلها صحيحة- عينت أنه الغرق، قَالَ: {اللهم لا تهلكهم بالغرق، أو قَالَ: دعوت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق} فاستجاب الله له.
    والدعوة الثانية: {أن لا يسلط عَلَى أمته أهل الشرك} وفي رواية قال: {ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم} فاستجاب الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لا يسلط علينا الكفار فيستأصلونا جميعا، فإنه لا تزال في هذه الأمة طائفة باقية، ولا تزال طائفة منصورة يقاتلون عَلَى أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، فلا يسلط الله علينا اليهود ولا النَّصَارَى ولا الْمُشْرِكِينَ، فيبيدونا إبادة تامة حتى لا يبقى عَلَى وجه الأرض مسلم، فهذا لا يقع.
    والدعوة الثالثة: {أن لا يجعل بأسنا بيننا شديداً}.
    وهذه لم تُستجب للرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الله تَعَالَى له: {يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإن قضائي لا يرد، وإني لن أهلك أمتك بسنة بعامة} أو {وإني وعدتها ألا أهلكها بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا}.
    وهذا الذي جَاءَ في الحديث قد جَاءَ في صريح القُرْآن مع بيان سبب النزول، وهو قول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في سورة الأنعام: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض)) [الأنعام:65].
    روى الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الآية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)) [الأنعام:65] قَالَ: {أعوذ بوجهك}. فاستعاذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علينا عذاباً من فوقنا، إما القذف بالحجارة من السماء، وإما الغرق والمطر أو أي عذاب يأتي من السماء، كالصيحة أو الصاعقة ونحو ذلك، قَالَ: ((أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)). فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعوذ بوجهك} فاستجاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له وأعاذنا من أن يرسل علينا عذابا من تحت أرجلنا، وهو الخسف أو الغرق أيضا، أو أي عذاب يكون من تحت أرجلنا فيهلك الأمة عامة، وإلا فإن الخسف قد يقع لبعض الأمة والغرق والزلازل، ثُمَّ قَالَ: ((أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض)) قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذه أهون، هذه أيسر} فهذا يدل عَلَى أن هذه الآية نزلت بعد أن دعا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالدعوات الثلاث، فلم تستجب له الدعوة الثالثة. فلذلك لم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الثالثة: أعوذ بوجهك. بل قَالَ: {هذه أهون هذه أيسر} هذا هو الظاهر، والله تَعَالَى أعلم.

    ولكن المهم من ذلك أنه كما روى الإمام مسلم، والإمام أَحْمَد في المسند وغيرهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استجاب الله له دعوتين ولم يستجب له الثالثة، وقد ورد في طرق هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى صلاة حسنة طويلة خاشعة فَقَالَ له معاذ -وفي بعض الروايات خباب-: يا رَسُول الله إنك صليت صلاة ما رأيتك صليت مثلها من قبل! قَالَ: {نعم، إنها صلاة رغب ورهب}.
    فصلى هذه الصلاة ليتضرع إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويدعوه بأمر مهم عظيم جداً فقَالَ: {إني صليت هذه الصلاة، وإني سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة}

    دليل آخر -وهو أيضاً صحيح- رواه البُخَارِيّ والإمام أَحْمَد وغيرهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كان يقنت بعد الركوع إذا قَالَ: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو عَلَى بعض الْمُشْرِكِينَ، يقول: اللهم العن فلاناً والعن فلاناً}.
    وممن ذكر بالتعيين، بالاسم في هذا الحديث كما في رواية المسند:
    { الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية}.
    وقنت عَلَى قبائل من العرب بأعيانها، فـ{قنت عَلَى رعل وذكوان وعصّية، فأنزل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)) [آل عمران:128]}.
    أي: ليس لك من الأمر شيء، إنما عليك البلاغ والبيان والدعوة، أما إهلاك هَؤُلاءِ فإنه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن شاء تاب عليهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن شاء عذبهم، فالأمر إليه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وحده، فلما نزلت هذه الآية لم يعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدها إِلَى القنوت عَلَى هَؤُلاءِ، ولما كَانَ عام الفتح أسلم سهيل بن عمرو، وصفوان بن أميه، والحارث بن هشام، كما أن القبائل الأخرى أسلمت، ومنها: رعل وذكوان وعصية.
    وكذلك دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مضر، وقد سبق معنا حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا من أول قبائل العرب إيماناً واستجابة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك قالوا، كما في الحديث الذي في البُخَارِيّ ومسلم، {قالوا: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، لأن بيننا وبينك هذا الحي من مضر} وكفار مضر من بني تميم ومن حولهم وكانوا في وسط نجد يحولون بين هَؤُلاءِ القوم وبين المجيء إِلَى المدينة، إلا في الشهر المحرم، فإذا جَاءَ الشهر المحرم وامتنع العرب عن القتل، جاءوا إِلَى رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا من أشد الكفار عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم فقَالَ: {اللهم اشدد وطأتك عَلَى مضر، واجعلها عليهم سنينَ كسني يوسف} أي: أهلكهم بالجدب فيأخذهم القحط، كما أخذ قوم يوسف عَلَيْهِ السَّلام، بقوا سبع سنوات عجاف، ولم يستجب هذا الدعاء، بل أسلمت مضر بعد ذلك ودخلت في الإسلام، وإن ارتد منهم بعد ذلك من ارتد، فإنهم قد دخلوا في الإسلام واهتدوا وأصبحوا من المؤمنين.

    إذاً؛ فنقول لهَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ أو دعاة الشرك أو أصحاب الشبهات الشركية الذين قالوا: إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد} ودعاؤه مستجاب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمهما عبدنا ومهما فعلنا ومهما أشركنا حول القبر، ومهما طفنا به أو استغثنا به أو شددنا الرحل إليه، فهذا ليس شركاً؛ لأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الله ألا يجعل قبره وثناً، وهذه ليست من الوثنية في شيء!.
    نقول لهم: هذا القول مردود بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا بدعوات ولم يستجب له فيها، ونستطيع أن نتلمس الحكمة في ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد قضى وقدر أن هذه الأمة يكون فيها ما كَانَ في الأمم قبلها، كما ثبت في الحديث الصحيح: {لتتبعن سنن من كَانَ قبلكم حذو القذة بالقذة} فقدر الله تَعَالَى ذلك، ولا راد لقضائه، وقدر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن هذه الأمة تعود إِلَى الشرك، وأن فئام منها تلحق بالْمُشْرِكِينَ، وأنه {لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عَلَى ذي الخلصة} -كما في الحديث الصحيح-، فهذا مما قدره الله ولا راد لقضائه.
    ولكن دعوة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد} فيها فوائد عظيمة لما سبق أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يجمع العبيد الذين عبدوا غير الله، يَوْمَ القِيَامَةِ ويجمع من عُبِدَ أو عبدوهم من دونه، ويسأل هَؤُلاءِ وهؤلاء، ويرى ماذا يجيبون؟!.
    ومن ذلك: أنه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يسأل المسيح عيسى بن مريم: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [المائدة: 116].
    فالله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يسأله ويسأل المرسلين والأولياء والملائكة: هل أنتم رضيتم أن تعبدوا من دون الله؟
    هل أنتم دعوتم النَّاس إِلَى أن يعبدوكم من دون الله؟
    فيقول كل منهم: يا رب لم آمرهم بعبادتي، ولم آذن لهم أن يعبدوني، وما دعوتهم إلا إِلَى التوحيد ولا علم لي بهذه العبادة،كما قال عيسى عَلَيْهِ السَّلام: ((مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) [المائدة:117] فإذا وقع الشرك في هذه الأمة وعملوا مثل ما اعتقد قوم عيسى في عيسى، وعظموا قبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبور الأولياء والصالحين من هذه الأمة، مثل ما عظم اليهود والنَّصَارَى، واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فهنا تنفع دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قد قَالَ: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد} فهذه براءة من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لم يكن راضيا بذلك.
    فهو لعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ذلك سيقع تبرأ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم إني أبرأ إليك ممن سيتخذ قبري وثنا يعبد، فإن فعلوه واتخذوه فهذا أمر لم أرده ولم أرض به ولا أقره، مثل عيسى عَلَيْهِ السَّلام لم يُرد ولم يقر ولم يرض أن يعبده النَّصَارَى من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى عيسى ابن مريم} ويقول كما في هذا الحديث: {لعن الله اليهود والنَّصَارَى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} .

    فهذه الشبهة التي يتعلل بها دعاة الشرك القدامى منهم، والمعاصرون في قولهم: إن ما يفعلونه ليس وثنية وشركاً.
    نقول: إن الوثنية والشرك يقعان في هذه الأمة. ولكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد برأ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضى بهذا الشرك، فأنتم حين تجعلون قبره وثناً وتشدون الرحل إليه وتطوفون به، وحين تدعونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتستغيثون به، قد حاددتم وضاددتم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى في هذا الحديث، فإنه يدعو الله أن لا يتخذ قبره وثناً، وأنتم تتخذونه وثناً.
    وقد جمع الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- الأحاديث التي تدل عَلَى ما استجاب الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لم يستجب له في تفسير قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)) [الأنعام:65].
  3. تنبيه على كلام شيخ الإسلام وابن القيم

    وهنا قضية أخرى ينبغي التنبيه إليها: وهي أن الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- ومثله شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ من قبل في الجواب الباهر قالوا: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد استجاب للرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الحديث-أي: حديث {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد}- فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- لما دفن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضعه -وهذه سُنة دفن الأَنْبِيَاء جميعا- وكان محاطا بالحجرة، ثُمَّ أحيط بالجدران بعد ذلك، ثُمَّ لما أراد بعض الصليبيين أن يعتدوا عَلَى قبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أيام المماليك صب عليه من الرصاص في أطرافه فأصبح مخفيا جداً بهذه الجدران، وهذا مثل ما جَاءَ في الحديث الآخر الذي روته عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: (ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ وثنا) فخشية أن يتخذ وثناً لم يجعل بارزا، ولم يأمر بأن يبنى عليه القبة كما بني عَلَى قبور الأَنْبِيَاء من قبل، وكما فعل اليهود والنَّصَارَى من قبل.
    هذا في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم، ثُمَّ جاءت التوسعة العمرانية في أيام الوليد بن عبد الملك ومن بعده.
    يقول القرطبي: فلما جَاءَ ذلك وخشي النَّاس أن يتخذ القبر قبلة، بني بناء القبر وما حوله عَلَى شكل مثلث وجعل قاعدته من جهة القبلة، ورأس المثلث من جهة الشمال، فإذا وقف الإِنسَان فإنه لا يستطيع أن يتخذ القبر قبلة ولا أن يدعوه لأنه عَلَى رأس القائمة، ولذلك من يظن أنه يعبد قبره أو أراد الوصول إليه فإنه لا يستطيع، بل ولا يستطيع أن يراه. ولكن هذا الذي ذكره هَؤُلاءِ العلماء الأجلاء لا يعارض ولا يمانع ما هو واقع الآن ومشاهد حساً، ووقع في القرون الماضية، وهو أن النَّاس الجهال يتخذون القبر وثنًا، وهذا يدل عَلَى أن هذا الحديث ليس المراد به الإجابة المطلقة، لوقوع ذلك من الجهال، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبرأ ممن يفعل ذلك وسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذلك لكي لا يؤاخذ أو يظن به أنه مقر بهذا الفعل.

    والاحتياطات تبرىء الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عندما أحاطوه بالجدران، وأيضاً تبرئ من بعدهم ممن وضع البناء عَلَى شكل مثلث، ومثل ذلك ما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أرسل خالد بن الوليد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى العزى فقطعها، وأرسل عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب إِلَى القبور والصور فطمسها ومحاها، ومع ذلك تعود عبادة العزى من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ- قبل قيام الساعة، وتعود الأصنام وعبادة القبور.
    فاتخاذ الأسباب والاحتياطات لعدم وقوع الشرك ضروري ومطلوب وواقع، لكن لا يتنافى مع وقوع الشرك بالفعل، مثل ما فعل عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندما قطع شجرة الحديبية، وهذا هو الواجب من سد ذرائع الشرك.

    والآن نعود إِلَى موضوع إثبات الفطرة الذي هو دليلٌ عَلَى توحيد الربوبية، وبيان أن الرسل إنما جاءوا لتقرير توحيد الألوهية