أما موسى عليه السلام فإنه كما قال للنبي عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج: {
إني قد عالجت من أمر بني إسرائيل ما لم تعالج} فقد أرسله الله سبحانه وتعالى إلى فرعون، الذي ما تحـدث الله تبارك وتعالى عن طاغوت كما تحدث عنه، وكانت الحضارة الفرعونية -كما تسمى- قد وصلت في بعض الفنون والعلوم إلى ما تعجز عنه قمة الحضارة العلمية في الغرب اليوم، ولقد كان هذا الجبار مستخفاً بقومه، وكان قومه كلهم جنوداً له وكانوا يصدقونه فيما يقول، يريهم الحق باطلاً والباطل حقاً، فيستجيبون له.
ويأمر الله نبيه موسى عليه السلام: ((
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى))[طه:24].
فمن يتحمل أن يقف ويواجه هذا المجرم الطاغوت الذي حشر الناس جميعاً وقال لهم: ((
أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى))[النازعات:24] وقال: ((
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38]؟! تعالى الله عما يزعمه الفراعنة في كل زمان ومكان وما يقولون علواً كبيراً.
فهو إذن مدعٍ للألوهية والربوبية؛ ويأتي موسى عليه السلام إليه، ويأمره أن يكون عبداً لله، ويدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فمع هذا الكبر والجبروت وادعاء الألوهية، يدعى إلى أن يكون عبداً لله وتابعاً لموسى عليه السلام، وفرعون لا يحتمل هذا أبداً.
أما من جاء من الرسل إلى قوم ليجدد لهم دينهم -كما كان أنبياء بني إسرائيل الذين أُرسلوا إلى قومهم وهم مؤمنون بالتوراة- فهو أسهل مهمة من موسى عليه السلام.
أما موسى فقد جاء إلى هذا الطاغوت المتجبر المتكبر وليس مع موسى إلا أخوه هارون عليهما السلام، ومعهما بنو إسرائيل، وهؤلاء كما قال فرعون: (شرذمة قليلون) لا يؤبه بهم، ومع ذلك يريده موسى أن ينزل من هذه الكبرياء وهذه العظمة المصطنعة ليكون عبداً لله سبحانه وتعالى، وتابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قابله بما قابله به من العناد، ثم جمع له السحرة، وهذا شيء عظيم وموقف مخيف، فخاف موسى عليه السلام لما رأى كثرتهم ورأى حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.. إنها مواقف عظيمة تزلزل القلوب وتشيب الرءوس، ومع ذلك ثبته الله سبحانه وتعالى، فثبت وانتصر عليهم، ثم يؤمر أن يخرج هو وقومه فيدركهم فرعون وجنوده.. كيف يكون حالهم وقد أدركهم هذا العدو الطاغية الجبار وأمامهم البحر؟! فماذا يصنعون؟! ومع ذلك لما قال قومه: ((
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61] قال: ((
كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62] وهذه أيضاً لا يقولها إلا من كان واثقاً ذا عزم وذا إيمان قوي وذا صبر واستعداد لأن يكون أهلاً لمواجهة هؤلاء، ثم يهيئ الله سبحانه وتعالى له ذلك، وتنتهي تلك الأيام السود التي عاشها بنو إسرائيل في
مصر، وينجيهم الله تبارك وتعالى ويُغْرِق الكافرين.
ثم تبدأ صفحة جديدة من الامتحان والابتلاء لموسى عليه السلام مع تلك الأمة العصية العنيدة المراوغة المخاتلة، فيلقى موسى عليه السلام منهم أشد ما لقي فكم عُذب..! وكم أوذي من قومه..! لم يصبه عذاب السجن ولا الأذى الذي يتسلط به الطواغيت على المؤمنين، ولكنه لاقى عنتاً شديداً وإيذاءً -ذكره الله في القرآن- من الأتباع الذين لا ينضبطون ولا يفهمون ولا يفكرون ولا يتبعون الحق رغم وضوحه، بل هم في مجادلة ومخاتلة وعناء ومماحكة، فأتعبوه عليه السلام.
وحين قال لهم: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم وقد وعدكم بالنصر، قالوا: ((
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا))[المائدة:24] فإذا فتحتها أنت وربك فسوف نأتي نحن وندخلها..!
هذه هي أمة العناد، وهكذا طبع الله تعالى قلوب هذه الأمة الغضبية إلا من آمن منهم.
وحين ذهب موسى عليه السلام لملاقاة ربه إذا بهم يعبدون العجل من دون الله ويقول لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى.. فيصدقونه على ذلك، ويعصون نبي الله...!
يروى أن
علياً رضي الله تعالى عنه قال له أحد اليهود: ما إن وضعتم رسولكم -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- في قبره حتى قلتم: منا أمير ومنكم أمير -يعني: المهاجرين والأنصار- أي فكيف يكون هذا الدين حقاً وأنتم اختلفتم على الفور؟! فقال: [[
وأنتم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم: ((اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ))[الأعراف:138]]].
فحينما وجد بنو إسرائيل أولئك الجهال من أهل البادية في
سيناء يعبدون الأصنام قالوا: ((
اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ))[الأعراف:138] فأين الإيمان وأين التوحيد؟!
ففي كل مرحلة تجدون كيف جاهد عليه السلام في سبيل الدعوة إلى الله حتى توفاه الله إليه.
فهو فعلاً من أولي العزم.