المادة    
  1. تعظيم الأولياء والصالحين

    هَؤُلاءِيقول المُصنِّف رحمه الله تعالى:
    [ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها. وشرك قوم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام كَانَ - فيما يقال- من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم. وهَؤُلاءِ كانوا مقرين بالصانع، وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هذه الوسائط شفعاء، كما أخبر عنهم تَعَالَى بقوله: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))[الزمر:3] ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ))[يونس:18] وكذلك كَانَ حال الأمم السالفة -الْمُشْرِكِينَ الذين كذبوا الرسل- كما حكى الله تَعَالَى عنهم في قصة صالح عَلَيْهِ السَّلام عن التسعة رهط الذين تقاسموا بالله (أي: تحالفوا بالله) لنبيتنه وأهله، فهَؤُلاءِ المفسدون المُشْرِكُونَ تحالفوا بالله عَلَى قتل نبيهم وأهله، وهذا بيُّنٌ أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان الْمُشْرِكِينَ.
    فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية، الذي يتضمن توحيد الربو بية. قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُون)) [الروم:30- 36] اهـ
    .
    الشرح:
    يذكر المُصنِّف من أعظم أسباب وقوع الشرك هو تعظيم الأولياء والصالحين من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهناك أسباب أخرى في وقوع الشرك، ومنها: تعظيم الكواكب.

  2. تعظيم الكواكب

    وهذا الشرك وجد عند الصابئين، كما كَانَ عند قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا يعبدون الأصنام بـبلاد الشام تجاه حران وما حولها، فكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وما تزال هذه الهياكل أو بعضاً منها باقية إِلَى اليوم، حتى أن علماء الحفريات والآثار لما بحثوا وجدوا أن أُولَئِكَ القوم كانوا يبنون المراصد والهياكل.
    فهَؤُلاءِ القوم عظموا الكواكب، كما عظم أصحاب القبور قبورهم، والأولياء أولياءهم،
    ويبدو -والله أعلم- أن سبب تعظيمهم للكواكب أنهم رأوا الخلق والرزق والمطر والخير والبركة تنزل من السماء، ورأوا أن هذه أعظم شيء في السماء -كما يرون- فاتجهوا إِلَى تعظيم هذه المخلوقات، ولا سيما وقد أوحى إليهم الشيطان أنه إذا ظهر الكوكب الفلاني في المكان الفلاني يكون الدمار، وتكون الزلازل، ويكون الخسف، وإذا ظهر الكوكب الفلاني واقترب من الكوكب الفلاني يكون المطر، ويكون الخير، والرحمة والبركة، هذا مما أوحى الشيطان إِلَى الكهان والمنجمين منهم، فنظروا إِلَى هذه الكواكب نظرة التعظيم، واعتقدوا أن لهذه الكواكب تأثيراً في العوالم السفلية، وأن ما يقع في الأرض فإنه يكون بسبب تلك الكواكب، ولا يزال هذا فاشياً في الْمُشْرِكِينَ حتى اليوم، بل وبعض من يدعي الانتساب إِلَى هذه الملة يسألك عن نجمك! أو عن برجك! برج السرطان!! يقول لك: حظك طيب، وزواجك موفق وكذا وكذا!! أو يقول لك: لا، أنت من برج العقرب، وخطيبتك من برج السرطان، فلا تتزوجها وابحث عن واحدة من برج الحمل مثلاً!
    هذه الخرافات ما تزال حتى في هذه الأمة -نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ- أن يرفع عنها هذا البلاء والضلال ويردها إليه تائبة موحدة عابدة - فوقع هذا الشرك في الصابئين، ولذا كَانَ الآشوريون والبابليون وأمثالهم يبنون الهياكل العظيمة ويرصدون الكواكب، لا للعلم الجغرافي الذي هو معروف اليوم، وإنما لغرض التقرب إليها، ومعرفة أحوالها، والاستدلال بها عَلَى أحوال العالم الأرضي، وكان لها شياطينها؛ فكانت الشياطين تنزل وتوحي إِلَى أوليائها الأخبار عن أمور معينة، أو أحداث أو أحوال، فيأتي كهنة كل كوكب ويخبرون النَّاس بما أخبرهم، وأوحى به إليهم هَؤُلاءِ المردة والشياطين، فيظن النَّاس أن الإله هو الذي أوحى إليهم، وأنه الذي يملك هذه الحقائق، أو الذي يعلم الغيب، وهو الذي يدبر الكون.
    وكانت كل منطقة من المناطق تنافس المنطقة الأخرى، وتحاربها وتتقاتل معها، عَلَى أن إله هَؤُلاءِ أفضل من هَؤُلاءِ.
    هكذا كَانَ البشر يتخبطون في الضلالات والجهل، ثُمَّ وضعت أصنام في الأرض كما يقولون بما يتناسب مع طباع الكواكب، فبعضهم يعبد الكوكب في السماء، وبعضهم يعبد الأصنام في الأرض، وينحت هيكلاً من صخر؛ ويقول: هذا مناسب لطباع المشتري أو زحل، فيعبد النَّاس هذا الصنم بناء عَلَى تعظيم الكوكب الذي يتناسب مع طباعهم، ويأتي أولياءهم من الجن والشياطين، فتدخل في جوف هذه الأصنام والأحجار، فتكلمهم وتخاطبهم باسم الصنم المعبود، وهذا ما كَانَ حاصلاً إِلَى زمن بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام، وتكلمهم وتحكم بينهم منها، فيظن النَّاس أن هذه الأرباب الآلهة هي التي تتكلم، وهكذا أغوى الشيطان بني آدم.
  3. الشرك بالملائكة

    وكذلك الشرك بالملائكة أو الجن، واتخاذ الأصنام لهم -كما يقول المصنف- فهناك قوم قالوا: الملائكة من جنس الصالحين، وهم عباد لله -عَزَّ وَجَلَّ- يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وقد أخبر الأَنْبِيَاء عن صفاتهم العظيمة، وطاعتهم لله عَزَّ وَجَلَّ.
    فقالوا: إذاً نتخذ الملائكة شفعاء عند الله، فندعو الملائكة من جبريل أو ميكائيل، أن يشفع لنا عند الله، ثُمَّ يدعونه استقلالاً، وإذا قيل لهم: لماذا تدعون الملائكة؟ قالوا: ما نعبدهم أو ندعوهم إلا ليقربونا إِلَى الله زلفى لأنهم أقرب عند الله، وأما أنا فمسكين مذنب، لا أستطيع أن أدعو الله، فكيف أدعو الله وأنا مليء بهذه الذنوب؟ وإنما أدعو هَؤُلاءِ لأنهم مقربين عند الله، فهم يشفعون عند الله.
    الله الذي فتح باب التوبة عَلَى مصراعيه! ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو يقبل التوبة عن عباده، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الذي ينجي كل من دعاه في ظلمات البر والبحر، فالله لا يحتاج إِلَى من يتوسط عنده، أو يشفع عنده، أو يدعى غيره، ويعبد غيره لكي ينزل رحمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى أحد؟!.
    سبحانك هذا بهتان عظيم!
    هذا أصل الذين عبدوا الملائكة.
  4. عبادة الجن

    وأما عبادة الجن، فيوم يبعثهم جميعاً -يَوْم القِيَامَةِ- يأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كل أناس كانوا يعبدون الطواغيت، أن يتبعوا ما كانوا يعبدون، فيتبع عباد الطواغيت الطواغيت، ويتبع عباد الجن الجن، لأنهم كانوا في الدنيا يعبدونهم، فيحكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين الطواغيت وبين عبادهم، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ)) [الأنعام:128] -أي: الذين يعبدون الجن أكثر طائفة بني آدم- ((وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا)) [الأنعام:128].
    فسبب وقوع عبادة الجن هو: استمتاع الإنس بالجن بعضهم ببعض، هذا جواب الإنس، وقال تَعَالَى في سورة الجن: ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً)) [الجن:6] فالإنسي يظن أنه يستفيد من الجني، فكان إذا نزل بوادٍ مخيفٍ قَالَ: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يعني: يحصل الاستمتاع بالسلامة من أذى الجن السفهاء، وذلك مقابل دعاء سيدهم، والجن استمتعوا، بأن الإنس عبدوهم من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فاستمتع بعضهم ببعض، لكن زادوهم رهقاً، حيث يأتي الإنسي فيمر بالوادي، فيسلط سيد الوادي أحد الأتباع ليخيفه، فإذا أخافه وأرهقه قَالَ: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فزادوهم رهقاً وخوفاً ليزداد أُولَئِكَ لهم عبادة، وهذا هو الحاصل دائماً للمتعاملين مع الجن، يحصل لهم نوع من الاستمتاع بحيث يعظمه الناس، ويعطونه الأموال ويأتون له بما يشاء، مقابل أنه يشفي مرضاهم، ويفك السحر عنهم، أو يخبرهم بشيء ضيعوه، أو حاجة فقدوها، أو أمر من الأمور، فيحصل استمتاع للإنسي بما يأخذ من أموال الناس، وبما يكسب من الجاه ويقَالَ: هذا ولي، ويحصل الاستمتاع للجني، بأن يعبده هذا الرجل الذي يذهب إليه الناس، ويسألونه عن الأخبار، أو يطلبون فك السحر عنهم، وهم يعلمون أنه يتعامل مع الجن، فهو يسجد له، ويضع القُرْآن في الأماكن النجسة والقذرة تقرباً، ويكتب القُرْآن -والعياذ بالله - بالدم النجس القذر، ويجعله في أوراقٍ، ويسمونها حجباً أو أحرازاً، وإن صلى ظاهرا -أمام الناس- أو صام وزعم أنه مسلم. فمثلاً: أناس يعتقدون في هذا الولي، أنه يخرج الجن من الإِنسَان؛ لأنه يستخدم الجن، ويعرف كيف يفكهم، فيسبب الضرر لهم بتسليط أحد الأتباع -أوليائه- من الجن عَلَى أحد من الإنس فيدخل فيه، فيأتي الإنسي إِلَى الولي -من الإنس- ويقول: دخل جني في ولدي، فيقول الولي: الدواء عندي، فيقوم الولي الإنسي، فيتقرب إِلَى الجن بعبادتهم، فعندها يأمر السيد الجني وليه أن يخرج من الولد، فتكون النتيجة أن هذا الولي أخرج الجني وأنه رجل عظيم فيزيدهم رهقاً وشركاً.

    ويكثر في الأرض الشرك بسبب هَؤُلاءِ القوم، ولذلك يقول الله تعالى: ((إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه))[النحل:100] فالذين لا يعتقدون في هذا الرجل الصلاح -نهائياً- ولا يعتقدون أنه ولي، بل يعتقدون أنه مشرك يتعاون بالجن، هَؤُلاءِ يكونون أكثر حفظاً بإذن الله تَعَالَى من ضرر الجن من أُولَئِكَ الذين يعتقدون فيه الولاية والصلاح، ومع ذلك فلا شك أن هذا الأمر ابتلاء، فقد يبتلى الإِنسَان بالجن، وهو ليس من أوليائهم، ولا يعبدهم، ولا يعتقد فيهم، ولكن نسبة دخول الجن، وإيذائهم بهَؤُلاءِ المؤمنين الموحدين أقل بكثير جداً من نسبتها في القبائل أو الطوائف أو المدن التي تعتقد في هَؤُلاءِ الأولياء؛ لأن سلطان الشيطان عَلَى أوليائه الذين يتولونه أكثر، وحماية الله عَزَّ وَجَلَّ للذين لا يعتقدون فيهم ذلك قائمة، ومناعتهم من كيد هَؤُلاءِ الشياطين أكثر؛ لأن الذي يعتقد فيهم هو مستسلم، قد فتح قلبه وأفرغه؛ لأن تأتي إليه الشياطين بالأوهام، ثُمَّ بالمرض، ثُمَّ تأتيه بالعلاج.
    فيقولون: يا ملك الأرض السابعة من الجن، إن أحد أتباعك فلان، دخل في فلان فأخرجه منه بكذا وبكذا، ثُمَّ يكتبون أسماءً وأرقاماً وألغاز بالسريانية -كما يقولون- أو بلغة مجهولة لأن الشياطين تعلمهم رموزاً معينة هي رموز عبادتهم- فيكتبون هذه الرموز، ثُمَّ يدعونهم، فإذا دعاهم، أتى ملك هَؤُلاءِ الجن، فيأمر وليه من الجن -الذي آذى الإنسي الآخر- أن يخرج منه، وهكذا.

    وأما الملائكة والأنبياء -رضوان الله تَعَالَى عليهم- فلا يرضون أن يدعو من دون الله، ومن عُبد من دون -وهو غير راض- فإنه يتبرأ يَوْمَ القِيَامَةِ من هَؤُلاءِ، كما تبرأ المسيح، قال الله: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) [المائدة:116-117] وهذا القول هو أول قول قاله بعدما خلقه الله: إني عبد الله، ويَوْمَ القِيَامَةِ يقول: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله، -يعني: أنا بريء منهم ومن شركهم- فحينئذٍ يقع الشرك عليهم، وتقع العقوبة والعذاب عَلَى العابدين فقط.
    وأما الجن فلأنهم رضوا أن يعبدوا فتكون النَّار للجميع هم ومن عبدهم.
    وأما الملائكة فيقولون: ((بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ))[سبأ:41] -أي: أكثر الإنس مؤمنون بالجن- فالذين يعبدون الجن من الإنس أكثر من الذين يعبدون الملائكة، لأن الملائكة تتبرأ يَوْمَ القِيَامَةِ منهم.

    فأعظم أسباب وقوع الشرك: تعظيم غير الله، ولذلك يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أول سورة الأنعام: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))[الأنعام:1] أي: يجعلون أحداً عديلاً له، يساويه بالله في المحبة، وفي التعظيم والتقديس ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165] فالعدل والتسوية هي في المحبة والتعظيم والتقديس؛ لا في اعتقاد أنهم يخلقون كخلق الله، أو يرزقون كما يرزق الله سبحانه.
    وهنا شيء عجيب، وهو أن النَّاس كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، وهذا هو شرك القدامى، ولكن عظم الشرك في المتأخرين، حتى أصبحوا يدعون غير الله تَعَالَى في وقت الشدة، وفي وقت الرخاء معاً، وهذا -والعياذ بالله- غاية الانتكاسة، نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يجنبنا وإياكم الشرك دقيقه وجليله، وأن يباعدنا عنه، وعن طريقه، وعن كل ما يوصل إليه، وأن يجعلنا من عباده الموحدين المؤمنين.