قال: [ومنه] أي: من الأدلة التي استدل بها من يفضل الملائكة على البشر: [ما ثبت في الصحيح عن
أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: {
يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} الحديث. وهذا نص في الأفضلية] أي: أن الملأ الأعلى خير وأفضل، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذا الحديث القدسي وهو من أعظم أحاديث الرجاء -رجاء السنة لا رجاء البدعة- : {
أنا عند ظن عبدي بي} أي فعليه أن يظن به خيراً، وقد غلط فيه كثير من الناس، والمعنى الحق أن شأنه تبارك وتعالى وأمره دائر بين العدل والفضل، فإن أعطى وأثاب ففضل منه تعالى، وإن هدى ووفق إلى الصواب ففضل منه تعالى، وإن خذل وحرم وعاقب فعدل منه سبحانه، وقد جاء في الحديث القدسي: {
يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} وكتب على نفسه الرحمة سبحانه وتعالى، وكتب في كتاب -فهو عنده فوق العرش- {
إن رحمتي سبقت، وفي رواية: غلبت غضبي} فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، واجتهد في الطاعات، وأكثر من الأعمال الصالحات، وظن به خيراً فإنه لن يُخيب من قصده وطلبه، ومن أخلص له، وأناب إليه.
يقول: {
وأنا معه إذا ذكرني} يعني: ما دام على حال الذكر، فاجعل ذكر الله تعالى زادك الدائم، واجعل لسانك رطباً بذكر الله سبحانه وتعالى، وقد يوافق القلب اللسان في الذكر، وقد ينفرد اللسان، وأفضله ما واطأ فيه القلب اللسان، والذكر عام يشمل التسبيح والتهليل والتحميد، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وغير ذلك.
يقول: {
وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} وهذا من أعظم الفضل والبشرى للذاكرين؛ أن يذكرهم الله تعالى، ولذلك فالمؤمنون الذين أحبوا الله وعرفوا حقيقة محبته سبحانه وتعالى، لا يرضون بها بدلاً، ولا يستبدلون بها مالاً ولا زوجة ولا أهلاً ولا شيئاً من الدنيا أبداً؛ لأنهم عرفوا محبة الله وأحبوه؛ فتعلقت قلوبهم بالله سبحانه وتعالى.
قوله: {
وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خير منهم} هذا نص في أن الملأ الأعلى خير من الأسفل، فإنك إذا تصورت أي مجلس في الدنيا ذكر الله تعالى فيه، فالملأ الأعلى خير منه، إذاً فالملائكة خير من بين آدم، ومعنى أن هذا نص: أنه لا يحتمل معنى آخر.
قال: "قال الآخرون: يحتمل أن يكون المراد خيراً منه للمذكور لا الخيرية المطلقة"، أي فالمعنى: وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم للمذكور، وقد يقال: هذا تأويل، وقوله: "لا الخيرية المطلقة" والعبارة فيها نوع غموض، و
شيخ الإسلام رحمه الله وضحها بشكل آخر (ج4 ص390) فقال: "وهو أجود وأقوى ما احتجوا به" أي: المفضلون للملائكة، لكن ليس قاطعاً، وليس نصاً في محل النزاع، فيحتمل المراد أن يكون المراد: خيراً من المذكور يعنى أن الحديث فيه بيان ما أعد الله سبحانه وتعالى للعبد إذا ذكره واتقاه، فالمنفعة في حصول الثواب واقعة، وهي أنك إن ذكرت الله في ملأ ذكرك في ملأ خير منهم، فهؤلاء الناس إذا ذكروا الله في ملأٍ استفادوا، وهذه الفائدة يعود نفعها عليك في الدنيا، والمنفعة في الملأ الأعلى أكثر؛ لأنهم يستغفرون للذين آمنوا، ويدعون لهم، وإذا أحب الملأ الأعلى عبداً فهو أفضل ممن يحبه الملأ الأدنى، قالوا: وهذا منظور إليه من جانب النفع.
ونحن على الجواب الذي ذكره شيخ الإسلام : وهو أن الأفضلية كائنة باعتبار الكمال والمآل، وعليه فالأفضل في الدنيا هم الملائكة، فأيُّ عبد ذكر الله تعالى في ملأٍ في الدنيا فالملأ الأعلى خير منهم، لكن بعد أن يدخلوا الجنة، ويتمتعوا بالنظر إلى وجه الله الكريم، وحينها يكون صالحو البشر خيراً من الملائكة، ولا يرد الاعتراض؛ لأن الكلام مخصوص بحال الدنيا، وفي حال التكليف في دار الابتلاء، أما هناك -في دار القرار- فيكونون أفضل من الملائكة، فالحديث لا يدل على الأفضلية المؤبدة؛ لأنه خاص بحال الذكر، وحال التكليف، وهو في دار الدنيا لا الآخرة، وبهذا نكون قد أتينا على أقوى وأجود ما احتجوا به، فبيّنا أنه لا ينافي ما رجحناه.