قال: [ومنه] أي من الأدلة على تفضيل صالحي بني آدم على الملائكة [قوله تعالى: [((
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ))[البينة:7] والبرية مشتقة من البرء، بمعنى الخلق، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق] يقولون: إن الله تعالى يصف هؤلاء بأنهم خير البرية، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إذاً فالصالح من بني آدم هو خير المخلوقات، ومن المخلوقات الملائكة، فيكون أفضل من الملائكة.
قال: [قال الآخرون: إنما صاروا خير البرية، لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات]، أي: فالسبب الذي جعلهم خير البرية إيمانهم وعملهم الصالح، [والملائكة في هذا الوصف أكمل] أي: في الإيمان والعمل الصالح، [فإنهم لا يسأمون ولا يفترون] ولا يدخلهم الملل ولا الفتور، وكذلك لا يكون منهم معصية تخرم ذلك، يعني: هؤلاء المؤمنون بلغوا الغاية في الكمال الإيماني، وهم القلة من الناس، ومع ذلك فإيمانهم يزيد وينقص، ويعتريهم الملل والسآمة والفتور، أما الملائكة فهم بريئون من ذلك.
إذاً: [فلا يلزم أن يكونوا خيراً من الملائكة] قالوا: [هذا] أيضاً إنما هو [على قراءة من قرأ (البريئة) بالهمز، وعلى قراءة من قرأ بالياء، إن قلنا: إنها مخففة من الهمزة] أي: على إبدال الهمز ياء -يعني: أن هذا المعنى إنما يكون إذا كان من البرء، فأصل الكلمة مهموز (البرء) سواءٌ في ذلك قراءة: البريئة، أو البرَّية إذا كانت ياؤها الثانية مخففة من همزة (البريئة) المشتقة من البرء، وهو الخلق، ولذلك من أسمائه سبحانه وتعالى: (البارئ) ومنه: برأ النسمة وبرأ الخلق، أي: خلقهم وأوجدهم، قال: "وإن قلنا: إنها من البرى وهو التراب كما قاله
الفراء فيما نقله عنه
الجوهري في
الصحاح" والإنسان في مقام الرد يحاول أن يأتي بأي وجه، فقالوا: إن البرى هو التراب، والبرية نسبة إلى البرى، إذاً معنى الآية على هذا: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير من نسب إلى التراب، أي: [يكون المعنى أنهم خير من خلق من التراب]، إذاً: الملائكة لا يدخلون في ذلك؛ لأنهم لم يخلقوا من التراب، قال: [فلا عموم فيها إذاً لغير من خلق من التراب] والمقصود بالغير هنا الملائكة.
قال: [قال الأولون: إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا] أي: فنحن لا ننظر إلى ما يعتريهم من الضعف والنقص في الدنيا، وإنما إلى اعتبار المآل، فما جاء في تفضيل لصالحي البشر فهو باعتبار المآل والخاتمة والنهاية، [ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة...] إلخ كلامه، إذ يصدق أن يقال: إن منهم من يخدم بني آدم، فإنهم بعد أن يدخلوا الجنة يفوزون بالدرجات العلى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله الكريم، وغير ذلك، وهذا الكلام إنما يجيب به، أو هو حجة فقط لمن يرى هذا الجمع، أعني لمن أصل كلامه باعتبار المآل والنهاية، أما الذي يرى أن الأفضلية في الدنيا؛ فليس له أن يجيب على الاعتراض بهذا القول.
والآخرون من حقهم -بناءً على هذا الاعتراض- أن يدفعوا الاعتراض باعتراض يقابله. قال: [وقال الآخرون: الشأن] أي: موضع النزاع أو في المسألة [في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟] يقولون: سلمنا لكم أنهم إذا صاروا إلى ذلك فإنهم في منزلة عظمى لكن بعد أن يكونوا على تلك الحالة من القرب من الله سبحانه وتعالى، قالوا: [فإن كان قد ثبت لهم أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة سلم المدّعَى، وإلا فلا]، فموضوع النزاع هو: هل هذه المنزلة تصل بهم إلى حالة يفوقون فيها الملائكة؟ أم أن الغاية في الأمر أن نقول: في الدنيا الملائكة أفضل وأكمل، ويوم القيامة إذا دخلوا الجنة ورأوا ربهم عز وجل يكونون سواء، هذا كلامهم، فهم يقولون: [فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة سُلم المدَّعى وإلا فلا] فكأنهم يقولون: إنكم تحتاجون إلى دليل خاص، يثبت لكم أنهم في هذه الحالة قد صاروا أكمل من الملائكة.