يقول: [أو أن بعض الملائكة خدام لبني آدم. يعنون الملائكة الموكلين بالبشر] والصوفية كثيراً ما تقول: إن الملائكة يخدمون الولي، ولو قال لألف ملك أن يأتوا الآن لأتوا، أو اذهبوا بهذا لذهبوا به، ومن هنا لبس السحرة والكهان على الناس، وهل وجدت ساحراً يقول أنه ساحر؟ أو من يذهب للدجالين والكهان يقول: ذهبنا إلى كاهن وأعطانا دواء؟ لا. لكن ذهبنا إلى ولي تخدمه الملائكة فوصف لنا هذا الدواء، والخدام من الملائكة أتوا به وشيء أتت به الملائكة ليس فيه شك، لكن الحقيقة أن هؤلاء ليسوا ملائكة بل هم شياطين، ولذلك فإن شيخ الإسلام عندما قال له بعض الجهال وهو في دمشق : إن أناساً على الثغور في أنطاكيا وطرسوس استغاثوا بك فأغثتهم. قال: لا. هؤلاء شياطين تشبهوا بصورتي. لكنهم من جهلهم يصرون على أنه شيخ الإسلام فقالوا: لعل هؤلاء ملائكة أرادوا أن يخدموك ويخدموا أولئك الصالحين فتشبهوا بك! فقال لهم: لا؛ إن الملائكة لا تكذب، ولا تكذب إلا الشياطين كما قال الله: ((تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ))[الشعراء:222]* ((يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ))[الشعراء:223] فالسحرة عندما يقولون: إن الملائكة تخدمنا. فقد كذبوا، إذ ليسوا بملائكة بل هم من الشياطين كما قال الله عنهم: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ))[الأنعام:128] أي: تخدمونهم ويخدمونكم، ((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا))[العنكبوت:25].
يقول: [ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع المجانبة للأدب] لكن لا يمتنع أن يقال: إن الملائكة يخدمون بني آدم في الجنة، فهم يعطونهم ما يريدون، ومن كمال النعيم أن الملائكة تخدمهم ولهذا يقول شيخ الإسلام في (4/ 372) من مجموع الفتاوى : "الدليل الثالث عشر: ... وأيضاً فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه، وتجلى لهم يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وقامت الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم" واستمر إلى أن ذكر ما أعده الله في جنة عدن، وأنه تعالى خلقها وغرسها بيده، ولم يُطْلع على ما فيها ملكاً مقرباً ولا بنياً مرسلاً، وقال لها: تكلمي. فقالت: قد أفلح المؤمنون، وتجدون هذه الآثار والأحاديث في تفسير ابن كثير عند شرحه لأول سورة المؤمنون، فيقول: "فهذه كرامة الله لعباده المؤمنين التي لم يطلع عليها أحد من الملائكة، ومعلوم أن الأعلين مطلعون على الأسفلين من غير عكس..." إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ثم ذكر القاعدة العظيمة التي يحتاج إليها الناس، ولو فطن لها أهل الأهواء والبدع وسائر المذاهب لما تفرقوا واختلفوا، قال: "والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس لا شك في رده" أي: أن كثيراً من الناس يفضلون: إما تنقصاً، أو حمية، أو عصبية -حتى وإن كان في الملائكة- فيأتي من يتعصب للملائكة، فيقابله من يتعصب للأنبياء، ويأتي آخر يتعصب للشافعي فيقابله من يتعصب لـأبي حنيفة فتشتد المسألة، ويأتي من يتعصب لـمعاوية ويقابله من يتعصب لـعلي وهكذا. فالتعصب -وإن كان لمن فيهم خير وحق- مذموم، وهو أكثر ذماً إذا كان على العصبية المحضة كما حدث بين قبائل قيس وقبائل اليمن إذ تعطلت الفتوحات بسبب العصبية بين قيس واليمن في فتوحات قتيبة بن مسلم الباهلي القائد العظيم الذي أقسم ليطأن أرض الصين، فأرسل إليه ملك الصين : سندفع لك الجزية على أن لا تطأ أرضنا. فقال: لا. فأرسل له بتراب من تراب الصين وقام عليه فوطئه، ومن أسباب توقف الجهاد في المشرق الحمية والعصبية، وفي المغرب عندما توغل عبد الرحمن الغافقي إلى بواتيه قريب من باريس ثارت الحمية والعصبية وأصبحت من أسباب تعطيل الجهاد، بل الهزائم في المعارك التي دارت بين القيسيين وبين اليمانيين، ولما جيء إلى شيخ الإسلام وقيل له: إن القيسيين واليمانيين قد اقتتلوا، ويذكر رحمه الله أنه قتل ألفان من بني تميم -عرب الجنوب- وقيس -عرب الشمال- فاستشير شيخ الإسلام كما في التعازير قال: "فقلت: يؤخذ أسباب الفتنة الكبار" فكانوا مائة شخص، فأفتى بقتلهم جميعاً. وهذا هو الصحيح؛ مائة شخص يقتلوا لكن النتيجة أن تسلم القبائل من الفتنة والحروب فهؤلاء الذين يثيرون العصبية يجوز للحاكم أن يقتلهم تعزيراً لأن إثارة العصبيات ينتج عنها الكثير من القتلى، وبقتل الرءوس يرتدع الناس عن إثارة الحمية والعصبية.
فالعصبية تفرق الأمة، ولاشك أن القلوب تمرض، ويكفي في مرضها ما ينشئه الجدل من الحنق والغيظ والكراهية والتشفي، الذي يؤدي إلى موت القلب وعدم ارتباطه بالله تعالى، وعدم رقته لذكر الله، فهذا مما يدعو إلى تقليل الكلام في هذه المسألة، أما المأخذ العلمي المجرد لها فهذا ما سيعرضه رحمه الله.