المادة    
يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إِلَى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة عَلَى إلا قرار به أعظم من كونها مفطورة عَلَى الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل عليهم السلام، فيما حكى الله عنهم: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)) [إبراهيم:10].
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كَانَ مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى عَلَيْهِ السَّلام: ((لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْـزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ))[الإسراء:102] وقال تَعَالَى عنه وعن قومه: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14] ولهذا لما قَالَ: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) عَلَى وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: ((رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ))[الشعراء:24-28].
وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية، عجز مُوسَى عن الجواب، وهذا غلط.، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات القُرْآن عَلَى أن فرعون كَانَ جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بيّن لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟
بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف.
ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قَالَ: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما: متفقون عَلَى أن النور خير من الظلمة. وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة، هل هي قديمة أو محدثة؟
فلم يثبتوا ربين متماثلين.
وأما النَّصارَى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون عَلَى أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان عَلَى معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم! والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص. وقد فطر الله العباد عَلَى فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وفي الجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين.
والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل وزعم أنه يتلقى من السمع] إهـ.

الشرح:
هذا الكلام كله في قضية واحدة معلومة لدى الجميع وهي: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خالق كل شيء وحده لا شريك له.
  1. إثبات وجود الله قضية فطرية

    وهذه القضية بديهية فطرية، وهي توحيد الربوبية الذي أتى به الأنبياء، ولمعرفة حقيقة الفلسفة اليونانية فـأفلاطون وأرسطو وغيرهم من أئمة الضلال في العالم لم يكونوا ممن ينكر وجود الله، بل هم وضعوا نظريات لإثبات وجود الله، ولكن لما كانوا ضالين وكاذبين ومفترين وتخيلوه عَلَى غير حقيقته، فهم كفار لأنهم لم يتبعوا شرائع الأنبياء، فلم ينفعهم إثبات وجود الله، لأنهم غير موحدين عَلَى دين الأنبياء.
    والمتكلمون الذين ورثوا هذه الفلسفات من المعلم الأول أرسطو، قالوا: أعظم آية هي الإتيان بحجج تقرر بأن الله موجود، فأتوا بدليل التمانع وأتعبوا أنفسهم في تقرير ذلك، وسيمر بنا -إن شاء الله-.
    ووجوده سبحانه في النفوس أعظم يقيناً من بديهيات الرياضيات مثل "1+1=2" ومن كلام علماء الكلام؛ العلم الضروري أنه لابد أن تعلم أن الكل أكبر من الجزء، ويقولون: هذا علم ضروري، ولو أتيت بشخص من البادية فلعله لا يفهم مثل هذا الكلام، ولكنه يفهم أن الله موجود،
    ولذلك يقول علماء الاجتماع: عندما بدأت حركة الكشوفات في القرن السابع عشر والثامن عشر، وذهبوا إِلَى مناطق في أفريقيا والهند وأمريكا حيث لم يسبقهم أحد إليها وجدوا مجتمعات بدون حضارة أو دولة أو فن، ولكن لم يجدوا قط مجتمعاً بلا دين أبداً، ووجدوا أن كل هَؤُلاءِ النَّاس يؤمنون بأن هناك طوفان أتى وعم الأرض كلها وأطلقوا عليها اسم الضلالة المشتركة، وهي الحقيقة المشتركة: أن نوحاً هو أبو البشر الثاني بعد آدم وهَؤُلاءِ من ذريته، وأصبحوا يتناقلونها بينهم، فهي حقيقة مشتركة، وكذلك وجود الله هي حقيقة مشتركة، فالأدلة الفطرية عَلَى وجود الله أعظم وأشهر من أن يتكلم فيها.
    وأما الصوفية فالغاية عندهم إثبات أن الله خالق كل شيء، فالموحد الحقيقي لا يثبت لأحد الأفعال، بل هو سبحانه الفاعل الحقيقي ولذلك لما دخل التتار إِلَى بغداد أخذ القطب الأكبر يقود الفرس لـجنكيز خان ويقول: هذا هو الله، فعلينا أن نرضى بفعل الله، وهذا يقولونه عن اعتقاد أن هذا هو غاية التوحيد، وهو شهود الحقيقة الكونية بحيث لا ترى في الكون إلا هو، وأن كل ما يقع في الكون فهو منه تَعَالَى وهو الذي يفعله بذاته، وأما غيره فلا يثبت له أي شيء من ذلك.
    وشهود الحقيقة الكونية هو عين توحيد الربوبية فيسقط اللوم ويعذر الخليقة؛ لذا لو وجدت شخصاً منهمكاً في المعصية فلا تلمه، لأن الله هو الذي يفعل هذه الأشياء وله حكم في ذلك.
    فـالصوفية وعلماء الكلام جعلوا توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، بينما هو أمر فطري يستلزم التوحيد الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء وهو توحيد الألوهية.
    ولذلك عندما يقول المتكلمون: إن الله واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، غير متعدد ولا متبعض، فهم يقصدون بواحد في صفاته أنه ليس له صفة، وواحد في أفعاله أن كل ما في الكون هو فعله وحده لا يشاركه أحد، ففرعون أنكر وجود الله، ولكنه لم يقله عن اعتقاد ويقين في نفسه لأن الله تَعَالَى يقول: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا)) [النمل:14] وقال له موسى: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً))[الإسراء:102] فالخذلان الذي كتب عليه هو الذي جعله يقول ذلك، وإلا فهو يعلم أن ما أنزل هذه الآيات إلا الله، وهو وإن جحد الله باللسان فهو مستيقن بربوبيته بالقلب، فالنفس قد تستيقن بالشيء ولكن تأبى الإقرار به مكابرة، وهذا لا غرابة فيه، لأن من هم أعظم من فرعون في الدلائل أنكروا من هو أعظم أدلة من موسى وهم اليهود، فلديهم من الدلائل عَلَى نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من أدلة فرعون عَلَى نبوة موسى عَلَيْهِ السَّلام، ومع ذلك كفروا.
    وفي صحيح مسلم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحبر: {أينفعك شيء إن حدثتك؟ فَقَالَ الحبر: أسمع بأذني}.
    والحبران اللذان جاءا وقبلا قدميه لما سألاه عن الآيات التسع، فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لماذا لا تؤمنان بي؟ فقالا: إن الله قد أخذ علينا العهد أن لا يزال في ذرية داود نبي}.
    فالمشكلة عندهم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذرية إسماعيل ولم يكن من ذرية إسحاق وداود.

    وكذلك كفار قريش لما جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون صدقه، كما في الحديث: { لما نزلت ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ))[الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا }.
    وكذلك {لما نزلت أول سورة فصلت وقرأها عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قوله تعالى: ((َإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)) [فصلت:13] فقَالَ عتبة: يا مُحَمَّد ناشدتك الله والرحم}فخاف مع ادعائه أنه كذب وسحر وأساطير الأولين، قال تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
    فتكذيب فرعون من هذا القبيل؛ لأن قضية وجود الله فطرية.

    وكذلك الثنوية الذين يقولون: إن للعالم صانعين هما: النور والظلمة، لم يدّعوا أنهما متماثلان، ولذا قالوا: إن الإله الحق هو النور، ويحبونه ويجعلون له صفات الله، وأما الظلمة: فإنهم يجعلون له صفات الشيطان، وقال بعضهم: إن النور قديم واجب الوجود وهو الخالق، وأما الظلمة فهي محدثة مخلوقة، فـالمجوس إذاً لا يثبتون حقيقة إلا رباً واحداً.
    وكذلك النَّصَارَى الذين يقولون: بثلاثة آلهة كلهم خالق ورازق، وهم أكثر أمم أهل الأرض عدداً وأكثرها حضارة، في الحقيقة لم يثبتوا إلا رباً واحداً، لا ينفصل بعضه عن بعض، وقد نظر أحد ملوك الهند اللادينيين في أديان العالم، فلما بلغه دين النَّصَارَى، قَالَ: هذه الأمة سبة في جبين بني الإِنسَان؛ لأنهم يقولون عن عيسى: "إنه رب، وله أم ولدته، ونشأ عَلَى الأرض، وأن أعداءه اليهود قتلوه وصلبوه، فلذا نتخذ هذا الصليب شعاراً نرفعه عَلَى صدورنا ونضعه عَلَى الكنائس".
    فهَؤُلاءِ ليس عندهم عقول، وإذا سئلوا: لماذا قتل الرب؟
    قالوا: ليفدي الرب بني آدم من الخطيئة، لأن ابتداءنا كَانَ من الخطيئة، حيث أخطأ وأذنب آدم، ففدى الله الخليقة بابنه الوحيد.
    سُبْحانَ اللَّه! أليس يقدر الله أن يغفر لهم ولا يعذب ابنه عَلَى زعمهم؟!
    بل الذي أغرى آدم بالخطيئة هو الشيطان، فلماذا لا يكون الفداء بالشيطان أو بابنه؟!
    هذه كلها تناقضات ودين لا يقبله العقل، وكيف يصلب اليهود الإله؟!
    ولماذا يتخذ الصليب إله؟!
    المفروض أن النصراني إذا رأى الصليب بكى وحزن وغضب.

    ويقول بعض العلماء: إن شر الفرق وأجهلها وأقلها عقلاً هم الرافضة، ومع ذلك إذا ذكروا بمقتل الحسين بكوا وضربوا أنفسهم، فهم إذاً أعقل من النَّصَارَى.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [مع ذلك هم لا يقولون إن الإله لا ينفصل بعضه عن بعض، بل يقولون باسم الابن والأب وروح القدس -والمعروف في الأناجيل باسم الأب والابن وروح القدس- إله واحد].
    كيف ثلاثة هم واحد؟!
    قال المصنف: [ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، حتى لا يكاد واحداً منهم يعبر عن ذلك بمعنى معقول، ولا يكاد يتفق اثنان منهم عَلَى معنى واحد]. ولذا ذكر مؤلف كتاب إظهار الحق أن أحد علماء النَّصَارَى ذهب إِلَى الهند أو أفريقيا للتبشير، فجاء رجل كبير من الكنيسة الأم يزور المدارس التابعة لهم التي تبذل عليها الأموال والتضحيات، فَقَالَ العالم النصراني: هَؤُلاءِ الشباب كلهم أدخلتهم في نور المسيحية. فسأل الرجل ثلاثة طلاب: ماذا تعلمتم؟
    فَقَالَ أحدهم: علمني القسيس أن الآلهة ثلاثة، واحد منهم نزل وبقي اثنان.
    فَقَالَ له: أنت لا تعرف شيئاً وضربه.
    ثُمَّ قال الثاني: علمني القسيس أن الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، فأما روح القدس فهو الطائر الذي مثل الحمام لا نراه، وإنما أتى وسيلة وانتهى عمله، وأما الثاني فقد قتل عَلَى الصليب، فقتل منهما اثنان وبقي واحد.
    فقَالَ: ما أحسنت العلم.
    ثُمَّ قال الثالث: علمني أن الآلهة ثلاثة، وأن الثلاثة واحد، وأن واحداً منهم قتل عَلَى الصليب، فلما قتل الواحد -والثلاثة واحد- قتل الثلاثة، فلا إله الآن. قَالَ: هذا شر الثلاثة.

    الأقنوم: لم يقدر النَّصَارَى أن يشرحوها، فَقَالَ بعضهم: هو الذات. يعني ثلاثة ذوات، وبعضهم قَالَ: هو بمعني العنصر، وقال بعضهم: هو بمعني الصفة، أي ثلاث صفات لإله واحد، وقال بعضهم: الأشخاص يعني الأعيان ولذلك النَّصَارَى يقولون: واحد وهو ثلاثة. فكيف هذا الواحد نزل ثلثه وقتل عَلَى الصليب، والثلث الثاني فوق العرش، والثلث الثالث مرة قالوا: مريم، ومرة قالوا: روح القدس جبريل وهو الحمام.
    فـالأناجيل مختلفة والقساوسة مختلفون، فكل واحد يفهم فهماً مخالفاً للآخر،
    كما قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى: [إنهم مضطربون لا يكاد يتفق اثنان من النَّصَارَى على معنى].
    ولذا نرى الإلحاد في أوروبا؛ لأنهم يقولون: إن كَانَ الله عَلَى هذه الهيئة، فدين الشيوعية أفضل من دين هَؤُلاءِ. وقد طبع رسمياً في أوروبا سبعون إنجيلاً تسمى الكتاب المقدس، كل واحد يكذب الآخر في اسم المسيح ونسبه! وهم متفقون أنه ليس له أب، ويقولون إنه عيسى بن يوسف النجار.
    فـالنَّصَارَى مضطربون، ومع ذلك فإن الإله عندهم هو إله واحد -كما يدعون ويزعمون- فهم لا يعارضون هذه الحقيقة القطعية.

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ سابقاً: [وهذا التوحيد لم يذهب إِلَى نقيضه طائفة معروفة من بنى آدم].
  2. توحيد الربوبية لم يذهب إلى نقيضه أحد

    والشيوعية لم تكن معروفة من قبل لذا يقول ابن أبي العز: لم يذهب طائفة معروفة إِلَى نقيضه، فهل الحقيقة غير الكلام؟
    فـالشيوعيون حقيقة سموه بغير اسمه، لأنهم إذا سئلوا: من خلق الكون؟ قالوا: الطبيعة.
    وهي كلمة معروفة باللغات القديمة وباللغة العربية، ومعناها واحد هو: الطبيعة والمدلول كذلك واحد -أي: فعيلة بمعني مفعولة أو بمعني فاعل- مثل أن تقول: فلانة كريمة بمعنى كارمة، أو امرأة قتيلة بمعنى مقتولة، فالطبيعة إما فاعلة أو مفعولة، فإن كانت فعيلة بمعنى مفعولة فلا شيء فيها، ومعناها: أنها مخلوقة، فلا بد لها من خالق وهو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن كانت فعيلة بمعنى فاعلة ومعناها أنها خالقة، قلنا: أنتم سميتم الله تَعَالَى بغير اسمه، ولا يقولون الخالق هو الله، لأنهم لا يعرفون إلا الله التابع للكنيسة التي لا يتفقون معها، فاختاروا اسماً بعيداً فسموه الطبيعة،
    ولذا وجد في أوروبا في القرن التاسع عشر ما يسمى بالدين الطبيعي، والفلاسفة الطبيعيين، وعلم الاجتماع الطبيعي، وهذه النظريات تقول: إن الطبيعية هي الجمال الذي في الكون، وفي الأدب الرومنسي يقولون: "عبادة الطبيعة" لأن الطبيعة هي المناظر التي تعجبنا، والدين الطبيعي كما يقول روسو: "دين حر ليس كمثل أديان الكنيسة"، فإن رجال الدين يأتون بما يخالف العقول، فيفرضون الإتاوات والعشور والرهبنة عَلَى الناس، بخلاف الدين الطبيعي؛ فإنك تعشق وتحب وتتزوج وتقول الشعر وترسم كما تشاء، والكنيسة تقول: لا ترسم إلا صورة العذراء وصورة المسيح، وفي الحقيقة لا يوجد شيء اسمه دين طبيعي، ولكنهم أتوا بهذا الاسم حتى يخرجوا من سيطرة البابوات.
    وجاء اليهودي كارل ماركس وإنجلز بنظريات اجتماعية للاشتراكية، وهي ليست من بنات أفكارهم، وإنما ذكرها أفلاطون في كتاب الجمهورية فقَالَ: "أحسن شيء أن يعيش النَّاس بلا أحقاد، فيكون الزواج مشاعاً، والأموال مشاعة، والسياسيون والجنود لا يملكون أي شيء" وذكرها شخص يسمى سان سيمون -وهو فرنسي وهذا الكلام كذلك جَاءَ به المنتسبون إِلَى الإسلام من الفلاسفة، كما في آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، وكذلك اليوتوبايه جَاءَ به رجل يسمى توماس مور ومعناها: المدينة الفاضلة -قال سان الفرنسي -وهو قبل ماركس-: "يجب أن نقضي عَلَى الملكية الخاصة ونجعل الملكية مشاعة للجميع رحمة بالضعفاء والعمال" فجاء كارل ماركس وأخذ الإلحاد من الفلاسفة الطبيعيين، وأخذ مبدأ العدالة الإشتراكية من سان، وقَالَ: "هذه نظرية علمية لأن سان سيمون وتوماس مور وأفلاطون كلهم مثاليون خياليون غير حقيقيين، وأما نظريتي فهي علمية، لأنها مبنية عَلَى حتميات التطور، لأن نظرية ماركس: "أن الإِنسَان تطور"، وحقيقة أوروبا كانت تعيش في تطور من عصر الإقطاع إِلَى عصر الحضارة، فهذه النظرية تتفق مع العلم ومع التطور، فاشتراكيتي وشيوعيتي فقط هي العلمية، وأما اشتراكية من قبلي، فهي مثالية، لأنها مبنية عَلَى خيال وأخلاق، وأما أنا فلا أنظر إِلَى الأخلاق ولكن أنظر إِلَى العلم، والتاريخ يتطور حتماً من مرحلة إِلَى مرحلة، والشيوعية مرحلة حتمية في تاريخ الإِنسَان. فهذه خلاصة إنكار الله عند الشيوعيون، فهي نظرية يهودي حاقد عَلَى البشرية وعلى كل الأديان سماها بالطبيعة، وتبعه من الغرب من تبعه.
    وهناك مفكر غربي ملحد اسمه أدنكتوت قَالَ: إن قلنا: "الله" عدنا إِلَى مشاكل الكنيسة، ومن قَالَ: "الطبيعة" فهذا إنسان جاهل أحمق ومغفل، ثُمَّ وجد أن علماء عصره يسمونها "الصدفة"، فإذا سئلوا: كيف نشأ الكون؟ قالوا: صدفة. فلم يجد بداً أن يسمي نظريته: "ضد المصادفة"، فالذي أنشأ الإِنسَان هو ضد المصادفة ولا يقدر أن يقول: الله، لأن الله هو ذلك التابع للكنيسة. فكلام شارح الطحاوية حق، وهو أنه لا يوجد أحد ينكر وجود الله عَلَى الحقيقة، لكن الشيوعيون والملاحدة يسمونه بغير اسمه، فهذا مجمع عليه بين بني الإِنسَان حتى الأطفال يسألون في كل شيء من أتى بهذا؟
    لأن الفطرة في ذهن البشر أنه لابد وراء كل موجود من فاعل، ولذلك الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء هو أن يعبد هذا الخالق وحده لا شريك له، كما جَاءَ في الحديث القدسي: {إنني والجن والإنس لفي أمر عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي} والله تَعَالَى يفضح كل معاند وكل جبار وكل كذاب، فـمسيلمة مثلاً يتفل في عين الرجل حتى تبرأ فتعمى عينه فضيحة من الله، حيث أراد أن يتشبه بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما تفل في عين علي فبرأت، ولم يوجد أحد ادعى أنه خلق أبداً، وما ادعاه الكذابون فقد فضحهم الله، لئلا يغتر بهم أحد.
    ويدل عَلَى ذلك الدلائل الفطرية، والآيات الكونية، والبراهين العقلية، ولذلك قال المصنف: [ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع].
    إثبات وجود الله موجود في الفطرة قبل أن يعقل الإِنسَان وهو "الميثاق الفطري". ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] فإذا تحركت العقول بالنظر فإنها لا تخرج إلا بهذه النتيجة، وهو أنه موجود.

    فواعجباً كيف يعصى الإله             أم كيف يجحده الجاحـد
    وفي كل شيء لـه آيــة            تـدل عَلَى أنه واحـد

    وأما قول المُصنِّف رحمه الله تعالى الذي سبق ومنه هذا الكلام:
    [وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية، عجز موسى عن الجواب، وهذا غلط، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دل سائر آيات القُرْآن عَلَى أن فرعون كَانَ جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربو بيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف].
  3. كلام حول الماهية

    استطرد المُصنِّف هنا فتكلم عن مسألة الماهية.
    يقول علماء المنطق: السؤال عن الماهية له أداتان "ما" وَ "أي".
    فـ"ما": تسأل به عن الشيء لتعرف ماهيته أو حقيقته.
    و"أي": تسأل به عن الشيء لتخصيصه عن غيره.
    ولما قال فرعون: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:23] سأل موسى عن الماهية، لأن "ما" أداة الماهية، فعجز موسى عن شرح ماهية الله، فعدل عن الجواب وقَالَ: ((رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا))[الشعراء:24] وهذا الكلام خطأ متناقض.
    وذلك أن فرعون لم يكن يعرف علم المنطق ولا الماهية معروفاً عنده، وإنما أراد أن يجحد وينكر أن يكون هناك إله، فقَالَ: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:23] أي: ليس موجوداً هذا الإله، ولذلك لما ألزمته الحجة وقال له موسى: (((رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)) [الشعراء:26] قَالَ: ((إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)) [الشعراء:27].
    فلم يكن له حجة، ولذا نسب كلام موسى للجنون، ولم يكن مقصوده الاستفهام عن ماهية الله، ولذلك لما جَاءَ وقت الشدة قَالَ: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ)) [يونس:90] فالشاهد أن فرعون كَانَ عالماً بوجود الله، ولكنه أنكر ذلك جحداً وقوله: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:23] هو إنكار وجحد، وأما الاصطلاح المنطقي عن الماهية، وأنها تطلق عَلَى الذات مجردة من الصفات -أي عن الحقيقة الكلية الوجودية- فهذا كلام لا داعي بأن نتعب أنفسنا فيه وهو باطل ومردود.