ثم سئل شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "عن آدم لما خلقه الله ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكـته: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة، أم جنة في الأرض خلقها الله له؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض؟ أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل؟
فأجاب: الحمد لله، بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ))[الحجر:30]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم والاستغراق، فإن قوله: (الملائكة) يقتضي جميع الملائكة؛ لأن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم، كقوله: (رب الملائكة والروح) فهو رب جميع الملائكة.
الثاني: قوله تعالى: (كُلُّهُمْ) وهذا من أبلغ العموم"، وهي عند اللغويين والبلاغيين والمناطقة أيضاً من أبلغ ألفاظ العموم، فإذا قلت: جاء القوم كلهم، فمعنى ذلك أنهم جاءوا جميعاً ولم يبق منهم أحد. يقول: "والثالث: قوله: (أَجْمَعُونَ) وهذا توكيد للعموم". وهذه الآية من أبلغ الآيات المؤكدة لذلك، وفي مثل هذا الموضع يقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: [ما من شبهة إلا وجوابها في كتاب الله]، فقد قال بعض الناس: إنه لم يسجد لآدم إلا بعض الملائكة، والله تعالى يقول: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ))، فماذا بقي بعد كلام الله عز وجل؟
يقول: "فمن قال: إنه لم يسجد له جميع الملائكة، بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى"، وشيخ الإسلام رحمه الله يريد أن يقول: إن الباطنية والفلاسفة أتباع أرسطو خارجون عن جميع الأديان والملل، فليسوا من المسلمين، ولا متبعين لهم، ولا متبعين لأهل الكتاب، فهذا القول هو قول أقوال الخارجين عن أهل الملل، وليس له أصل في الكتب ولا عند أهل الكتب، وإنما هو مأخوذ عن الوثنيين اليونانيين، يقول: "وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة، الذين يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل".
وهنا يذكر شيخ الإسلام عنهم تأويلاً جديداً، وهذا دليل على أنهم ليسوا على مذهب واحد، بل إنهم فرق وشيع، فمنهم من قال: ليس هناك ملائكة تأمر الإنسان بالطاعة وتحثه عليها، وإنما هي هذه القوى الصالحة، فالإنسان عنده قوى ونوازع وملكات صالحة، وهي الملائكة، وعنده أيضاً نوازع ودوافع ورغبات وملكات غير صالحة، وهي الشياطين، فلا وجود لحقائق أخرى، وهذا الكلام هو ما يقوله علماء النفس -كما يسمون اليوم- وهو قول كثير من المعاصرين الذين أنكروا المعجزات والغيبيات من أتباع المدرسة العقلية كما تسمى، وهي ليست بعقلية، وإنما هي جهلية؛ لأنهم اتبعوا الجهل والرأي، أما العقل فهو مؤيد لما في الكتاب والسنة.
يقول: "ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب رسائل إخوان الصفا، وأمثالهم من القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة"، أي: أن بعض المتكلمة وهم أصحاب الكلام، وبعض المتعبدة وهم المتصوفة، قد اتبعوا أولئك الباطنية وانطلت عليهم حيلهم. يقول: "وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه"، فإن بعض كتب التفسير تخلط مثل هذه الأقوال.