المادة كاملة    
اشتمل هذا الدرس على مقدمةٍ مختصرةٍ عن مؤلف العقيدة الطحاوية وشارحها، وعلى بعض الشبه مع مناقشتها، كما تضمن بياناً لأهمية العقيدة وأهمية علم أصول الدين، مع ذكر نقاطٍ متفرقةٍ عديدة.
  1. مقدمة

     المرفق    

    إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديه ونستغفره، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنُفْسِنَا ومِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا من كرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يُستجابُ لها. نبدأ بعون الله في موضوع شرح هذه العقيدة القيمة المباركة، عقيدة الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ الأزدي المصري الحنفي.

    1. عبرة من حياة الطحاوي

      الإمام الطّّحاويّ كَانَ ابن أخت المزني صاحب الشَّافِعِيّّ، ونفع الشافعية، ومع ذلك لما بدا له أن الحق في مذهب أبي حنيفة صار عَلَى مذهبه، ومع ذلك أيضاً لم يكن متقيداً بكل ما ورد في المذهب؛ بل كَانَ يفتي بخلافه.
      ولما سُئل: لماذا تفتي بخلاف مذهب أبي حنيفة، وأنت عَلَى مذهبه؟!!
      قَالَ: (وهل من مقلد إلا غبي).
      يعني أن رائده العلم وهدفه هو البحث عن الدليل، واتباع الحق مع أي إمام كان، وتحت أي شعار، وفي أي كتاب.

      وله رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مؤلفات عظيمة تدل عَلَى سعته في العلم.
      وقد كتب هذه العقيدة ليبين عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلميذيه أبي يوسف ومُحَمَّد بن الحسن، وليقول للمسلمين وللحنفية - وهم أكثر المذاهب الأربعة أتباعاً-: إن العقيدة الصحيحة هي هذه العقيدة أياً كَانَ المذهب الذي يدين به الإِنسَانُ، فإنه لا يجوز له أن يعتقد إلا هذه العقيدة.
      ثُمَّ بعد ذلك تبقى أحكام الفقه -وخاصة الاجتهادية منها أو النظرية المحضة- فلا حرج عَلَى أحد أن يتخذ منها ما يشاء متمشياً مع القواعد الشرعية والأصول العامة مادام أهلاً لأن يجتهد.

    2. عبرة من حياة ابن أبي العز

      ومن العبر التي ينبغي أن نكتسبها من حياة الإمام ابن أبي العز: أنه رحمه الله تعالى جاهد في الله جهاداً كبيراً من أجل هذه العقيدة، وقد أدى تمسكه بهذه العقيدة التي شرحها إِلَى أن يضطهد ويسجن، مع أنه كَانَ يسمى" قاضي القضاة " أي أكبر القضاة، وإن كَانَ هذا الاسم لا يجوز أن يُسمى به.
      وولي قضاء مصر فكان القاضي الأكبر في دولة المماليك، ثُمَّ ظهر أحد أمراء المماليك فَقَالَ قصيدة -إما أنه قالها أو أنها قيلت له- وكان فيها شرك وغلو، ، وفي القرن الثالث وما قبله وبعده كثر الغلو في رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشرك في كلام الشعراء، فأنكر الإمام القاضي ابن أبي العز ما في هذه القصيدة من الشرك، ولم يبال بأن قائلها من الأمراء والأسرة الحاكمة المملوكية، وفي الحديث {إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر}، فلما قال كلمة الحق في هذه القصيدة وبيّن ما فيها من الشرك؛ أدى ذلك إِلَى أن يعزل من منصبه ويضطهد ويفقد الجاه.
      ولكنه - وهذا هو الأهم - لم يفقد العقيدة الصحيحة التي هي أغلى ما يملك الإِنسَان، فمهما فقد من أعراض الدنيا ومناصبها ومتاعها فإنه ليس بفاقدٍ حقيقةً، إلا إذا فقد العقيدة الحقة التي يدين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بها.
    3. شبهات حول تعيين شارح الكتاب

      وقد أثير سؤال وهو أنه يُقَالَ: إن شارح هذه العقيدة مجهول؟
      والحقيقة أن هناك لبساً حصل في نسبة هذه العقيدة، سببه أن بعض مخطوطاتها لم يكن مكتوباً عليها اسم المؤلف.
      والشيخ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ، هو أول من طبع هذه العقيدة -الطبعة القديمة - بناء عَلَى نسخة عثر عليها في مكتبة الحرم في مكة المكرمة، ولم يكن عليها اسم المؤلف، لكن العقيدة نفسها كانت معروفة أنها للإمام ابن أبي العز، وأنه الذي شرحها شرحاً سلفياً.
    4. الأدلة على أن مؤلف شرح الطحاوية هو ابن أبي العز

      1- أن الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين" نقل قسماً كبيراً من هذه العقيدة ونسبها إِلَى ابن أبي العز. والزبيدي من أكبر العلماء الموثوق بهم إحاطة وعلماً بالرجال وبالمخطوطات - لا سيما وقد كَانَ في مصر، حيث اجتمع له أكبر قدر من المخطوطات - وهذا كَانَ قبل قدوم الحملات الاستعمارية التي نهبت مكتباتنا وثرواتنا العلمية، وأودعتها في خزائن ومكتبات أوروبا. واعتماداً عَلَى هذا رجح الشيخ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ أنها لهذا الشارح.
      وممن أثار ضد هذا الشارح الشبهات المبتدعة الذين تعرض لهم، فإنه تعرض للعقائد الباطلة كـالصوفية والأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية، فكان طبيعياً أن ينشر هَؤُلاءِ أن هذه العقيدة ليست ذات أهمية لأن مؤلفها مجهول.
      2- وجدت المخطوطات في تركيا -النسخ التركية- مكتوب عليها اسم المؤلف بوضوح.
    5. سبب إخفاء اسم المصنف

      والنسخ التي لم يوجد عليها اسم المؤلف يمكن تفسيرها عَلَى ضوء المحنة التي حدثت له؛ لأنَّ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -مثلاً- سجن مِراراً ومات في السجن، وكثير من العلماء الذين تصدوا في تلك الفترة لمقاومة الشرك ذهبوا ضحية تلك المقاومة وذلك الجهاد، فكان هناك اضطهاد أو نوع من الاضطهاد لمن يدين بالعقيدة الصحيحة في تلك الأيام من علماء السوء أولاً، ومن السلاطين ثانياً.
      فنتيجة لذلك لا يُستغرب أن توجد نسخ من العقيدة ليس مكتوباً عليها اسم المؤلف، لأنه في فترة الاضطهاد التي يتعرض لها بعض العلماء تحمل كتبهم، ولا يكتب عليها أسماؤهم، وهذه الحال حصلت لبعض كتب شَيْخِ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ.

      ويكفي طالب العلم الذي حوى هذه العقيدة أن يقرأها وإن كَانَ لا يعرف من هو مؤلفها، والشاهد أنه ينبغي أن لا نغفل الواقع الذي كَانَ يعيشه العالم أثناء كتابته للعلم، والظروف التي كانت تلم به وما يتعرض له من الأذى في كتابته أو في وصول علمه إلينا.
      3- ومن الأدلة عَلَى أن المؤلف هو ابن أبي العز رحمه الله تعالى أن السخاوي - وهو الإمام المؤرخ والمحدث المعروف - كتب ذيلاً عَلَى تاريخ الإسلام للإمام الذهبي رحمه الله تعالى سماه ذيل تاريخ الإسلام، وكمَّل الشخصيات التي جاءت بعد وفاة الذهبي أو توفيت قريباً من وفاته، فأكمل أسماء هَؤُلاءِ العلماء وأرَّخ لهم، ومنهم الإمام ابن أبي العز.
      وهذه الصورة من كتاب السخاوي موجودة في نسخة مقدمة الكتاب من تحقيق الشيخ مُحَمَّد ناصر الدين الألباني. يقول: "وفي ذي القعدة العلامة -يعني توفي العلامة- الصدر علي بن العلاء علي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي العز الدمشقي قاضيها -يعني قاضي دمشق- الحنفي شارح عقيدة الطّّحاويّ".

      وبذلك لم يبق هناك أي شبهة يصح أن تثار حول مؤلف الكتاب، على أننا نعلم جميعاً أن الذي يهُم في أي كتاب هو محتواه ومضمونه، لكن المبتدعة قد يشككون في المؤلف ليصلوا بذلك إِلَى التشكيك في الكتاب نفسه، وإلا فالْحَمْدُ لِلَّهِ لم يبق هناك أي ريب في أن هذا هو المؤلف.
      4- ومن الأدلة عَلَى صحة نسبة الكتاب أنه في بعض المواضع -وستأتي معنا إن شاء الله- يقول: وقال شيخنا الحافظ ابن كثير، ومعروف أن ابن أبي العز كَانَ من الخلص والخيرة في تلاميذ الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ -صاحب التفسير المشهور المتداول-وكذلك النصوص الكثيرة التي نقلها عن شَيْخِ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وشَيْخِ الإِسْلامِ ابن القيم، مع أنه لم يشر إليهما، والشيخ عبد الرزاق عفيفي اطلع وأكَّد بعض هذه الإحالات.
    6. حقيقة العقيدة السلفية

      هذه العقيدة السلفية -عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- عقيدة إجماعية ليست عقيدة ابْن تَيْمِيَّةَ ولا عقيدة ابن القيم ولا أَحْمدُ بُن حَنْبَل؛ بل هي عقيدة الصدر الأول، عقيدة السلف الصالح جميعاً.
      ولكن شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ جمع كثيراً من النقول، وهذَّب ورتَّب وخاض في قضايا كلامية حدثت بعد الصدر الأول، فأجاد في رد الشبهات وعرض المسائل.
      وتكون المسألة هي عقيدة السلف من قديم، لكن شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ يُحسن عرضها ويُحسن الدفاع عنها بعرض الشبهات الواردة عليها، ثُمَّ نقضها شبهة شبهة، وكذا ابن القيم.

      فنتيجة للعصر والضغط الذي كَانَ يعانيه ابن أبي العز لم يكن من المصلحة أن يشير إليهما.
      فالمبتدعة ينظرون إِلَى أن أي كلام يقوله ابْن تَيْمِيَّةَ فهو باطل، وهذا من أكبر الجهل وأرذل أنواع التعصب.
      فكان إذا قيل قال ابْن تَيْمِيَّةَ ...ردوه، وإذا رأوا كتاباً من كتب ابْن تَيْمِيَّةَ ... لم يقبلوه إطلاقاً؛ بحيث أنك لو جئت إِلَى مسألة ولم تذكر ابْن تَيْمِيَّةَ. فقلت: قال بعض المحققين؛ لوجدت قبولاً ولقيل: هذا التحقيق جيد.
      فهنا تجلت مهارة الشيخ القاضي ابن أبي العز، بأنه راعى جانب المصلحة الشرعية عَلَى جانب الأمانة العلمية من العزو إليهما.
    7. سبب اختيار عقيدة السلف

      عقيدةُ السلف أو عقيدةُ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يختارها طالب العلم تشهياً، وإنما هي العقيدة التي يجب أن تُعتقد، ولا يجوز أن يُتعبد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغيرها.
      نقول ذلك واثقين؛ لأن هذا الحكم شرعي قطعي لا يجوز لأحد أن يُخالف فيه، ولدينا من الأدلة عليه ما هو كافٍ -بإذن الله- لإزالةِ كل شبهة، ودحض كلِ افتراء، فهذه العقيدة لها من المميزاتِ العظيمة ما يؤهلها ويجعلها العقيدة الوحيدة، التي لا يجوز أن نتعبد بغيرها ولا يُعتقد غيرها.
    8. من خصائص العقيدة السلفية

      أنها العقيدة الوحيدة الربانية -ربانية المصدر- وكل عقيدة غير عقيدة السلف تجد مصادرها إما من كلام اليونان، وإما من كلام ما يسمون بالحكماء القدماء، وإما من كلام دعاة البدعة والضلالة، إلا هذه العقيدة فإنها نقية صافية ليس فيها عن أحد ولا عن بشر إلا الفهم الذي يفهمه بعض العلماء من نصوص الوحي، فمصدرها هو الوحي.
      فكما أن الإسلام هو الدين الرباني الوحيد في الأرض الذي مصدره الوحي، ولكن يجتهد العلماء في التفريعات في بعض الفروع العملية ليطبقوها عَلَى ضوء الأصول المنزلة، فكذلك عقيدة السلف هي بأصولها العامة، عقيدة ربانية مصدرها الوحي؛ لكن تجد بعض المسائل يُجتهد فيها من خلال هذه الأصول التي هي ربانية المصدر.
      ولهذا قيل: إن أهل السنة في أهل الإسلام مثل أهل الإسلام في سائر الملل، فالعقيدة السلفية هي كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فهمه الجيل الأول، فهي تعبر عن حقيقة الإسلام، فكل ميزة من ميزات الإسلام فهي في هذه العقيدة.
      وهي عقيدة إجماعية. فكل العقائد الأخرى عقائد أشخاص وأفراد، فالاعتزال يعرف بالتاريخ العام المحايد؛ وذلك بمعرفة مَن هو أول من أنشأ مذهب الاعتزال وكذا الأشعرية، بل ونأخذ القضايا العلمية -مثلاً- فنعرف من هو أول من قال بالكلام النفسي، وأول من قال بالكسب في القضاء والقدر، فنعرف بالتاريخ المحايد العام متى بدأت هذه العقيدة، إلا عقيدة السلف -والْحَمْدُ لِلَّهِ- لأنها هي نفس القُرْآن والسنة وتربية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفهم الصحابة رضوان الله عليهم، فنجد هذا القول في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يوجد بين أصول مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أي أصل أبداً حدث بعد هذه القرون المفضلة، أو حدث من غير الكتاب والسنة، فهي إذاً عقيدة إجماعية.
      أما غيرها فهي عقائد أشخاص وأفراد قد يكون لديهم من الذكاء والامتياز الذهني والتعمق العقلي الشيء الكثير، لكن يخالفهم في عقلهم من هو مثلهم عقلاً وفهماً.
      بل كثير من مؤسسي العقائد البدعية نشؤوا وماتوا مقهورين محتقرين، فإن الجعد بن درهم الذي جَاءَ ببدعة نفي الصفات قتل.

      وقال خالد بن عبد الله القسري وهو من ولاة بني أمية: أيها الْمُسْلِمُونَ انحروا ضحاياكم -تقبل الله منكم- فإني مضح بـالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلَّم موسى تكليماً، وذبحه ونحره يوم النحر، والْمُسْلِمُونَ يومئذ ينظرون، وارتاحت صدورهم لذلك. وهذا الرجل أصل نشأة تعطيل (نفي) الصفات.
      وتلميذه الجهم بن صفوان قُتِلَ كما قُتِلَ الجعد، حتى لما جيء به إِلَى سلم بن أحوز وكان عَلَى شرطة بني أمية في خراسان قَالَ: لا تقتلني أرجوك؟!!
      فقَالَ: والله يا جهم ما أقتلك لأنك ذو شأن في السياسية أو المعارضة ضد الدولة، لكن بلغتني عنك أقوال أقسمت بالله إن مكنني الله منك لأضربنَّ عنقك.

      وهو الذي أسس العقيدة الجهمية.
      وأيضاً عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي أسس عقيدة الكلابية والتزمها الأشعري في الفترة الثانية من حياته قبل أن يرجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
      وكذا الحارث المحاسبي وكان له ميل إِلَى التصوف والكلام، أمر الإمام أَحْمدُ بن حَنْبَل بهجرهما فهجرا، ولم يكن يقربهما من طلاب العلم إلا القليل النادر؛ لهجر علماء السنة لهم، وعلى رأسهم الإمام أَحْمَد.
      وكذلك عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وأمثالهم ممن أسسوا مذهب الاعتزال، اتفقت كتب الجرح والتعديل عَلَى القدح والطعن فيهم.
      فأي عقيدة غير عقيدة السلف الصالح إنما هي محدثة بعد القرون المفضلة أو في أثنائها، وكانت محتقرة ومهجورة من علماء وأئمة الدين.
      ومنذ القرن الثالث تقريباً إِلَى اليوم، يتبع أكثر الْمُسْلِمِينَ الأئمة الأربعة، وبطبيعة الحال فإن الشَّافِعِيّ والمزني والأسفرائيني والأصبهاني الذي ألف كتاب بيان الحجة، علماء وراء علماء، وطبقات وراء طبقات، في مذهب الشَّافِعِيّ، كلهم عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
      وكذلك تجد الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وكان مُحَمَّد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف كذلك، ثُمَّ جَاءَ الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ الذي وضع متن هذه العقيدة وهو من الحنفية. وهكذا كثير ممن ينتمي إِلَى مذهب أبي حنيفة وهم من أئمة المذهب هم عَلَى هذه العقيدة.
      ثُمَّ مذهب الإمام مالك وهو إمام أهل الأثر جميعاً، وهو عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- وتلاميذه كـابن القاسم وابن الحسن وأمثالهم، ثُمَّ من بعدهم كـابن عبد البر وهو من أكبر علماء المغرب وكتبه معروفة ومشهورة، كانوا كلهم عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
      ثُمَّ الإمام أَحْمَد -إمام أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- وكذلك أتباعه استمروا عَلَى منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى القرن العاشر وربما إِلَى اليوم.

      وهكذا نجد الإمام الشوكاني والصنعاني وابن الوزير وأمثالهم من علماء الزيدية، لما توسعوا في العلم وتبحروا، انتقلوا من الزيدية إلى مذهب السلف.
      فالشاهد أن هذه العقيدة إجماعية من عدة نواحي:
      أ- أنها لم يكن غيرها في القرون الأولى، وما وجد في تلك القرون من عقيدة فاسدة فإنها مرذولة مردودة؛ لأن أكثر علماء الأمة كأصحاب الأمهات الست، حتى أئمة اللغة الكبار كانوا عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد-.
      ب- ولأنها العقيدة الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها الْمُسْلِمُونَ، والتي يجب أن يجتمع عليها الْمُسْلِمُونَ شرعاً وديناً ولا يقبل غيرها، كما لا تزال هي العقيدة التي تجمع آخراً كما جمعت أولاً، كما قال الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: [["لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"]] فآخر هذه الأمة إن أرادوا الاجتماع والنصر والتمكن والاستخلاف في الأرض، الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعباده الصالحين من الجيل الأول، فعليهم بهذه العقيدة نفسها، فإنها -بإذن الله- هي الوحيدة الكفيلة بذلك ولا شيء غيرها.
      ج-وهي عقيدة فطرية سليمة -ولله الحمد- فكل مسلم يقرأ كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ يؤمن بها بالبداهة وبالفطرة، فالعقيدة السلفية -عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- في الإيمان، تكتفي بالإيمان المجمل فيمن لا يستطيع الإيمان المفصل.
      وهذا الإيمان المجمل يحصل لمن يقرأ القُرْآن أو يسمعه بالبداهة والفطرة، لأنه دين الجميع وقد أنزله الله لجميع البشر، فلم ينزله لعلماء الكلام المتعمقين المكذبين، الذين يكتبون الأوراق والصفحات التي لا يفهمها أحد، وإنما أنزله الله تَعَالَى لكل الناس، للبدوي الجاهل الذي في الصحراء، وللعالم الكيميائي أو الفلكي المتخصص، فيلبي حاجة الفطرة ويتفق معها.

      ومما يدل عَلَى وضوحها أن أعداء العقيدة السلفية ينكرون قضايا في الصفات وفي المباحث المهمة ويدَّعون غموضها وهي واضحة للعوام فمثلاً إذا قرأ العامي أو سمع القرآن: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه: 5]
      وتقول له: هل الرحمن عَلَى العرش؟
      فسيقول: نعم.
      ولا يخطر عَلَى باله استولى أبداً.
      وأعقد من ذلك، أنه لا يخطر عَلَى باله أن يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا قدامه كما هي عقيدة الأشعرية.
      وفي قضية الإيمان تقول المرجئة والخوارج معاً: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ ولذلك تقول الخوارج من ارتكب الكبيرة كفر، لأنه مادام أنه نقص من الإيمان شيء فقد ذهب كله، وبالمقابل قالت المرجئة: مادام أن الزاني يزني ويبقى مؤمناً، فالإيمان لا ينقص إلا بالكفر.
      وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فالإيمان عندهم يزيد وينقص، فإذا جَاءَ أحد العوام يقرأ قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا))[المدثر:31] ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى))[محمد:17] فبالبداهة والفطرة دون أن يلقن من ذلك شيء، سيقول: الإيمان يزيد.
      وكذلك القدر -وهو من أكبر المباحث التي يخوض فيها النَّاس من كل مذهب ويؤلف فيها المؤلفات الطويلة العريضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع- كل إنسان يقرأ قوله تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[الإِنسَان: 30] إذا سئل هل أنا لي مشيئة وإرادة؟
      فسيقول: نعم، يقول تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[الإِنسَان: 30]، فأنت لك مشيئة والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له مشيئة.

      ومن هنا نقول: إن آيات وأحاديث الصفات وأصول العقيدة جملة، ليست من المتشابه؛ بل هي من المحكم الواضح الجلي. وإن كَانَ في بعضها ما قد لا يفهمه إلا أولو العلم أو بعض طلبة العلم، لكنها بالجملة من المحكم، وأما الفهم فتتفاوت الأفهام بما يقدر الله عَزَّ وَجَلَّ لكل إنسان من معرفة اللغة والأهلية عَلَى ذلك.
      فهذه المميزات وغيرها تجعلنا جميعاً ندين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه العقيدة دون غيرها، ونتعلمها ونتعبد الله عَزَّ وَجَلَّ بها دون غيرها، وإن تعلمنا غيرها فمن باب معرفة الباطل ليجتنب لا من باب معرفته ليعتقد.
      وحسبنا ما في هذه العقيدة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الذي رواه النَّسَائِيُّ لما رأى في يد عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صحيفة من التوراة قَالَ: {أوقد فعلتموه، والله لو كَانَ موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي}، ولما فتح سعد بن أبي وقاص المدائن -مدائن كسرى- وجدوا من الكتب الضخمة التي كَانَ كسرى يحتفظ بها في سائر العلوم والفنون، فكتبوا إِلَى عُمَر رضي الله عنه وَقَالُوا: هل ترى أن ننقلها إِلَى الْمُسْلِمِينَ أو أن نستفيد منها؟
      فقَالَ: أحرقوها أو أغرقوها. فما كَانَ فيها من شر فليرحنا الله منه، وما كَانَ فيها من خير فقد أغنانا الله بما هو أعظم منه، والْحَمْدُ لِلَّهِ.
      فلا نحتاج في مصدر ديننا، وفي معرفة ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن نتلقى من غير ما كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يأخذونه، وهو الوحي.

      فالمسألة خطيرة، لأنها ليست قضية رأي وعقل يفكر به الإِنسَان ويختار؛ بل هي قضية اتباع وتسليم لله عَزَّ وَجَلَّ، فمن أراد الحق، والدين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالحق فعليه بهذه العقيدة الإجماعية، التي لا يجوز الخروج عليها.
      وإلا فإنه كما قال تعالى:((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ))[النساء:115]، فهذه الآية من الآيات التي تدل عَلَى حجية الإجماع -كما نص عَلَى ذلك العلماء- وأن اتباع غير سبيل المؤمنين هو التفرق عن الدين القويم قال الله تعالى:((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153].
  2. أهمية علم أصول الدين

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: -
    [بسم الله الرحمن الرحيم حسبي الله ونعم الوكيل، وبه نستعين، الْحَمْدُ لِلَّهِ، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعــد:
    فإنه لما كَانَ علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إِلَى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه] إهـ.

    الشرح:
    بدأ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتابه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي كَانَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما صح عنه- يستفتح بها، وهذه سنة ينبغي لنا أن نقتدي بها جميعاً.
    وكل خطبة لا يذكر فيها الشهادة أو لا يتشهد فيها، فهي كاليد الجذماء، كما جَاءَ في الحديث. وكذلك في الحديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع} أو (فهو أبتر) وإن كَانَ في الحديث ضعف من حيث الإسناد، ولكن هو ثابت من فعل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه ومكاتباته إِلَى الملوك وغيرهم.
    فالبداية بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ، أو بالْحَمْدُ لِلَّهِ، أو ببسم الله، أو بخطبة الحاجة، هي سنة ثابتة عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينبغي العدول عنها، وهكذا بدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ.

    ثُمَّ قال بعد ذلك: "أما بعد"، وهذه أيضاً سنة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه وكتبه، كَانَ بعد أن يسمي الله أو يحمد الله، أو يثني عَلَى الله تَعَالَى بما هو له أهل، يقول: أما بعد، ثُمَّ يبدأ في الموضوع الذي يريده.
    وعلم أصول الدين أشرف العلوم؛ لأن شرف الشيء من شرف موضوعه، وموضوع علم التوحيد هو معرفة الله وصفاته، وما ينبغي لوجهه من التعظيم والثناء، وما ينبغي لحقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ من العبادة وهو حقه عَلَى العباد.
    وبذلك نستنتج قضية مهمة لا ينبغي أن نفوتها -وإن كانت معلومة ومفهومة لدى الجميع- وهي التشكيك في تعليم التوحيد والعقيدة وأصول الدين، والقول بأن هذه الأمور لا داعي لها.
    فيُردُّ عليهم بمثل ما افتتح المصنف، أن شرف العلم بشرف المعلوم، فمعرفة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هي الفقه الأكبر، وهي أعظم العلوم والغايات، وأشرف ما يسعى إليه المؤمنون جميعاً، فلا يجوز لأحد أن يُهوِّنَ من أمرها أو يشكك فيها، أو يقول: ليس هناك داعٍ إِلَى معرفة توحيد الأسماء والصفات!!
    لو قال رجل: ليس هناك داع أن يعلم الناس الصلاة والزكاة، لأنكر عليه جميع الْمُسْلِمِينَ. فكيف بالتوحيد! وهو أعظم؛ لأن معرفة الله تَعَالَى في ذاته أعظم من معرفة حقه، فاعتقادنا فيه أعظم من فعلنا له، وكما سيأتي من كلام المُصنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ وهو يقول: إن القُرْآن كله توحيد، فأفضل ما في القُرْآن هو ما يتعلق بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ.

    والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمضى الفترة الطويلة في تعليم التوحيد، ثُمَّ لم يزل في المدينة تنزل عليه أحكام الفروع مرتبطة بالعقيدة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[البقرة:183].
    وهكذا الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ شرع لتكون كلمة الله هي العليا، ومن أوائل ما شرع وفرض هو قتال أهل الكتاب الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، والذين قالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم.
    فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورةِ التوبة بقتالهم، وهو واجب محتم كقتال الْمُشْرِكِينَ المعطلين، فمن عرف الله ووصفه بغير صفته، أو جعل له خدناً أو صاحبةً أو ولداً، أو أشرك في صفاته في أي نوع من أنواع الشرك، فإنه يقاتل كما يقاتل المشرك المعطل.


    1. الحديث عن كتاب الفقه الأكبر

      وهنا ينبغي لنا أن نتجه إِلَى قضية ثبوت كتاب الفقه الأكبر.
      الواقع أن الإمام أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ نُسِبَتْ إليهِ بعضُ الكتبِ التي لم يكتبها ولم يؤلفها، وإنما كتبها عَلَى ما يبدو أحد أئمة الحنفية المسمى أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله، ونسبها إِلَى الإمام أبي حنيفة.
      وفيها حق كثير لاشك فيه، لكن يهمنا أن نعرف أنها ليست لـأبي حنيفة، فرسالة العالم والمتعلم، ورسالة الفقه الأكبر وإن كَانَ أكثرها صحيح، وشرحت عَلَى أنها للإمام أبي حنيفة، لكنها من الناحية العلمية توثيقاً للكتاب ليست لـأبي حنيفة.
      والحكم نفسه ضعيف؛ بل هو متهم بالوضع.
      ولأن المؤلف حنفي -والحنفية هم أكثر الْمُسْلِمِينَ في ذلك العصر بل هم الدولة- انطلق المُصنِّف في شرحه عَلَى أن هَؤُلاءِ الحنفية يُثبتون ويعتقدون أن الفقه الأكبر صحيح وثابت عن أبي حنيفة، وربما يقولون: إن الحكَم -وهو أبو مطيع البلخي- ثقة.

      ونقول لهم: إذا انتسبتم إِلَى هذا الإمام فانظروا ماذا قال، ولا تعتقدوا عقائد بدعية مخالفة لمذهبه حدثت في القرن الرابع عَلَى يد أبي منصور الماتريدي، ثُمَّ عَلَى يد النسفي وغيرهم من الذين أحدثوا في مذهب الحنفية ما ليس منه، في مجال العقيدة.
    2. لا حياة للقلوب إلا بمحبة الله ومعرفته

      وأما قول المُصنِّفِ: وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة وضرورتهم... إِلَى آخر العبارة.
      هذه العبارة هي عنوان باب عقده الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في إغاثة اللهفان: أنه لا حياة للقلب ولا طمأنينة ولا نعيم إلا أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو معبوده وإلهه، واختصر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الأسطر من ذلك الكتاب.
    3. مشكلة الإنسان المعاصرة

      والقرن العشرون أكثر القرون في تاريخ البشرية اضطراباً وحيرة وتفككاً وضياعاً، ومعلوم أن الذي يعبر عن هذا حق التعبير في أي واقع ومجتمع -سواء كَانَ هذا الواقع حقاً أو باطلاً عقيدة أو سلوكاً- بالتعبير الدقيق هم أصحاب الإحساس العميق الدقيق، كالشعراء والأدباء وأمثالهم.
      فماذا يقول أدباء وشعراء أوروبا حول قضية أنه لا حياة للإنسان، ولا سعادة ولا هناء إلا بأن يعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!!
      عبروا عن ذلك بما يدل عَلَى الضياع والفراغ والحيرة، ويؤسفني جداً أن أقول: إن بعض أدباء الْمُسْلِمِينَ يسلكون وينتهجون منهج أُولَئِكَ الأدباء الحيارى الضائعين؛ ولذلك نجد كثيراً من الدواوين الشعرية ضائعة تماماً.
      فمثلاً شاعر نصراني يقول:
      جئت لا أدري مـن أين؟!             ولكـني أتيت
      وغيره من الشعراء يكتب ديواناً كاملاً تقرأ فيه الحيرة والضياع والألم، فيتألم من شيء لا يدري ما هو.
      ونحن والله نعرف أن سببه هو عدم الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، وأنه لو عرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصلى وقرأ كتاب الله، لما كَانَ في شعراء الْمُسْلِمِينَ من يقول:
      ومضى عمري             ولا أعرف دربي أبداً
      أما نَحْنُ والله إننا نعرف دربنا وإلى أين المصير، ونعرف أن مردنا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه فرض علينا فرائض وشرع لنا شرائع، فإذا وقفنا عند حدوده ووحدناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأطعناه فمصيرنا إِلَى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن عصيناه وتعدينا حدوده فمصيرنا إِلَى الشقاء وضيق الدنيا، وإلى النَّار في الآخرة أجارنا الله وإياكم، لكن الحيارى لا يدركون ذلك.
      وهذا شاعر فرنسي وهو من أكبر الشعراء أثراً في فرنسا يقول: "حيرة الإِنسَان المعاصرة"!!، طبعاً هم يعممون الإِنسَان لأنهم يظنون أن الْمُسْلِمِينَ حيارى، ونحن في الحقيقة حيارى؛ لأن القليل منّا من يمثل حقيقة الإسلام، فيظنون أننا مثلهم عَلَى هامش الأمم حيارى.

      يقول: (ومشكلة الإِنسَان المعاصِرة قضية واحدة، وهي أنه يبحث عن سيد، يبحث عن إله).
      فيحدد أول مرة سيداً عاماً لكنه في الأخير يقول: "يبحث عن إله" وهي مشكلة الإِنسَان المعاصرة، فالدمار والحروب المستمرة، والقنابل الذرية، والمصير الرهيب الذي ينذر البشرية، وتحاول أن تتخلص منه ولا تستطيع، هو الذي يلجئ أهل الإحساس وأهل الشعر وأهل النظرات البعيدة إِلَى المخدرات والانتحار، يتخلصون به من رعب المستقبل كما يسمونه، ولذلك نجد أرقى بلاد العالم في الحضارات المادية، وفي الشوارع الفسيحة، والعمارات الضخمة، والترف المادي في معدل المعيشة، هي أكثر بلاد العالم نسبة في الانتحار، لأنه كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وكما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: ( لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها).
      والله لا يجد العبد الطمأنينة والراحة واللذة ولا يجد السعادة مهما أخذ من الدنيا وجمع من حطامها، بل يعذبه الله بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
    4. كيفية معرفة الله سبحانه وتعالى

      قَالَ المُصنِّفُُ رحمه الله تعالى:
      [ومن المُحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ عَلَى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إِلَى آخرها، ثُمَّ يتبع ذلك أصلان عظيمان:
      أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
      والثاني: تعريف السالكين مالهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم.
      فأعرفُ النَّاسِ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ أتبعهم للطريق الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه، ولهذا سمى الله ما أنزله عَلَى رسوله روحاً، لتوقف الحياة الحقيقة عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فَقَالَ تعالى:((يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [غافر:15] وقال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ))[الشورى:52-53] فلا روح إلا فيما جَاءَ به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به. وسماه الشفاء كما قال تعالى: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ))[فصلت:44] فهو وإن كَانَ هدىً وشفاءً مطلقاً، لكن لما كَانَ المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر. ا. هـ]

      الشرح:
      بعد أن ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أهمية العلم بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نبه إِلَى الأصل العظيم، وبداية انحرافات الفرق جميعاً التي تنتهي بها إِلَى الضلالة والهاوية.
      وهي كيفية معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟

      إن من المحال أن تنفرد العقول وحدها بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، أما الإدراك المجمل والمعرفة المجملة فهذه موجودة في الفطرة، قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172]، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخذ الميثاق الفطري ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[الروم:30] -وسيأتي بحثها عما قريب- وهي موجودة لكنها لا تعطي معرفة تفصيلية، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عن طريق الوحي.
      وأما العقول والأذهان فلا تستقل بمعرفة ذلك، ولهذا تخبطت الفرق الإسلامية تخبطاً شديداً لما اتبعت آراء المتخرصين المتهوكين بعقولهم.
      والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نتبع الدليل الشرعي والوحي ((قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء:45] فنذارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وهذا الذي ميزنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به وكرمنا به، ثُمَّ إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9] فالوحي محفوظ ومعصوم، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا نبحث عن مصدر آخر غير هذا الوحي، وإلا فالضلال والويل والخسارة والتخبط واقع كما وقع لمن خرج عن منهج السلف الصالح.
      نهاية إقدام العقول عقــال            وغاية سعي العالمين ضلال
      ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
      فمن ينتهج غير منهج السلف الصالح نجد عادته جمع الأقوال والردود، وقال الحكماء، وقال فلان، ورد عليه فلان وفلان.
      لا يصل أبداً إِلَى اليقين والحقيقة؛ لأن هذا الدين ليس مما يدرك بالنظر والعقول، وليس مما تنفرد به الأفهام والأذهان، وإلا لو كَانَ كذلك لما احتيج للأنبياء.
    5. حاجة الناس إلى الأنبياء والرسل

      الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث الأَنْبِيَاء ليبينوا ذلك التوحيد، وجعله مفتاح دعوة الرسل يدعون أول ما يدعون إِلَى معرفته وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يستحقه عَلَى العباد من أنواع الطاعات والتعبدات، فلا تستقل العقول ولا تنفرد بمعرفة هذا، ودلائل ذلك من الواقع أكثر من أن تحصر.
      فأيام اليونان كانت هناك نظريات عقلية بلا دين، فلما جَاءَ المنتسبون إِلَى الإسلام من الفلاسفة كـابن سينا وابن رشد والفارابي والكندي نقدوا تلك النظريات وأبطلوا كثيراً منها، وأضافوا إليها إضافات هي صحيحة بالنسبة لباطل أولئك.
      ثُمَّ جاءت النهضة الأوروبيه أو عصر التنوير - كما يسمى- في القرن السادس عشر والسابع عشر، فظهرت نظريات جديدة، ومنها النظريات القديمة سواء ما أضافه المنتسبون إِلَى الإسلام أو نظريات أرسطو وأفلاطون.

      ثُمَّ جَاءَ القرن التاسع عشر فظهرت المذاهب التي تسمى المذاهب الوضعية، وفي القرن العشرين ظهرت نظريات أكثر حداثة وأكثر ردة، فيا سُبْحانَ اللَّه!!
      وكما قال بعض السلف رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم: "من جعل دينه عرضة للهوى أكثر التنقل".

      ويكفينا قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)) [الكهف:51] فأي نظرية غيبية تتحدث عن نشأة الكون، أو ما يتعلق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو نشأة الإِنسَان عَلَى هذه الأرض، وكيف جاء؟ ولماذا جاء؟!
      هي باطلة من وضع المضلين الذين لم يشهدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق السماوات والأرض، ولم يشهدهم خلق أنفسهم فضلاً عن أن يشاركوه في ذلك، فهم مضلون، أضلوا بني الإِنسَانية وأضلوا أهل الديانات القديمة، ثُمَّ أضلوا أهل الإسلام فيما بعد.
      ويسمونهم فلاسفةً وحكماء، وأصحاب العقول الضخمة، وهم لا قدرة لهم في معرفة ذلك إلا بالوحي، وأما ما يفهمه الإِنسَان من الوحي فيما يتعلق بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا مدخل للعقل فيه.
      أما فيما يتعلق بالفروع فللعقول مدخل عليه، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نزل هذا القُرْآن للتدبر والفهم والاستنباط، وكذا المعارف الدنيوية، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوكل أمرها إِلَى الإِنسَان نفسه وسمح له وأفسح له المجال أن يعمل ويكدَّ فيها ويتعلم.
      وأما ما يسمى بالعلوم الإِنسَانية أو النظريات الكونية (النظريات الإِنسَانية) فهذه لا يجوز للمسلم أن يستمد منها شيئاً
      .
    6. أصول المعرفة الكلية

      فالأصول ثلاثة:
      معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ومعرفة الطريق الموصل إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ومعرفة العاقبة والمآل لمن أطاع الله ولمن عصاه، وهذه أساس المعرفة بالآخرة.
      فالمعرفة الكلية تشتمل عَلَى هذه الأصول والأقسام الثلاثة، وأولها وأشرفها: معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    7. فائدة في كلمة المعرفة

      كلمة المعرفة ينكرها بعض الناس؛ لأن الصوفية يسمون الإِنسَان الذي بلغ عندهم درجةً ما "العارف"، وهذا المصطلح غريب عَلَى الإسلام.
      لكن معرفة الله ليست غريبة؛ بل وردت في الحديث الصحيح في إحدى روايات حديث معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليمن قَالَ: {فإذا هم عرفوا الله فأنبئهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات} والشاهد أن هذه اللفظة في ذاتها لا غبار عليها، وإنما الخطأ في إطلاق كلمة العارف في المصطلح المتداول عند الصوفية، فالدرجات عندنا: مسلم ثُمَّ مؤمن ثُمَّ محسن.
      وهناك صفات أخرى وهي: المتقون، المفلحون، الفائزون، إِلَى آخره وليس فيها ولا منها العارفون.
      فمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي الأصل الأول من أصول المعرفة ثُمَّ معرفة الطريق الذي يوصل إِلَى رضا وطاعة الله وهو حقيقة الشريعة، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
      فنعرف أولاً: التوحيد.
      ثُمَّ نعرف ثانياً: الفقه والشريعة -أي: معرفة الحلال والحرام-.
      ثُمَّ نعرف ثالثاً: مصيرنا، فنعرف أخبار الآخرة وما يتعلق بها، وما هو حالنا عند الموت وبعده، وما هو حالنا في العالم الآخر.
      فمن عرف هذه الثلاث اكتملت معرفته الضرورية في معرفة دينه، وهي وإن كانت -أي: معرفة أخبار الآخرة، وما يتعلق بها- مما لا يتعبد بها عملاً لكنها مما ينبغي معرفتها اعتقاداً.

      قَولُ المُصنِّفِ رحمه الله تعالى: ولهذا سمى الله... إلخ.
      الإشارة هنا "ولهذا" تعود إِلَى التعليل، والغرض من التعليل إثبات أن العقول لا تستقل بمعرفة الله وأنه يلزم أن تكون تابعة للشرع، ولهذا سَمّى الله ما أنزله عَلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ روحاً وسماه نوراً، وسماه شفاءً.