يقول: "فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلباً لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة" فالفتن إذا وقعت بين المسلمين وتقاتلوا من أجل الملك والسلطان، لا لإعلاء كلمة الله، ولا لإعزاز دينه، ولا لإحقاق الحق، فهؤلاء في الحقيقة يتقاتلون ويزعمون أنهم بقتالهم هذا يزيلون الفتنة وهم قد وقعوا فيها؛ لأن القتال من أعظم الفتن، بل هو أساس كل فتنة بين المسلمين، وأساس كل فساد وقطع للأرحام، ويترتب على ذلك مصائب لا يعلمها إلا الله.
ثم يقول: "وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة"، أي: هناك في المقابل المنافقون الذين يقرون الشرك والكفر والإلحاد ومخالفة دين الله عز وجل، فإذا دعوا للإنكار وإلى الجهاد قالوا: نخاف الفتنة، فهؤلاء في الفتنة سقطوا ولم يخلصوا منها، يقول: "وهذه الفتنة المذكورة في سورة (براءة) دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة؛ فإنها سبب نزول الآية" الصورة المقصود بها من كلام العلماء هي: المظهر، فصورة أي إنسان تعني مظهره، فالافتتان بالصور الجميلة يعني العشق، وهو المراد بهذه الآية.
قال: "وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه"، أي أن بعض المتدينين يكون حاله ذلك، فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل، والدعوة إلى الله، ويقول: أخشى من الفتن، وقد تكون الفتن متوهمة غير حقيقية، فيكون تركه لذلك من أعظم الفتن.
وهذه من المداخل الشيطانية الخبيثة، فالإنسان يجب عليه أن يتقي الله ويتحرز من الرياء والغرور والإعجاب، وهذه أمراض خطيرة تقضي على العلم والعمل، لكن إذا أعطاك الله علماً، وفقهك في شيء من الدين، ثم طلب منك أن تدعو إلى الله فقلت: أخشى الفتنة، وأخشى أن يفتتن الناس بي، وهذا هو المثل الذي يريده شيخ الإسلام، فهو يقول: إن الفتنة في الحقيقة هي كتم ما أنزل الله وكتم ما أمر الله، فإقرار الانحراف -إن كان في العقائد أو في الأعمال- والسكوت عليه وعدم تبليغ ما أمر الله بيانه للناس هذا هو الفتنة الكبرى، والواجب في هذه الحالة أن تتصدر وأن تأمر وتنهى وتعلم وتحذر.
فلو كان هذا الرجل المنافق وأمثاله يخافون من فتنة بنات الروم: فما الواجب عليهم شرعاً؟
نقول: اخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيتم بنات الروم، فغضوا أبصاركم، فلا تُترَكُ الطاعة من أجل احتمال فتنة، ولكن تقام الطاعة، وتجتنب أسباب المعصية، فإن كنت تريد أن تعمل في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأقدم وافعل الطاعة واؤمر وانه واصبر، وفي الوقت نفسه احذر مما يباغتك به الشيطان من الشهوات التي تسقطك فيما حرم الله، فالواجب عليك الجهاد بكلا الحالين.
يقول: "وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحذور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا فعلهما جميعاً أو تركهما جميعاً مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك، فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات"، والمقصود: أن من كان لديه المقدرة والأهلية، ثم بمجرد احتمال أن يأتيه الشيطان أو يسقط في الفتنة يترك الخير، ويصده الشيطان عن الحق ويحرمه، ويحرم المسلمين من أمره ونهيه وجهـاده، يقول: "فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور؛ لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة".
فمثلاً: قائد من القواد جريء وشجاع، لكنه يخشى أن يظلم الجنود ويجور عليهم، فالمصلحة تكون في أن يتولاها؛ لأن مفسدة جوره على الجند أخف من مفسدة أن يسيطر علينا الكفار ويغزونا، ولهذا اشترط العلماء في اختيار الخليفة أو قائد الجند مراعاة مصلحة الأمة؛ فإن كانت الأمة في حالة حرب وقتال، فإنه يختار الأشجع والأجرأ والأدهى والأحكم، لا الأتقى والأضعف قوة؛ لأن الأمة حينئذ تحتاج إلى القوة، وإن كانت الأمة في حالة سلم وموادعة ومهادنة، فلا يختار الأشجع والأجرأ، ولكن يختار الأتقى، وإن كان أضعف قوة وأقل جرأة؛ فديننا بني على الحكمة والمصلحة.