بيان اختلال أمر المسلمين بعد الشيخين
قال: "ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين" كثرت فيهم الشهوات من أموال وجوارٍ وكنوز تملكوها، وأيضاً وجدت الشبهات، فظهرت الشيعة والرافضة، وبدأت فتنة القدرية وما أشبه ذلك.
يقول: "وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا" أي: لم يكن ذلك في الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، ولكن في بعض ولاتهم وفي بعض رعيتهم، ويقول: "ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين واختلاطها بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين"، فانتشرت الفتن حتى وقعت المعارك بين ابن الزبير من جهة وعبد الملك بن مروان من جهة والمختار بن أبي عبيد من جهة، وكانت فتنة عظيمة بين المسلمين.
ولهذا لما خطب عبد الملك بن مروان قال: تكلفوننا أعمال المهاجرين والأنصار ولستم مثلهم. يقول: تطلبون منا أن نحكمكم كما كان يحكم أبو بكر وعمر المهاجرين والأنصار، وأنتم لستم مثلهم.
ولما سئل علي رضي الله عنه من قبل أحد أتباعه: لماذا استقام الأمر في عهد أبي بكر وعمر ولم يستقم لك؟ قال: {كانت رعيتهم مثلي، وأنا رعيتي مثلك}، فالفرق واضح بين رعية أبي بكر وعمر وبين رعية علي رضي الله عنهم أجمعين.
ولذلك حصل الخلل بعد عصر الخلفاء الراشدين من الجهتين، فلا أولئك الحكام كانوا كالخلفاء الراشدين، ولا الرعية كانوا كالمهاجرين والأنصار، فكانت العقوبة وتسليط بعض الظالمين على بعض، وتولية بعضهم بعضاً.
يقول: "وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى" أي أن كل واحد متأول، ويظن أنه يريد الحق مع أن فيه شبهة وشهوة وميلاً، وكذلك الطرف الآخر. يقول: "ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى.
فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى،كما قال تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ))[الشورى:15]".
ويقول رحمه الله: "وهذا أيضاً حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات" (المقالة) هنا معناها: الاعتقاد أو المذهب، ولهذا ألّف الأشعري كتاباً سماه مقالات الإسلاميين، أي: آراءهم واعتقاداتهم.
يقول: فكما أن هذا واقع فيما يتعلق بالملك والسلطان؛ فهو واقع كذلك في المقالات والعبادات.
يقول: "وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين، فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها؛ فإن معهم نفوساً وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع؛ فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره -لا سيما إن كان نظيره- يفعله ففعله" فالإنسان أحياناً يريد الخير، لكن نفسه تنازعه للشر، فإذا رأى نظيره أو قرينه على شيء، مال إلى أن يفعل مثل ما هو عليه، فإذا ظهر الهوى والشهوة، وغلبت على طائفة، كان ذلك داعياً إلى أن ينساق إليها البقية من الذين هم على الخير، والعكس صحيح أيضاً.
يقول: "فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض" القطا: هو الطير المعروف، وهو يطير في أسراب؛ فالذي يحصل في طيران هذه الطيور أنه إذا تقدم منها واحد أو مجموعة، اندفعت البقية وراءه؛ فإذا تأخر وتقدم غيره، اندفعت وراء الآخر؛ فإذا انحرفت مجموعة، انحرفت الطيور كلها جميعاً، وهكذا الناس يتبع بعضهم بعضاً؛ فالناس عندما يرون إنساناً يفعل شيئاً، اتبعوه دون أي تفكير، وهذا من العجب؛ لأن الله تعالى ميز الإنسان بالعقل؛ لكن قَلَّ من يحكم عقله في أمور حياته وَيُغَلِّبُه على هواه.