المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وكلما بعد العهد ظهرت البدع، وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليقبل، وقلّ من يهتدي إِلَى الفرق بين التحريف والتأويل، إذ قد سُمِّى صرف الكلام عن ظاهره إِلَى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلاً، وإن لم يكن ثَمَّ قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلاً قُبل وراج عَلَى من لا يهتدي إِلَى الفرق بينهما. فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إِلَى إيضاح الأدلة، ودفع الشُبَه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إِلَى شُبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه، والاشتغال به والإصغاء إليه، امتثالاً لأمر ربهم، حيث قال: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه))[الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم. وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين واتباع ما أنزله الله عليهم وقد ختمهم الله بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعله آخر الأَنْبِيَاء وجعل كتابه مهيمناً عَلَى ما بين يديه، من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب، والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والأنس، باقية إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وانقطعت به حجة العباد عَلَى الله، وقد بين الله به كل شيء وأكمل له ولأمته الدين، خبراً وأمراً وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إِلَى غيره، وأنهم إذا دعوا إِلَى الله والرَّسُول -وهو الدعاء إِلَى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدوداً وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا.
وكما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نُحس الأشياء بحقيقتها، أي: ندركتها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقية جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرَّسُول أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة.
وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين يما يدعونه من الباطل الذي يسمونه: حقائق وهي جهل وضلال وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك.
وكل من طلب أن يُحكم في شيء من أمر الدين غير ما جَاءَ به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جَاءَ به الرَّسُول وبين ما يخالفه، فله نصيب من ذلك، بل ما جَاءَ به الرَّسُول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلموا ما جَاءَ به الرَّسُول في كثير من الأمور الكلامية الاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الأمارة السياسية، أو نسبوا إِلَى شريعة الرَّسُول بظنهم وتقليدهم ما ليس منها وأخرجوا عنها كثيرا من ما هو منها.
فبسبب جهل هَؤُلاءِ وظلالهم وتفريطهم وبسبب عدوان أُولَئِكَ وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة.
بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل في ما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُعلم ويعتقد ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تُلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء] إهـ.

الشرح:
كلما بعد العهد كثرت الانحرافات والتأويل الذي سماه أهله "تأويلاً" فإن من المعلوم أنه قد كثر التعطيل والتشبيه.
  1. التأويل

    والتأويل هو أصل به هُدمت الشريعة، ويوضح ذلك: أن الذين ينفون صفات الله عَزَّ وَجَلَّ كـالمعطلة والباطنية والرافضة، وأمثالهم من الذين يضربون كتاب الله بعضه ببعض، هَؤُلاءِ هم قوم مجاهرون ومعادون لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بوضوح، ويعادون الأمة الإسلامية وجماعة الْمُسْلِمِينَ، ويعادون الأصول الشرعية، فيردون الآية والحديث، وأمرهم واضح جلي، لكن المؤول أخطر وجنايته أكثر، لأنه يقول: أنا أؤمن بالآية والحديث، ويقول: أنا من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهكذا يدعي المؤولون: أنهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
    والتأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح قرينة.
    والتأويلات كثيرة جداً، وبعضها مضحك، وبعضها يستدعي التعجب، فمثلاً ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64] ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي))[ص:75] هنا "يدَي"، وهناك "يداه"، فالمؤول يقول: نؤول اليد، مع أن ظاهر اليد صفة معروفة.
    فالذين يثبتون لله عَزَّ وَجَلَّ هذه الصفة يقولون: اليد حقيقية تليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا نعرف كيفيتها، فيقول المؤولة هذا الظاهر، ونحن مسلّمون بأنه ظاهر اللفظ وأنه تدل عليه الآية، لكن نصرف هذا الظاهر إِلَى وجه واحتمال مرجوح، وهو أن لفظة اليد معناها النعمة أو القدرة، لقرينة وهي: تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ، فالقواطع والبراهين العقلية دلت عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منزه عن الجارحة
    .
    فهناك قواعد عقلية وضعوها هم:
    منها: أن الله ينزه عن الجارح، واليد جارحة، فتنفى عن الله ويصرف اللفظ من الاحتمال الراجح المتبادر الذي يعرفه كل من يقرؤه إِلَى احتمال مرجوح يقال فيها بوجود القرينة، وهي البرهان العقلي الذي قام عَلَى تنزيه الله تعالى.
    وأولوا وحرفوا بتأويلات عجيبة، نذكر فقط بعض الامثلة، ففي الحديث الصحيح: {لا تزال النار تقول هل من مزيد حتى يضع الله تَعَالَى قدمه في النار} وروايات كثيرة في أن النَّار لا تمتلئ حتى يضع الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها قدمه، وفي رواية: {رجله} كلها في صحيح البُخَارِيّ ومسلم، {يضع الله تعالى قدمه في النَّار فتقول: قط قط} وفي إحدى الروايات كلمة {الجبار} وفي روايات كثيرة: {يضع الله}، {يضع الرحمن} فَقَالُوا: الجبار إما أنه أحد الملائكة اسمه "الجبار"، وإما أنه أحد الظلمة من أهل الأرض، فلا تمتلئ حتى يضع هذا الجبار الطاغوت قدمه أو رجله في النار، فتقول: قط قط قد امتلأت.
    وهذا تأويل أبي المعالي الجويني، وقد رجع عن ذلك، وتبعه عليه أبو حامد الغزالي، وهو موجود في كتابه المصقول في علم المنقول، وهم قالوا بذلك هروباً من أن يقولوا: هو الله عَزَّ وَجَلَّ.
    والروايات الأخرى التي فيها (الله، الرحمن) قالوا: عندنا قرينة وهي: أن الله ينزه عن الأبعاض والجوارح، وهذا قد قامت عليه البراهين العقلية والأدلة القطعية من العقل، فتنفى.
    وحديث الحبر اليهودي، رواه الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم وغيرهم، أنه جَاءَ إِلَى النبي وقَالَ: {أما علمت يا مُحَمَّد أن الله يَوْمَ القِيَامَةِ يضع السماوات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والثرى عَلَى إصبع، والشجر عَلَى إصبع، وبقية الخلائق عَلَى إصبع} وفي رواية الإمام أَحْمَد: {أنه يضع الأرض عَلَى ذه وأشار إِلَى السبابة} ثُمَّ استمر في بقية الأصابع.
    وفي الحديث: {فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله} هكذا نص الحديث "على إصبع" فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله.
    ومثله الآية: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر:67]، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك تصديقاً لقوله، وأن هذا حق، لكن كيفية الصفة غير معلومة لنا، فله من الصفات ما يليق به كما أن للمخلوق ما يليق به.
    وأما المؤولة فقالوا هذا الحديث يؤول، وذلك كـابن فورك، فإنه قَالَ: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك تعجباً من تشبيه هذا الكافر اليهودي.
    فيقال هل ضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعجباً من كفره؟!!
    تأويلات غريبة ليس عليها أي دليل، إلا أنه كما قالوا: قامت القواطع والبراهين العقلية عَلَى أن هناك قرينة تمنعنا من أن نقول بظاهر هذا اللفظ.

    ومن الأدلة عَلَى بطلان التأويل، ما قاله: أبو المعالي الجويني نفسه -شيخ الغزالي- في آخر عمره لما رجع عن الأشعرية، وقد كَانَ إمامهم، وألف كتاباً سماه الرسالة النظامية "إني اطلعت فرأيت السلف مطبقين عَلَى عدم التأويل مع كثرة اهتمامهم بفروع الشريعة، فلما رأيتهم قد نقلوا إلينا الشريعة كاملة، وأنهم أكثر منا اهتماماً بأصول الشريعة وفروعها، ورأيتهم مطبقين عَلَى عدم التأويل، علمت أن التأويل غير حق، فتركت التأويل" .
  2. خطر التأويل

    ينبغي أن نعرف خطر التأويل، فإنه أخطر من قضية الأسماء والصفات، وإن كانت الأسماء والصفات تتعلق بالله عَزَّ وَجَلَّ وتوحيده، وهي ركن عظيم من ديننا، لكن القول بالتأويل، نقض للدين كله أصوله وفروعه.
    فالروافض والباطنية قيامهم وتعلقهم وتطاولهم إنما هو بسبب انتشار التأويل بين الْمُسْلِمِينَ،
    تقول الرافضة: إن الله أمرهم أن يذبحوا عَائِِِشَةَ بنت أبي بكر، ولكنهم عصوه وأمّروها عليهم، وأركبوها جملاً، وذهبوا بها لتحارب أمير المؤمنين على بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في معركة الجمل.
    والدليل عَلَى ذلك ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)) [البقرة:67] فهل يُعقل أن الله تَعَالَى وهو العظيم الجليل يأمر في القُرْآن بذبح بقرة من التي تمشي في الأرض؟ لا. وإنما المسألة أعظم من ذلك.
    قال أهل السنة: هذه ليست في أم المؤمنين، وإنما هي في اليهود من بني إسرائيل، لأن موسى قال لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

    وقالت الباطنية للمسلمين: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟
    قالوا: هذا ديننا، وهي من أركان الإسلام.
    فقالوا: هذه نؤولها عن ظاهرها، فالصلوات الخمس: عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين والإمام المنتظر، وتأويلنا هذا ليس بناءً عَلَى قرينة عقلية، بل بناءً عَلَى خبر يقين.

    وَقَالُوا: الإمام الغائب الذي في السرداب، وهو الإمام المعصوم هو المصدر العلمي اليقيني عندنا، وينقله إلينا الباب، فالباب ينقل كلام الإمام الغائب الذي في السرداب إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فنحن نتكلم بيقين، لأن هذا الإمام المعصوم ينقل لنا الكلام عن طريق الباب، والباب يعطي الحجاب، والحجاب أو نواب الأمير ينقلون إلينا هذه المعاني، فعرفنا أن الصلوات الخمس هي هذه الأسماء الخمسة.
    والصوم هو: أن يحفظ أسرار الطائفة، والحج: أن تقصد الأئمة وتتلقى عنهم وحدهم، فما هناك طواف بالكعبة، ولا هناك حجر.
    وكذلك الفلاسفة أولّوا كما أولّ الرافضة والباطنية، فقالت الفلاسفة: إن البعث لا حقيقة له.
    فقيل لهم: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر بالبعث في كتابه، والأحاديث الصحيحة ذكرت البعث ووضحته، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحشر النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ حفاة عراة غرلا، وتدنوا منهم الشمس فيكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان.
    فقالوا: هذا البعث حشرٌ روحاني للأرواح فقط، ولا تعاد إِلَى البدن، لأن العقل يدل عَلَى أن هذا محال، وأن هذه الجثة بعد أن دخلت الأرض وصارت هباءً لا تعود حية.

    ونعيم الجنة نعيم روحاني فقط، وهذا الكلام يكفرهم به المؤولة وغير المؤولة، فالْمُسْلِمُونَ جميعاً يكفرون من يقول بهذا الكلام حتى المؤولة يكفرونهم.
    لكن يرد الفلاسفة عَلَى المؤولة فيقلون: أنتم أوّلتم اليد والاستواء ونحن نؤول البعث أيضاً.
    قال المؤولة نحن أولّنا بقرينة.
    قال الفلاسفة: ونحن عندنا قرائن عقلية مثل ما عندكم قرينة عقلية، فالقواطع والبراهين العقلية تدل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يتصف بهذه الصفات، وهو منزه عنها.
    هذه جناية التأويل وخطره عَلَى عقيدتنا، فلو فتحنا هذا الباب فمن يسده؟ وإذا أوّلنا وأوّلت جميع الطوائف فماذا بقي من القُرْآن والدين؟

    فهذا التأويل قبل وراج لما سمي تأويلاً، وإلا فهو تحريف، فالله تَعَالَى يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] ويقول المؤولة: الرحمن عَلَى العرش استولى زيادة تأويل، لكنه يحول ويغير المعنى، وإن كانوا لم يغيروا الآية، فهم لم يزيدوا في الآية إلا "لام" لكن إذا تركوها بهذا المعنى لم يبق من حقيقة الآية إلا ما هو مكتوب في المصحف فقط، أما ما تفهم به فهو المعنى الذي وضعوه، وهو بزيادة اللام.
  3. سبب التأليف في العقائد

    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [من أجل ذلك احتاج المؤمنون إِلَى دفع الشبه] أي: من أجل انتشار التأويل وأمثاله، احتاج المؤمنون إِلَى التأليف في العقيدة، ليردوا عَلَى هذه العقائد.
    والأصل هو كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ والسنة، وهذا ما كَانَ عليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فاضطرنا هَؤُلاءِ أن نسلك هذه الطريقة وذلك لما كثرت البدع والتأويلات والانحرافات، فبدأنا نضطر أن نقاوم هذه البدع، ونبينها ونكشفها، لا نكتفي ببيان الحق، وإنما نبين ما يضاده من الباطل.
    ثُمَّ يقول: [وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ...].
    هذه قاعدة مهمة، وهذا من إنصاف المُصنِّف وعدله رحمه الله تعالى، فقد قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) [المائدة:8].
  4. مراتب التأويل

    للتأويل ثلاث مراتب: قد يكون التأويل كفراً، مثل التأويلات الباطنية، وتأويلات الفلاسفة، وبعض التأويلات الكفرية، وبعض تأويلات الرافضة، كمن يؤول الصلوات الخمس بأنها الأئمة الخمسة، ويؤول الصوم بأنه حفظ الأسرار إِلَى غير ذلك، هذا التأويل كفر يخرج من الملة.
    وقد يكون معصية يخرج صاحبه إِلَى البدعة، يُحكم عَلَى صاحبه أنه مبتدع ومُنحلٌ، وذلك مثل التأويلات التي ذكرناها -تأويل صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مع نية تنزيهه.
    وقد يكون خطأً، فبعض النَّاس لا يتعمد التأويل، وهذا موجود حتى في بعض كتب التفسير لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وكتب الحديث لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عندما يؤول بعض الصفات خطأ، فهذا لا يخرجه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
    فبعض علماء الْمُسْلِمِينَ المعتبرين قد يخطأ ويؤول بعض الصفات، فهذا خطؤه مغفورٌ له إن شاء الله، فقد يخطأ بعض الأئمة في فهم بعض الأحاديث في الصفات مع سلامة المنهج.
    وأما من كَانَ منهجه وأصوله بدعية، فهذا من أهل البدع المتوعدين بعقوبة الله، إلاّ أن يتوب أو يغفر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له، ولا نقطع له بجنة ولا نار.
    والتأويل المكفر، الذي ذكرنا إنما عد كفراً لأنه مضادة للقرآن،
    وتعمد في تحريفه كما تعمدت اليهود، لما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)) [البقرة:58] فقالت اليهود: "حنطة".
    قال بعض العلماء: النون التي زادها اليهود في "حطة" وجعلوها "حنطة" مثل: اللام التي زادها المؤولة، فقالوا في استوى: "استولى" هذا وجه الشبه بينهم،
    فالذي يزيد بنية المضادة أو الاستهزاء أو المحادة، فهذا يصبح من التأويل المكفر، أما الذي زاد لاعتماد أصول بدعية، فهو يدخل في باب التأويل المذموم المبتدع المتوعد عليه، وأما الذي أصوله صحيحة، لكن يقع منه خطأً كما يقع من سائر العلماء في سائر النصوص والأحاديث، فهذا يسمى خطأ، وهذا نرجو ألاّ يؤاخذ عليه عند الله تعالى، أما في الدنيا فنبين له؛ لأن الله تعهدنا بأن نبين الحق، وليس كلام أحد حجة وصواب إلا كلام مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما من عداه فإن كلامه يُبيّن وخطأه يوضح، دون أن ننتقص من قدره، ولا نخرجه من دائرة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
  5. تاريخ ظهور البدع

    وهذه الفرق انشقت عن الجماعة، وخالفت قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه)) [الأنعام:153] فاتخذت دينها شيعاً، وتفرقت عن الدين، وأقدم هذه الفرق على ما يظهر لي هي الخوارج، لأن فكرة الخوارج بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين {كان النبي يقسم غنائم حنين، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويترك بعض المهاجرين والأنصار، حتى وجد بعض الأنصار في أنفسهم}، فكان بعض الأعراب يذهب بالألف أو الألفين من الغنم والإبل، فخرج منهم رجل له كساء، غائر العينين، شعث الشعر -كما في الحديث- {فقَالَ: اعدل يا محمد! إنها لقسمةٌ ما أريد بها وجه الله -والعياذ بالله- فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟} فهو الذي شرع شريعة العدل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمنا إياها من عند ربه عَزَّ وَجَلَّ، ولكن هذا من ضيق لبه وجهله وقلة علمه، وعدم مراعاته للمقاصد والأحكام التي يراعيها الشارع في أحكامه فقد رأى أن هذه القسمة ليست عادلة، فاعترض عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} لما اتهمه قومه بأنه آدر، فما زالوا يتهمونه حتى برأه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذب قولهم، وغير ذلك مما أوذي به موسى عَلَيْهِ السَّلام.
    فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}، ثُمَّ قَالَ: {يخرج من صلب هذا أقوام تحقرون صلاتكم إِلَى صلاتهم، وقراءتكم إِلَى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية}.
    وثبت قوله في أحاديث كثيرة في قتال الخوارج {لئن أدركتهم لأقتلنهم} فأول فرقة مستقلة لها غاية، وتجمع كانت هي الخوارج. ومن مبادئهم التكفير بالذنب، وهم أصحاب الوعيد، حيث يأخذون الوعيد ويتركون الوعد، فيكفرون الزاني وشارب الخمر والسارق ونحو ذلك.
    ويجاب عن ذلك أن الله قد جعل للمرتد عقوبة القتل، وللزاني الرجم، فإن كَانَ بكراً فعقوبته الجلد، وللسارق عقوبة القطع، فلو كَانَ الجميع يكفرون لكان الحد واحداً وهو القتل، والردود عليهم كثيرة.

    وخرج هَؤُلاءِ في عهد عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما حكّم الحكمين، فَقَالُوا: لا حكم إلاّ لله، حكمت الرجال في دين الله؟ فخرجوا وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب الواحدي وقيل غيره، لكن هذا الذي اشتهرت إمرته، ورفضوا بيعة عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: لا نبايع إلاّ مثل عُمَر، وإلاّ فلن نبايع، فبايعوا عبد الله بن وهب، وهو أعرابي جلف ليس له صحبة، ولا شهد له الله بخير كما يقول ابن حزم.
    وظهرت الشيعة بمبدأ التعطيل، كفكرة أولى هي موجودة في أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسس دين الشيعة منذ أن أثار الفتنة عَلَى عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فبداية الفرقة موجودة، لكن ظهرت كفرقة واضحة عندما خرج الخوارج وكفّروا علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
  6. أقسام الشيعة

    الشيعة ثلاثة أقسام:
    " الغالية، المؤلهة " الذين غلوا في عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: أنت أنت.
    قَالَ: من أنا؟
    قالوا: أنت الله، وسجدوا له -والعياذ بالله-.
    وهَؤُلاءِ أمر عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بإحراقهم، وهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد العجم، وهناك بدأ الدين السبئي.
    الفرقة الثانية: "السبّابة": الذي يسبون ويشتمون الشيخين، فهم لم يخرجوا من الإسلام ولم يؤلهوا علياً، ولكنهم سبوا الشيخين رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وقد قال بعض الأئمة: إن سب الشيخين كفر لأن هذين كما قال علي بن الحسين زين العابدين الذي رفضته الرافضة قَالَ: كيف أسبهم وهما وزيرا جدي؟
    فالذي يسب وزيري النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد سب النبي، والذي يقول: إن أبا بكر عدو للإسلام فهو متهم لرَسُول الله، ومتهم للأمة كلها.
    كيف يكون هذا الرجل منافقاً عدواً للإسلام ويوليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة إشارة إِلَى تولية الإمامة العظمى؟
    وكان هو وعُمَر أفضل الصحابة؟
    فإذا كَانَ هذان كذابين -كما يقول هَؤُلاءِ المغترون- فالدين كله كذب، وما نقلت لنا السنة والشريعة إلاّ عن طريق الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وعلى رأسهم أبُو بَكْرٍ وعُمَر.
    وأما الفرقة الثالثة: وهي: "المفضلة": فهَؤُلاءِ هم الزيدية الذين وافقوا علي بن الحسين، فَقَالُوا: لا نشتم الشيخين، ولكنهم يفضلون علياً عليهما، ويقولون: إن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.
    فـعَلِيّ الأفضل، ولكن إمامة أبِي بَكْرٍ وعُمَر جائزة، وهذا الذي أنكره عليهم علماء السلف، وهو من البدع، ويكفينا في بدعيته أنه صح عن عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: ما جاؤني بأحد يفضلني عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَر إلا جلدته حد الفرية ثمانين جلدة، وقال عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كما في البُخَارِيّ: "والله ما من رجل وددت أن ألقى الله بعمله إلا هذا" وكان يشير إِلَى "عُمَر وهو في سكرات الموت" وهذا الأثر معروف ومشهور ومتواتر بين الصحابة.

    ولما اشتهرالخوارج وكفروا صاحب الذنب، كشارب الخمر والزاني والسارق، خرجت منهم فرقة تقول: لا نكفر أحداً يقول لا إله إلا الله، وكانوا مع الخوارج وجلسوا معهم فترة، فرجعوا إِلَى غلو آخر شديد وَقَالُوا: لا نكفر أحداً أبداً ما دام يقول لا إله إلا الله، حتى وإن سب الله ورسوله، وأنكر القرآن، فجنحوا إِلَى الطرف الآخر، وهَؤُلاءِ هم "المرجئة"، وظهروا في أواخر العهد الخامس.
    ثُمَّ ظهرت القدرية، وكان ظهورها في العراق أيضاً، في عهد الصحابة بتأثير النَّصَارَى الذين كانوا في الشام، وكان لهم كلام في القدر والخوض فيه، فنقلوه إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وقال به معبد الجهني، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث جبريل الطويل المشهور المعروف: (أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقَالَ: يا مُحَمَّد أخبرني عن الإسلام؟...)، رواه عبد الله بن عمر عن أبيه عُمَر حيث جَاءَ بعض التابعين إِلَى عبد الله بن عمر وسأله فقَالَ: إن هناك أقواماً في العراق ينكرون القدر، فَقَالَ لهم: حدثني أبي، فذكر حديث جبريل الذي يدل عَلَى أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة.
    فـالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية هذه الفرق جميعاً ظهرت في عهد الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وهذه الفرق الأربع هي أصول الفرق التي تشعبت منها فرق صغيرة، وظهرت المعتزلة في أوائل المائة في عهد الحسن البصري، فاعتزلوا مجلسه، وهم في الحقيقة امتداد لفكر الخوارج، لكنهم لا يقولون: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة، وإنما قالوا: يخرج من الإسلام ولا يدخل الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، فَقَالُوا: يخرجونه من الإسلام لأن الآيات والأحاديث التي في المؤمنين لا تنطبق عليه، ولا يدخلونه في الكفر لأن الآيات والأحاديث التي في الكافرين لا تنطبق عليه، فجعلوه في منزلة بين المنزلتين.
    ثُمَّ ظهر الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بعد المائة والعشرين، وقَالَ: أيها النَّاس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، ثُمَّ نزل من المنبر وذبح الجعد بن درهم.
    ثُمَّ تلميذه الجهم بن صفوان، وخرج مع الحارث بن سريج عَلَى بني أمية سنة 128هـ، وكان كاتباً له فنشر فكر المرجئة، والجهم كَانَ ينفي جميع الصفات عن الله، وكان في نفس الوقت مرجئاً، يقول: إن الإيمان هو المعرفة القلبية فقط، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن -عند جهم-، ولهذا فـالمرجئة غلو في هذا الباب، لأن إبليس يعرف الله بقلبه، بل بلسانه قَالَ: ((فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) [ص:82] وكان الجهم كثير الجدل بلا علم، لم يتفقه، ويخالط العلماء، ويقرأ كتب العلم، ويحفظ من كتاب الله وسنة رسوله، وإنما كَانَ يجادل فقط، فجاءه قوم من الهنود من عباد الأبقار، فَقَالُوا: جئنا نناظرك، فقالوا له: صف لنا ربك؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ هل شممته؟
    فبقي أربعين يوماً يفكر، كيف يرد عَلَى هَؤُلاءِ؟
    فقَالَ: هو كالهواء، ليس له أي صفة، لا يرى ولا يشم، ونتج عن ذلك نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.

    ثُمَّ تلقى عن الجهم بشر المرّيسي، وهو يهودي في الأصل، لم يلق الجهم، ولكن لقي تلاميذ تلامذته، وتعلم مذهب الجهم .
    ثُمَّ تلقى عنه عبد الله بن سعيد بن كلاّب، وهو المؤسس الحقيقي للمذهب المسمى مذهب الأشعرية، ولذلك هجره الإمام أَحْمَد رحمه الله تعالى، لأنه وافق مقالة بشر وجهم، لكن ابن كلاب لم ينف جميع الصفات، كما قال جهم بأن الكلام كلام نفسي، ولكن أثبت ما يثبته العقل، ونفى ما ينفيه العقل، وحكّم العقل.

    وهذا الذي قالته الأشعرية والماتريدية، فَقَالُوا: ما قامت القواطع العقلية عَلَى إثباته فإننا نثبته، وهي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام -الكلام النفسي- فهذه يدل العقل عَلَى إثباتها.
    وأما الأخرى فالعقل يحكم باستحالتها في حق الله تعالى، فلا نثبتها لله تعالى، وأصل هذا العقل هو عقل الجهم لما اختلى أربعين يوماً.

    والقدرية تشعبت، فكان منها القدرية الغلاة الذين ينكرون العلم، ومن أنكر علم الله للأشياء قبل وقوعها فقد كفر، وهَؤُلاءِ أكفر القدرية فإنهم قالوا: لو كَانَ الله يعلم أنه يفعل المعصية، إذاً هو قدّر عليه المعصية، فكيف يجازيه عليها؟ وهكذا سوّل لهم الشيطان.
    والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا أن هذه الحجة قديمة، قال تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148]ويقول الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة النحل: ((كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)) [النحل:35] وقال في الأنعام: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [الأنعام:149] ثُمَّ قَالَ: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ))[الأنعام:151] فالله تَعَالَى ذكر هذه الشبهة وردّ عليها بأنه لو كَانَ يلزم من ذلك أنه أراد الشرك -يعني قضاه وقدره- لما أرسل الأنبياء، ولما أقام الحجة البالغة.