يقول القاضي عبد الجبار : "وإما أن يقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن، على ما تقوله المرجئة، والكلام عليه أن نقول: ما تريد به؟ أتريد به أن حكمه حكم المؤمن في المدح والتعظيم والموالاة في الله تعالى، أم تريد أنه يسمى مؤمناً؟ -أي: دون أن يأخذ حقوق المؤمنين- فإن أردت به الأول، فذلك لا يصح؛ لأنه خرق إجماع مصرح، فإنا نعلم من حال الصحابة -وخاصةً من حال علي بن أبي طالب عليه السلام- أنهم كانوا لا يعظمون صاحب الكبيرة ولا يوالونه في الله عز وجل؛ بل يلعنونه ويستخفون به، ولهذا فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول في قنوته: "اللهم العن معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وأبا موسى الأشعري ".، وإن أردت به الثاني، فذلك لا يصح أيضاً؛ لأن قولنا: (مؤمن) في الشرع اسم لمن يستحق هذه الأحكام المخصوصة؛ فكيف يجري على من لا يستحقها؟!"
ما نقله القاضي عبد الجبار من أن علياً لعن هؤلاء هو مما اختلقه عليه أهل البدع ممن يدعون أنهم شيعته؛ فإنه قد علم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن الخوارج الذين خرجوا عليه وكفروه، فقيل له: [[ أكفار هم؟ قال: لا، من الكفر فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فمن هم إذاً؟ قال: بغاة بغوا علينا]]، وفي رواية: [[إخواننا بغوا علينا]] فإذا كان الخوارج بغاة؛ بغوا وخرجوا وظلموا؛ ومع ذلك لم يستحل علي رضي الله تعالى عنه أن يخرجهم من الدين، وإنما كانوا خارجين في نظره عن الحق، وعن الجادّة وعن السنة، مخطئين بهذا التصرف، فكيف يستحل في حق أهل الشام -معاوية ومن معه- وفي حق أبي موسى الأشعري أن يلعنهم.. كما افترى عليه ذلك أهل البدع ممن زعم أنه من شيعته؟! فهذا مما لا يظن بأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه.
ومما يدل على أن هذا مما اختلقه أهل البدع على علي رضي الله عنه قصته مع عائشة رضي الله تعالى عنها بعد يوم الجمل، وخلافه مع الخوارج وإلزامه لهم، وإلزام عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لهم أيضاً.
بل الثابت عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: [[إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ))[الحجر:47]]].
هذا هو الظن بالصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج : {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة} الأصح أن ذلك لا يعني خروجهم من الملة، وإنما يعني خروجهم عن الحق وعن السنة والهدى، ولعلنا نفصل الأقوال والخلاف في كفرهم في موضع آخر، وكذا الفرق بين متقدميهم ومتأخريهم، وأن بعضهم يستحق الحكم عليه بالكفر لأنه قد أتى بمكفر؛ فإن بعض الخوارج خرجوا من الملة بأشياء أخرى، كمن أنكر سورة يوسف مثلاً، فهذا خروجه من الملة ليس لكونه من الخوارج، بل لكونه أنكر سورة من كتاب الله.
المقصود أن كلام علي رضي الله تعالى عنه هو في أصحاب النهروان، الذين أمّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، واجتمعوا في النهروان، وسفكوا الدم الحرام، واستحلوا دماء المسلمين وقطع الطريق، ولقد قال لهم رضي الله عنه قبل ذلك: [[إن لكم علينا أن لا نمنعكم من الفيء وأن لا نمنعكم مساجد الله حتى تحدثوا]]، فأحدثوا بعد ذلك وقتلوا عبد الله بن خباب وجاريته، وبقروا بطنها، ولما لقوا النصراني قالوا: لا تخفروا ذمة نبيكم. وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأهل الذمة، وقال: {من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة} لكن كيف يحترم الخوارج دم الذمي ويقتلون الصحابي؟! هذه مشكلة الخوارج وهي الفهم المنكوس.
ومروا في طريق، فوجد أحدهم رطبة، فقال: هل آكلها أم لا آكلها؟ فاختلفوا هل هي حلال أو حرام، وتورعوا عنها، لكنهم في دماء المسلمين ولغوا ولم يتورعوا، ولأعراض الصحابة استباحوا وفيها ورتعوا، فانظر إلى فهم الخوارج، تجده فهماً منكوساً معكوساً.
وكل قضاياهم هكذا، يقولون: لا نبايع أحداً، إلا أن تأتونا بمثل عمر .
فإذا كان لا يوجد عمر، ولكن يوجد علي وسعد وطلحة والزبير، قالوا: لا نريدهم، ففارقوا الجماعة وأمَّروا منهم أميراً، فهل أمّروا أميراً مثل عمر ؟
أمّروا عبد الله بن وهب الراسبي، وقد قال فيه ابن حزم كلمته المشهورة، قال: "هو أعرابي بوال على عقبيه، ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضل، ولم يشهد الله له بخير".
يقول القاضي عبد الجبار؛ "وإن أردتم به الثاني -وهو أنه يسمى مؤمناً ولكن لا يأخذ أحكام المؤمنين- فذلك لا يصح أيضاً؛ لأن قولنا: (مؤمن) في الشرع اسم لمن يستحق هذه الأحكام المخصوصة، فكيف يجري على من لا يستحقها؟!" وهنا نرد عليه مثلما رددنا عليه سابقاً، فنقول: لا يلزم من كونه مؤمناً أو مسلماً أن يأخذ كل أحكام وحقوق المسلمين.