والرد عليهم في مسألة (أن الله قدر المعاصي ومع ذلك يعاقب عليها) أن نقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل شيء وقع فهو بمشيئته، فإذا أردت أن تستدل على شيء ما أن الله شاءه، فانظر إليه: إن كان واقعاً فاعلم أن الله شاءه، وإن لم يقع فاعلم أن الله لم يشأه.
وإرادة الله تنقسم إلى قسمين:
1- إرادة شرعية: وهي ما يريده الله من العبد شرعاً، وذلك مثل الصلاة، فالله أراد من العبد أن يصلي، بمعنى أن الله شرع الصلاة وأمر بها وطلبها من العبد.
2- وإرادة كونية، كأن يريد الله أن فلاناً لا يصلي، فهذه إرادة كونية كتبها وقدرها، لكنه لم يرض ذلك، فليس هناك تلازم بين الإرادة وبين الرضا، قال تعالى: ((
وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ))[الزمر:7]؛ ولهذا لما قال المشركون: ((
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[النحل:35] رد الله عليهم -كما في الآية التي بعدها- فقال سبحانه: ((
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] فلو كان الله عز وجل يرضى بالمعاصي ويرضى بالشرك، فلم يبعث الرسل ليحذروا الناس منها، ويقولوا لهم: من فعلها دخل النار؟! فإرساله تعالى للرسل من أجل تحذير الناس من الشرك والمعاصي دليل على أنه لا يرضاها؛ لكنه شاءها.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن ما زعمه المشركون من أن شركهم بالله قد شاءه الله، وأن هذا دليل على رضا الله عن الشرك؛ قال تعالى: : ((
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا))[الأنعام:148]، وقال في نفس السورة عن نفسه: ((
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا))[الأنعام:107] فما الفرق بين الموضعين؟
والجواب: هناك شيء واضح لمن تأمله، وهو أنهم أرادوا بقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) الاستدلال على شرعية الشرك والاحتجاج له بالمشيئة، فيشركون بالله، ويكذبون الرسل، ويعارضون أمر الله ونهيه وشرائعه التي أنزلها؛ يعارضون ذلك بالمشيئة، ويجعلون تلك المشيئة مستلزمة لمشروعية ما يقع عنها من أمور؛ فالشرك والمعاصي التي يمارسونها قد شرعها الله ورضي بها وأقرها وأحبها وطلبها.
فاحتجاجهم هذا بالمشيئة وأنها تستلزم الرضا والمشروعية وهو المردود عليهم، وهو الذي نفاه الله، وأثبت أنهم ليس لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون، وهذا افتراء محض لا دليل عليه.
أمَّا قوله: ((
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا))[الأنعام:107] وقوله: ((
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[الأنعام:112] فهو حق وليس احتجاجاً بالقدر، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -ولكل من يدعو إلى الله في كل زمان ومكان فيجد الإعراض والصدود- لكي يعلم أن هذا شيء قدّره الله، فلا يحزن عليهم؛ فهو مثل قوله تعالى: : ((
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ))[فاطر:8] .وكقوله عز وجل: . ((
إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ))[الرعد:27].
فمن إرادة الله الكونية أن الناس لا يزالون مختلفين، وأنه يجعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأن من الناس من يبتدعون ويشركون ويلحدون، فهذه إرادة كونية؛ لله تعالى فيها حكم عظيمة.
ولو أن المشركين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، لا على سبيل الاحتجاج، بل على سبيل الإخبار بما هو واقع، لكان كلامهم صحيحاً.
ولو قد قال ذلك
أبو الدرداء؛ فقد تأخر إسلامه وكان له صنم يعبده، فلو قيل له بعد أن أسلم: يا
أبا الدرداء ! كنت تعبد الصنم؟! فقال: هذا شاءه الله وقدّره عليّ... فلو قالها أحد على سبيل الإخبار عما كان واقعاً فيها -لا على سبيل الاحتجاج- فكلامه صحيح؛ فهو لا يحتج بالقدر على الشرك؛ إنما يذكر القدر على سبيل التسلي عن مصيبة الشرك التي كانت بإرادة الله، ولا شك أنه لا يقع شيء إلا بإرادة الله، وأن المصائب يجب علينا جميعاً أن نقول فيها: ((
لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا))[التوبة:51] فالمصائب من قدر الله وقضائه ومشيئته وإرادته، ولولا إرادة الله لم تقع، فلو أن المشركين قالوا: لقد اهتدينا وتبنا إلى الله وآمنَّا وأسلمنا، بعد أن كنا مشركين، ولو شاء الله لما وقع ذلك الشرك منا؛ لو أنهم قالوا ذلك لما اعترض عليهم أحد، أما أن يحتجوا بالقدر؛ فيكذبوا أمر الله ووعده ووعيده ويعارضوا رسل الله ثم يقولوا: شاء الله لنا الشرك -بمعنى: رضيه لنا واختاره- فهذا مردود عليهم.