قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[ولا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً يدينون به؛ إلا أن يكون موافقاً لدينه الذي شرعه عَلَى ألسنة رسله عليهم السلام وقد نزه الله تَعَالَى نفسه عما يصفه العباد، إلا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه:((سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الصافات: 180-182] فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثُمَّ سلم عَلَى المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثُمَّ حمد نفسه عَلَى تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد] إهـ.
الشرح:
قال تعالى: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))من قولهم: إن الملائكة إناث، وإنهم بنات الله، وجعلوا بينه وبينهم نسباً فَقَالَ تَعَالَى بعد ذلك: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) تَعَالَى الله وتبارك وتقدس وتنزه عما يصفون.
((إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)) يعني: إلا الوصف الذي يصفه به عباده المخلصون، فما يطلقه عليه غيره من الأوصاف، فإنه ينزه عنه، إلا العباد الذين ذكرهم في هذه السورة وفي غيرها -وهم: نوح وموسى وإبراهيم- وأنبياء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين يصفون الله بأوصاف الحق.
أما هَؤُلاءِ الذين يجعلون الملائكة بنات الله والعياذ بالله، ثُمَّ يقولون: إنهم يؤمنون بالله، فقد رد الله عليهم في سور كثيرة فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة النحل: ((وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[النحل:57-60].
فهَؤُلاءِ ينسبون لله ما يترفعون عنه، أما عباد الله المخلصون فإنهم يصفونه بما هو أهل له، فغير الأَنْبِيَاء والمرسلين ومن سلك طريقهم هم ضالون مخطئون فيما يصفون به رَبّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولو تأملنا الأمم والطوائف والفرق لوجدنا أن هذه الآية ترد عَلَى جميع الملل والفرق التي شذت وانحرفت فيما يتعلق بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،فـاليهود قالوا: يد الله مغلولة! وقالوا في توراتهم المحرفة: إن الله صارع يعقوب إِلَى الفجر والعياذ بالله! وَقَالُوا: إن عزيراً ابن الله -تعالى الله عن ذلك-.
وعن قول النَّصَارَى: إن المسيح ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وتعالى الله عن قول مشركي العرب: إن الملائكة بنات الله.
وتعالى الله عن قول أمم التتار والمغول واليابانيين وأمثالهم: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى تزوج الشمس، وولد من الشمس هَؤُلاءِ الملوك والأباطرة الذين يتناسلون، وهم يعبدونهم من أجل ذلك.
وتعالى الله عن قول الشيوعيين: إنه لا إله، ولا وجود له تعالى، أو إنه أسير، أو هواء، كما يقول أصحاب النظرية الأثيرية وما أشبهها. وتعالى الله أن يكون العقل الكلي -كما يقول أفلاطون وأرسطو- :خلق عشرة عقول تدير الكون وبقي لا يعمل شيئاً.
وتعالى الله أن يكون كما قالت الرافضة: إنه فوض أمر السماوات والأرض إِلَى الأئمة الإثني عشر يعملون ما يشاءون ويديرون الكون، فشابهوا قول اليهود أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثُمَّ استراح في اليوم السابع ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب)) [ق:38] وتعالى الله عما يقوله المعتزلة: من أنه عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وعزيز بلا عزة، إِلَى آخر ما يقولون ويفترون، وتعالى الله عما يقول الحلوليون: من أنه يحل في كل مكان، حتى في الأماكن القذرة والنجسة، والعياذ بالله.
وتعالى الله عما يقول الأشاعرة وغيرهم: من أنه ليس فوق السماوات ولا مستوياً عَلَى عرشه.
وهكذا نجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذه الآية عندما قَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)) [الصافات:159-160] نزه نفسه عن جميع الأوصاف التي يصفه بها جميع الأمم الضالة وجميع الفرق الضالة (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)، وهم الأَنْبِيَاء والرسل، وهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه، وهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الذين يصفون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالمحامد، وبالأسماء الحسنى وبالصفات العلا، ويثبتون له ما أثبته لنفسه.
فهذه الطائفة -الفرقة الناجية المنصورة- وحدها هي المستثناة؛ لأنها تعلم أن له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وأنه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11].
يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثُمَّ سلم عَلَى المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب].
فقوله: [من النقائص والعيوب] "من": ترجع إِلَى كلمة سلامة، لا إِلَى كلمة وصفوه، أي: لسلامة ما قالوه في حق الله من النقائص والعيوب، أي أن كلامهم في حق الله سليم من النقائص ومن العيوب، وليس معناها: لِمَا وصفوه من النقائص والعيوب.
ثُمَّ حمد نفسه عَلَى تفرده بالأوصافِ التي يستحق بها كمال الحمد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقَالَ:
((وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الصافات:182] فختم السورة، وختم هذه المعاني بقوله:
((وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الصافات:182] فهو المستحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكمال الحمد وكمال الشكر المتفرد به، وكلمة الحمد: تشمل جميع أنواع المحامد؛ لأن "ال" هنا للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد والثناء اللائق بجلال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو يستحقه تَبَارَكَ وَتَعَالَى.