بعد أن يذكر القضايا التي أثرت في حياته وأعطته شعوراً بأن اليقين لا يوجد إلا في قوانين الرياضيات؛ يقول: "لكن كان أهم من ذلك كله -وقد كنت لم أزل صبياً- أنني آمنت بأن الطبيعة تعمل وفق قوانين الرياضة، وأن الأفعال الإنسانية كحركات الكواكب، يمكن حسابها في دقة إذا ما أسعفتنا القدرة الكافية لذلك".
أرأيتم كيف يبدأ الإلحاد؟! يقول: إن اليقين في قوانين الرياضيات وحدها وليس في غيرها، كما يقول بعض الناس: (1+1=2) هذا علم لا يناقش فيه، وهذا الكلام صحيح، لكن هذا العلم لا يمكن أن يطبق في حياة الناس، يمكن أن نقول: أثبت العلم مثلاً أن هذا الكوكب كذا وكذا، وأن المادة الفلانية كذا وكذا، وأن القانون الرياضي كذا وكذا، فهذا ممكن جداً، وإذا قلنا في هذا: قال العلم وأثبت العلم، أمكن أن نكون صادقين، ولا يعترض علينا أحد غالباً.
المشكلة هي في قوله: (وأن الأفعال الإنسانية كحركة الكواكب يمكن أن تضبط وأن تخضع لمنطق علمي)، هذا هو الخطأ، وقد لبَّسوا هذه القضية على العالم الإسلامي؛ يقولون: إن الدارس لعلم النفس كالدارس لعلم الطب، وكلاهما له مجال تكون كلمته مسموعة فيه، وكما أن طبيب القلب يعرف حركات القلب وعمل القلب ووظائف القلب، ويستطيع أن يشخص أي مرض يصاب به القلب، ويكتب الأدوية التي تعيد القلب إلى صحته وسلامته، فكذلك الطبيب النفسي يستطيع أن يحلل سلوكك ويعرف شخصيتك ويحدد ميولك، ويستطيع أن يرسم لك منهجاً تسير عليه في حياتك، وليس هذا فحسب، بل يمكن لعلماء النفس أن يحللوا سلوك المجتمعات ويعرفوا ما يصلحها وما يفسدها ويمكن أن يضعوا لها تشريعاً تسير عليه، بمعنى أننا لو أتينا بعلماء النفس وعلماء الاجتماع، وقلنا لهم: ضعوا لنا كتاباً تسير عليه البشرية في حياتها الاجتماعية والنفسية، لقالوا: يمكن ذلك؛ لأن العلم توصل إلى حقائق، وهذا هو الخطأ، فالمشكلة أن العلم البشري في هذا الجانب لا يصل إلا إلى الضلال والشك والحيرة والتخبط، والباحثون في هذه الأمور لا يتفقون على رأي، وكل تلميذ منهم يخالف أستاذه، والأستاذ يتراجع أيضاً وتختلف أقواله، وبهذا لا يمكن أن يصلوا إلى اليقين في جانب الإنسان، أما في جانب الكون أو في الجانب الجسدي المادي البحت، فالقضية منظورة، ويمكن أن يتوصل فيها إلى قوانين، لكن هؤلاء
الفلاسفة خلطوا بين المجالين.
يقول: "فلما بلغت من عمري الخامسة عشرة انتهيت إلى نظرية شديدة الشبه بنظرية الديكارتيين؛ إذ شعرت باعتقاد الواثق أن حركات الأجسام الحية إنما تنظمها قوانين الديناميكا تنظيماً تاماً" أي: أنه قد توصل إلى نفس ما توصل إليه الديكارتيون.
يقول: "إذاً فحرية الإرادة وهم الواهمين". إذاً ليس هناك حرية إرادة، والإنسان مثل الكواكب ومثل الشجر، ومثل بقية الأمور المادية يخضع لقوانين ليس له إرادة فيها.
وهذا يجرنا إلى مسألة القدر عند الغربيين؛ فالقدر عند الغربيين إما حتميات لا فكاك للإنسان عنها، وإما حرية مطلقة ليس لأحد عليها رقابة ولا هيمنة، فالفكر الغربي يؤمن بإحدى الحالتين فقط.
فـ
برتراند راسل يذكر أنه وصل إلى هذه النتيجة؛ أنه ليس للإنسان حرية إرادة.
يقول: "وقد سلَّمت بوجود الشعور الواعي عند الإنسان على أنه حقيقة قائمة لا شك في صدقها، فلم أستطع أن أذهب مع
المادية مذاهبها، ولو أنني أحسست نحوها بعض الميل لما فيها من بساطة وتنظيم، ولأنها تنبذ الترهات في تفسير الكون، وكنت عندئذ لا أزال على عقيدتي في وجود الله؛ لأن برهان العلة الأولى قد بدا لي ممتنعاً عن الدحر".
وصاحب برهان العلة الأولى هو
أرسطو، فـ
برتراند راسل يذكر أنه كان في ذلك الوقت لا يزال معتقداً بوجود إله، لكنه أنكر حرية الإرادة.