ثم حصلت له نقلة في حياته، يقول: "تحولت جدتي في السبعين من عمرها إلى عقيدة الموحدين".
الذين ينكرون ربوبية المسيح، الذين يقولون: (إن الإله واحد فقط، وأن المسيح بشر) يسمونهم موحدين، فبعضهم يثبت للكون خالقاً، وينفي ما تدعيه الكنيسة من أن الآلهة ثلاثة، ويعتقد أن الأب هو الإله، وأما الابن وروح القدس فمخلوقات، ويقول بعضهم: نكفر بكل الثلاثة، ونثبت للعالم خالقاً واحداً فقط، ليس هو هذه الثلاثة ولا واحداً منها، وذلك من شدة نفورهم من التثليث، وهذا المبدأ يسمى مبدأ الدايزم، أي: الذين يؤمنون بالربوبية، أي بالخالق فقط، وبعض المترجمين يترجمهم بـالربوبيين، وهي أولى من كلمة الموحدين؛ لأن الموحد من وحَّد الله وعرفه، لكن هؤلاء ربوبيون، يؤمنون بالربوبية؛ أي أن هذا الكون له رب خالق مدبر رازق، ليس هو ما يقوله رجال الدين، لكنهم بعد ذلك لا يؤمنون بشريعة له يتبعونها، واعتقادهم إنما هو اعتقاد ربوبية، كما كان المشركون في الجاهلية يعتقدون، وقد قال الله عنهم: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:9].
يقول عن جدته: "وأخذت على نفسها في الوقت نفسه أن تنصر الحكم الذاتي لـإيرلندا "، وقضية الحكم الذاتي لـإيرلندا وعلاقة إيرلندا بالإنجليز لا تهمنا، لكن هذا يوضح لنا أن هذه العجوز -التي كانت في أول حياتها متزمتة متمسكة بالتقاليد، وتحرص على تربية حفيدها تربية دينية، والتي فسخت وصية أبويه من المحكمة هي وزوجها من أجل أن ينشأ على النصرانية، والعادة أن الإنسان في السبعين لا يتغير، بل ربما في الخمسين، وهذه في السبعين- قررت أن تتخلى عن كل الآراء القديمة، فأصبح رأيها في الدين عكس ما في الأناجيل، وعكس ما كتبت لحفيدها هذا، ورأيها في السياسة عكس ما يؤمن به الإنجليز بالنسبة لـإيرلندا، "وكذلك راحت تعارض الاستعمار في حرارة"، عكس ما يمكن أن يؤمن به أي إنسان وطني تعجبه سياسة بلاده.
يقول: "ولقنتني وأنا بعد في السابعة أن أسيء الظن ببلادي في حروبها التي أثارتها في أرض الأفغان، وعلى قبائل الزولوا، وأما عن احتلال مصر فلم تحدثني عنه إلا قليلاً"، قالت له: الحروب التي تخوضها الإمبراطورية في أمريكا الوسطى وفي القارة الهندية، وفي غيرها حروب تافهة ولا معنى لها، أما العالم الإسلامي: كـمصر وبلاد الشام مثلاً، فلم تحدثه عنها؛ لأن هذه الأرض عندهم هي أرض الوثنيين وأرض المشركين، فمن الطبيعي أن تكون تحت سيطرة النصارى، حتى وإن كانت هي (جدة راسل ) قد تركت ديانتها.
يقول: "لأن ما فعله جلادستون وقع من نفسها موقع الإعجاب" وجلادستون هو الذي رفع المصحف وقال: ما دام هذا الكتاب عند المسلمين، فلن نستطيع أن نسيطر عليهم، ولا أن نقضي عليهم، وكلامه حق لكن ما داموا يعملون به، ويؤمنون بما فيه.
يقول: "وإني لأذكر الآن نقاشاً دار بيني وبين مربيتي الألمانية التي قالت لي عندئذ: إن الإنجليز ما داموا قد دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها مهما تكن وعودهم، فرددت عليها في وطنية مشتعلة قائلاً: إن الإنجليز لم ينكثوا قط وعداً، دار هذا النقاش منذ ستين عاماً، لكن الإنجليز ما زالوا هناك" لما كتب هذا الكلام كان الإنجليز لا يزالون في مصر، يقول: أنا كنت أثق في الوعد الإنجليزي، وكنت -وأنا صغير- أصدق أن بلادي مخلصة وصادقة في وعودها وفية بالتزاماتها، لكن بتأثير جدته وبما رأى تبين له أنهم بالعكس، وأن الإنجليز لم يفوا بهذا الوعد.
ونحن المسلمين وللأسف نضرب بهم المثل في الوفاء بالوعد، ونقول: وعد إنجليزي! وهم إذا وعدوا بشيء فيه مصالح لهم أوفوا به، وإذا كانت وعودهم في صالح المسلمين جعلوها وعوداً تلو وعود دون وفاء.
فاتفاقية (سايكس بيكو) طبقوها تماماً وكذلك (وعد بلفور) طبقوه تماماً، ولكن إذا وعدونا بأن يساهموا في حل مشكلة في العالم الإسلامي، أو يقدموا مساعدات، فهووعد إنجليزي، لكن من النوع الآخر، وعود الثعالب والذئاب للدجاج والغنم، كما في قصيدة الرصافي يقول:
والعهد بين الإنجليز وبيننا            كالعهد بين الشاة والذؤبان
يقول: "كانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، وكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي، لا سيما أن لأسرتي في التاريخ الإنجليزي مكاناً ظاهراً...". إلى أن يذكر أن جده وليم لورد راسل قد أعدم، وكانت هذه قضية مهمة.