يقول: "أراد لي أبي أن أنشأ في الفكر حراً من القيود، وكذلك أراد لأخي، فأقام علينا وصيين عرفا بحرية التفكير" يعني: لما مات أبوه، أوصى على كل واحد من أولاده بوصي حر التفكير، أي: لا يؤمن بـالنصرانية ولا بأي دين.
يقول: "لكن جدي وجدتي معاً سعيا لدى المحكمة المختصة أن تغض نظرها عن وصية أبي"، أي: أن الجد والجدة فسخا الوصية في المحكمة ليتوليا الإشراف عليه وتربيته هو وأخيه.
يقول: "فكان نصيبي أن أنشأ على العقيدة المسيحية التي عليها الجدة والجد، ذلك أني انتقلت بعد موت أبي إلى منزل جدي، وكان ذلك عام (1876م)، وكان الجد عندئذ في الثالثة بعد الثمانين من عمره، وقد نال منه الضعف الشديد، فشملني بعطف متصل، ولم تبد منه علامة واحدة تدل على ضيقه بشغب الأطفال، لكنه كان أشد ضعفاً من أن يكون له في تكويني أي أثر مباشر"، فما أثر فيه جده ثم مات جده.
يقول: "فتولتني بالتعليم جدتي التي ما فتئت تقدس ذكرى زوجها، فكانت أقوى أثراً في توجيهي من أي شخص آخر"، فأقوى من رباه جدته، فماذا كانت تعتقد جدته؟ وما هي الآراء التي أثرت بها عليه؟
يقول: "غير أني منذ أن بلغت رشدي، جعلت أختلف معها في كثير من آرائها... كانت جدتي متزمتة العقيدة، صارمة الأخلاق" وهذه نقطة أخرى في تربيته؛ فجدته كانت متزمتة -كما يرى- صارمة "تزدري الترف ولا تأبه لطعام، تمقت الخمر وتعد التدخين خطيئة، وعلى الرغم من أنها قد عاشت حياتها ضاربة في مناكب الأرض حتى استكان جدي في مأواه، إلا أنها لم تكن بطبعها مقبلة على الدنيا، فكانت تقف من المال موقف من لا يكترث به، وهو موقف لا يستطيعه إلا الذين رزقوا منه ما يكفيهم، أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة"... إلى أن يقول: "ولما بلغت الثانية عشرة من عمري أهدت إليَّ جدتي إنجيلاً ما زلت محتفظاً به إلى اليوم، وكتبت على الورقة التالية لغلافه بعض ما أحبت من آياته، فمنها هذه الآية: (لا يجوز لك أن تتبع كثرة الناس في فعل الشر)، وهذه الآية: (كن قوياً شجاعاً فاضلاً، لا تخف ولا يأخذنك اليأس؛ فربك المولى في رعايتك أينما ذهبت"، وهذه ترجمة بعض العبارات الموجودة في الأناجيل والرسائل.
يقول: "فكان لهاتين الآيتين أثر عميق في حياتي"، أي أنه لما قرأها تأثر بها وأخذ يطبقها "ولا أحسب ذلك الأثر قد أصابه الوهن -بقي متأثراً بهاتين الآيتين- حتى بعد أن أمسكت عن الاعتقاد في الله"، يعني: حتى بعد ما كفر بالله لم يستطع أن يتخلى عن تأثير هاتين العبارتين اللتين يسميهما آيتين.
وهذا يشير إلى قاعدة مهمة في التربية، وهي أن الإنسان لا يمكن أن يفصل عما تربى عليه، فهو قد كفر بالله، وأعلن إلحاده بهذا الرب وأنه لا يؤمن بهذا الرب الذي يقال: إن هذا الإنجيل كلامه، ومع ذلك يقول: إنه لم يستطع أن يتخلى عن تأثير هاتين العبارتين، وهذا يوضح لنا أشياء كثيرة، منها: أن الإنسان الغربي قد يتخلى عن كل ما في الإنجيل من تدين وصلوات وعبادات، لكن لا ينسى ما فيه من حديث عن الأمم الأخرى، أو احتقار للوثنيين وللمشركين ولأشباههم، فينشأ وهو يحتقر المسلمين على اعتبار أنهم وثنيون ومشركون، وإذا قرأ التوراة وتعلق بما فيها، فإنه ينشأ على محبة أرض الميعاد، وإن كان غير متدين، فقد يأتي ولو سائحاً، كما ترونهم اليوم لا يتدينون بدين، لكنهم يأتون إلى فلسطين سياحة؛ لأنهم تأثروا بهذا الشعور، الذي يجده كل من يقرأ التوراة عن هذه الأرض، وقداستها وأهميتها وعظمتها... إلخ.
فالإنسان قد يكفر بأصل المبدأ، أما تأثيرات التربية فلا يستطيع أن ينفصل عنها.