السبب الثاني: قولهم: إن الله سبحانه وتعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وقد ذكر الله تعالى في كتابه أنه يعلم الجزئيات، قال تعالى: ((
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ))[غافر:19].. ((
وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ))[إبراهيم:38].. ((
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ...))[المجادلة:7] الآية، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الله تعالى يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات.
وشبهتهم في قولهم بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، هي الشبه الكاذبة التي قال بها
أرسطو، وهي: أن الله سبحانه وتعالى كامل لا يصدر عنه إلا كمال، والكامل لا يشغل نفسه بالناقص؛ والكون والمخلوقات فيها نقص وشر وبلاء، وفيها أمور مكروهة، فالكامل لا يشغل نفسه بها.
إذاً: فقد جعلوا الله تعالى معزولاً عن تدبير الكون وتصريفه حتى لا يشغل نفسه بهذا الناقص؛ وذلك لأن الجزئيات تحتوي على بلاء وشر؛ كالقتل والنهب وغيرها، فيقولون: لو قلنا: إن الله يعلمها، لما نزهنا الله! وهذا من الجهل بالله عز وجل، فإنهم أرادوا أن ينزهوا الله بعقولهم، ولم ينزهوه كما نزه نفسه، وقولهم هذا كقول
القدرية، لكنهم زادوا على ذلك، فقالوا: لا يعلمها، فأنكروا العلم، وهو المرتبة الأولى من مراتب القدر التي من أنكرها فقد كفر، ولذلك فإن أكثر
القدرية لم ينكروا العلم؛ لأنهم لو أنكروه لكفروا، أما
الفلاسفة فقد أنكروا العلم، ولكن العلم بالجزئيات، وذلك مداهنة لأهل الإسلام، ونحن عندما نذكر كلام
أرسطو نذكره على ما فهمه
ابن سينا و
الفارابي و
الرازي وأضرابهم إلى
نصير الكفر الطوسي الذي سمى نفسه
نصير الدين الطوسي، وإلا فإن الذين نقلوا عن
أرسطو قد اختلفوا فيما بينهم.
يقول
ابن رشد مثلاً: إن بعض
الفلاسفة أو بعض المنتسبين إلى الإسلام فهموا كلام
أرسطو فهماً خاطئاً. وقد ذكرنا أن
أرسطو و
أفلاطون فلاسفة، ولكن الفلسفة ليست محصورة فيهما، فالفلسفات كثيرة، ولكن هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام من
الفلاسفة -وهم من ذكرنا أسماءهم- وقعوا على أحط المذاهب وأخسها، وهو ما ينسب إلى
أرسطو، فقالوا: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، وذلك حتى لا يعلم الشر؛ لأنه لو علم بالشر فسيكون قد قدره، والشر والقبيح موجود في العالم، إذاً لا بد أن ننزه الله عنه، وبذلك وصفوا الله تعالى بالجهل حتى ينزهوه!
وهكذا كل من أراد أن ينزه الله تعالى من غير طريق الكتاب والسنة، فإنه ينسب إليه النقص والعيب الذي لا يليق بالمخلوق، فإنه لو قيل عن المخلوق: إنه يجهل ما لا ينبغي لمثله أن يجهله؛ لكان ذلك عيباً ونقصاً، فكيف يقال ذلك في حق الله سبحانه وتعالى؟!
يقول المصنف: [وكل موجود في الخارج فهو جزئي]، أي: أن قولهم بأن الله لا يعلم الجزئيات يدل على أن الله تعالى لا يعلم شيئاً؛ لأن كل موجود في خارج الذهن فهو جزئي.
وقولهم: (داخل الذهن وخارج الذهن)، المقصود بداخل الذهن: التصورات التي يسمونها: الكليات، فمثلاً: الإنسانية التي هي مركبة من الحيوانية والناطقية، هذا تصور كلي داخل الذهن، أما خارج الذهن فتوجد الجزئيات، أي: الآحاد؛ كعبد الله، وعلي، وحسن، ومحمد، وفلان وفلانة.. إلخ.
إذا تقرر هذا فإنهم جعلوا وجود الله تعالى وجوداً ذهنياً، وقالوا: إنه لا يعلم إلا هذه التصورات والكليات، وهي الحدود والتعريفات الذهنية، كما تقول مثلاً: إن الماء سائل لطيف شفاف، فهو سبحانه لا يعلم -عندهم- إلا هذا التصور الذي لا وجود له إلا في الذهن، أما ما كان خارج الذهن من الجزئيات فلا يعلمها، فمعنى ذلك أن الله لا يعلم شيئاً؛ لأن كل ما كان خارج الذهن فهو جزئي، فمثلاً: آحاد الملائكة موجودون خارج الذهن في الواقع، وكذا آحاد الإنسان، وآحاد الكواكب، فكل هذه الأشياء آحاد متشخصة جزئية، فلا يعلمها الله على قولهم، تعالى الله عما يصفون!