مهما بلغ الإنسان في الإيمان والتقوى فلابد أن يقع في الذنب، وقد يتكرر منه الذنب الواحد، إلا أن ذلك لا يخرجه من دائرة الإيمان، وإنما ينقص إيمانه بقدر مقارفته لهذا الذنب، فالإيمان يزيد وينقص، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة الذي تميزوا به عن سائر الفرق الضالة. وكما تقع المعصية والبدعة من العامة، فهي تقع من الأئمة الأعلام، إلا أن ذلك لا يجعلهم قائمين بمنهج هذه البدعة، وقد استغلت بعض الفرق المنحرفة وقوع بعض الأئمة في شيء من أقوالهم، فنسبوها إليهم، وادعوا أنهم يعتقدون بجملة مذاهبهم الضالة؛ مع أنهم منها برآء.
  1. أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة

    1. النهي عن لعن مرتكب الكبيرة

      قال ابن حجر رحمه الله في (ص:78) ذاكراً الفوائد من الحديث: "وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" وهذا واضح والحمد لله، حيث أن هذا الرجل صحابي وشرب الخمر، فلم ينف عنه شرب الخمر صحبته، بل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أمراً زائداً عن مجرد الصحبة، وهو أنه يحب الله ورسوله، وهذه ليست في كل أحد من الناس، فهذه صفة لم يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، بل وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم من الأعراب ومن ضعفاء الإيمان ومن أشباههم من لم ينل شرف هذه الشهادة، فمرتكب الكبيرة كما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، ولا يخرج من الملة، فمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر فقوله مردود بأدلة كثيرة منها هذا الحديث، والذين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج، وأيضاً قاربهم في ذلك المعتزلة، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لكن في الآخرة هو عندهم مخلدٌ في النار، فإذن هو عندهم كافر في الحكم والحقيقة، وإن كانوا لا يكفرونه في الاسم والإطلاق.
      يقول رحمه الله: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه" فلا تنافي بين ارتكاب النهي أو الوقوع في المحرم أو ارتكاب الكبيرة وثبوت محبة الله ورسوله، وهذا يمكن أن نعبر عنه بتعبير آخر فنقول: إنه يجتمع في القلب الواحد الطاعة والمعصية، ويجتمع فيه الإيمان والنفاق، كما تجتمع فيه السنة والبدعة، فهناك المبتدع الخالص، والمنافق الخالص، والفاجر أو العاصي الخالص الذي لا خير فيه مطلقاً، لكن أيضاً نجد من يجتمع فيه الأمران، فهذا الرجل (ابن نعيمان ) أو (نعيمان ) اجتمع فيه أمران: شرب الخمر وهو كبيرة ومعصية ولا شك في ذلك، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن هذا الرجل لا يخلو من أن يقال فيه أحد قولين: إما أنه فاقد الإيمان كما تقول الخوارج، وإما أن يكون كامل الإيمان كما تقول المرجئة، وهذا الحديث رد عليهما، فلا هو كامل الإيمان، إذ كيف يقال: إنه كامل الإيمان وقد شرب الخمر؟ وليس بفاقد الإيمان، إذ كيف يكون فاقد الإيمان وهو يحب الله ورسوله؟
      إذن لابد أن نقول: إنه ينقص إيمانه بقدر ما فيه من المعصية، ولكن له أيضاً من شعب الإيمان ما يكون إيمانه بها خيراً ممن هو أقل منه إيماناً، وأما نفي الإيمان عنه بالكلية فصريح الحديث يرده ويبطله.
    2. تكرار المعصية لا يستلزم نفي محبة الله ورسوله

      يقول ابن حجر رحمه الله في ذكر فوائد الحديث: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" فنقول: من أين أخذ الحافظ رحمه الله هذه الفائدة؟ أخذها من قول الصحابي: (ما أكثر ما يؤتى به)، فالرجل كان يشرب مراراً، وهذا موضع الاستدلال، وفي هذا الاستدلال نظر قال: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" والمفروض أن يقال: لا تنتفي عنه محبة الله بالكلية، لكنها قد تنقص. والمقصود التحفظ على إطلاق الكلام، فلا تؤخذ هذه الفائدة على إطلاقها؛ بل لابد من التقييد، حيث إن هذا الصحابي كان يُغلب فيشرب الخمر.
      ثم يرده حب الله ورسوله زمناً عن شرب الخمر، ثم يُغلب؛ أي أنه ليس في حالة استقرار على شربها ولا اطمئنان إلى ذلك، ولو وصل الأمر به إلى أن يكون مدمن خمر مطمئناً إليها، فهذا ينتزع منه حب الله ورسوله والعياذ بالله، وتسقط عنه سيما المؤمنين؛ لأنه أصبح مدمن خمر وملكت قلبه بالكلية، وهذا لا يظن بهذا الصحابي.
    3. محبة الله ورسوله تستوجب حسن اتباعه صلى الله عليه وسلم

      إذن فالفائدة التي يمكن أن نستنتجها هي أن الإنسان مهما بلغ في الفضل والإيمان والتقوى يمكن أن يتكرر منه الذنب، وهذا ما وقع في حق ذلك الصحابي، ولأن حالته حالة خاصة ومخالفة للأصل، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، لكن العادة أن من يشرب الخمر مراراً لا يكون أهلاً لأن يثنى عليه أو يمدح، وهذا هو الأصل في من يشرب الخمر، لكن هذا الرجل ليس ممن أدمن، وإنما هو رجل فيه إيمان وفيه خير، إنما يغلبه شيطانه، ولا شك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يشربون الخمر في أول الإسلام، فقد كانت الخمر حلالاً، فربما يكون هذا الرجل ممن كان قد اعتادها قبل أن تحرّم، ولم يستطع الفكاك منها، وهذا ليس عذراً له، ولكنه يجعلنا نعلم أن اجتماع محبة الله ورسوله مع تكرار هذا الذنب له ما يفسر بالنسبة لحالته، إلا أنه لا شك عندنا أنه مع حبه لله ورسوله لا يمكن أن يكون مدمناً محباً راضياً عن نفسه وهو يفعل هذه الفعلة، لكنه يغلب عليها، فهذا دليل على أنه غير مصر، قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله))[آل عمران:31] ولا شك أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرط في حصول المحبة ودعواها، ولهذا سمى السلف هذه الآية آية الامتحان وآية المحنة، فكل إنسان يدعي المحبة، لكن حقيقتها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وكذلك قال في آية الجهاد: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ))[التوبة:24] إلى أن قال: ((أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))[التوبة:24].
      ولو كان الإنسان محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: فإنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم هذا المتاع أو المحبات أو العلاقات على الجهاد في سبيل الله، لكن قد يقع الضعف من الإنسان ويدخل فيه التقصير فيجتمع في نفسه هذا وهذا، فوعيد الله هنا يتعلق بالمحبة المطلقة الكاملة، وهذا الصحابي يحب الله ورسوله إلا أن هذه المحبة تنخفض وترتفع عند إتيانه هذه المعصية.
    4. معنى نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة

      قال رحمه الله: "ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية" نفي الإيمان عن شارب الخمر، {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}. المقصود به -كما يقول الإمام- أنه لا يراد به زواله بالكلية، قال: "بل نفي كماله كما تقدم"، وهذا منطوق العبارة، ولو رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في أول الصحيح في كتاب الإيمان، لعلمنا لماذا وقع في مثل هذه العبارة، فهو -ابن حجر رحمه الله- يرى أن الأعمال كمال للإيمان، وأنها شرط في كمال الإيمان، وهو في هذا رحمه الله متأثر بكلام النووي والقاضي عياض والقرطبي رحمهم الله جميعاً، لكنه مع تبحره وسعة علمه ونقله عن أهل السنة من كتاب الإيمان للإمام أحمد، ومن كتاب أصول أهل السنة والجماعة للالكائي، ومن كتاب الشريعة للآجري، ومن السنة لـابن أبي عاصم وغيرها، وقد أدرج هذه النقولات بأكملها -تقريباً- في ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو الفتح، إلا أنه في هذه النقطة تابع كلام هؤلاء الأئمة الشراح -على فضلهم وجلالتهم- الذين خفي عليهم الحق في هذه المسألة والتبست عليهم القضية، فجعلوا الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف أن المعتزلة يرون أن الأعمال شرط في ثبوت الإيمان، والسلف يرون أن الأعمال شرط في كمال الإيمان، وليس هذا مذهب السلف، فمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، فالأعمال هي جزء من الإيمان.
  2. عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان الزيادة والنقصان

    إن الفرق الواضح بين أهل السنة وبين المعتزلة هو أن أهل السنة يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، بينما المعتزلة لا يرون ذلك، فهذا فرق واضح، وليس عند أهل السنة والجماعة مشكلة في حكم صاحب الكبيرة أنه ناقص الإيمان، فإذا كان يشرب الخمر فلا شك أنه ناقص الإيمان، فلو جمع مع الخمر الزنا فإنه يكون أشد نقصاً، وحين يجمع مع ذلك عقوق الوالدين -والعياذ بالله- يكون أكثر نقصاً، وهكذا.
    وكذلك إن كان في طاعة كأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيكون له في الدين درجة عظيمة، ولو زاد على ذلك أنه يحفظ كتاب الله ويتلوه آناء الليل وآناء النهار، فيكون له درجة أعظم، ولو زاد على ذلك أن جاهد في سبيل الله، فهذا درجته أعظم، وهكذا.
    فالإيمان ينقسم إلى شعب كما في الحديث الصحيح: {الإيمان بضع وسبعون أو قال بضع وستون شعبة} فبقدر ما يحقق الإنسان من الشعب يكون إيمانه أكثر، وبقدر ما يفقد من هذه الشعب يفقد من الإيمان.
    فعلى منهج أهل السنة والجماعة لا نقول: إن الأعمال شرط في كمال الإيمان، ولا في وجود أصله، وإنما نقول: الأعمال جزء من الإيمان، وبعضها جزء من أصله، وبعضها جزء من كماله الواجب، وبعضها جزء من كماله المستحب، بمعنى أن بعض الأعمال شرط في أصل الإيمان، وبعض الأعمال من الكمال الواجب، وبعضها من الكمال المستحب، ففي أعمال الجوارح مما هو من شعب الإيمان: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهي من أصل الإيمان، كما أجمع السلف أيضاً على أن الصلاة من أصل الإيمان، فتارك الصلاة نقول عنه: إنه ترك أصل الإيمان، كما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما من ترك واجباً من الواجبات في الصلاة أو في الحج أو ترك أي عمل من الأعمال الواجبة الكثيرة يعني كترك الإحسان إلى الجار، وترك بر الوالدين، فهذا نقول عنه: إنه لا ينتفي عنه أصل الإيمان، لكن نقول: ينتفي عنه كمال الإيمان، والمقصود كماله الواجب.
    فلو ضربنا كل الأمثلة في الصلاة، فنقول: من ترك أصل الصلاة، فهذا ترك أصل الإيمان، ومن ترك صلاة الجماعة، فقد ترك الكمال الواجب؛ لأنه واجب، أما من ترك بعض النوافل، وبعض السنن المستحبة فقد ترك الكمال المستحب.
    إذن: أهل السنة منهجهم في الإيمان منضبط وواضح والحمد لله، ولا يؤثر مثل هذا القول الذي قال به الإمام الحافظ رحمه الله على منزلته وعلمه؛ لأنه:
    كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
    فمثل هذا الكتاب العظيم والذي جمع فيه من جميع فنون العلوم: من علم العربية، إلى علم التاريخ والسير، إلى الفقه بجميع أنواعه وأحكامه، إلى الرجال والجرح والتعديل، وعلم المصطلح، وعلوم القرآن، فقد جمع الحافظ في فتح الباري علوماً عظيمة، فلا يضره رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه أنه أخطأ في متابعته لبعض الأئمة، وهم أئمة ثقات جبال في العلم، لكن جل من لا يسهو.
    ولو رجعنا إلى أول كتاب الإيمان ونظرنا إلى ما قاله الحافظ رحمه الله عن الإيمان في موضعه وما قاله هنا، فلابد لنا من تقييد كلامه رحمه الله، يعني في مسألة زيادته ونقصه، فـأهل السنة والجماعة بخلافه فالإيمان عندهم يزيد وينقص، والأعمال تتفاوت، والناس يتفاوتون فيه بحسب ما يأتون من شعب الإيمان وما يتركون، ولذلك يمكن تطبيق هذه القاعدة على حديث الشعب: {أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فالحديث اشتمل على ثلاثة أمثلة، فالذي لا يأتي بالشهادة قد أخل بأصل الإيمان، والذي ليس عنده حياء قد أخل بواجبات الإيمان، والذي لم يمط الأذى عن الطريق ترك الكمال المستحب، كما يفهم قول الفقهاء حين يتكلمون عن الغسل الكامل أو الوضوء الكامل، والغسل المجزئ أو الوضوء المجزئ، فماذا يقصدون بالكامل؟ نقول: الفقهاء دائماً يعنون الكمال المستحب، وماذا يقصدون بالصلاة الكاملة؟ أي الصلاة التي يؤتى بأركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها.
    لكن في عرف المتكلمين في الإيمان أو أصحاب العقيدة أو عندما نتكلم في أبواب الإيمان، فعند إطلاق الكمال، فإنه يطلق باعتبارين: باعتبار الكمال الواجب الذي نقصه يُعد معصية وذنباً يعاقب عليه، والكمال المستحب الذي نقصه يُعد تفويتاً للأفضلية.
    قال الحافظ رحمه الله كأنه يستدرك: "ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيداً بما إذا ندم على وقوع المعصية"، وهو يقصد من وقع في الذنب غير مصر عليه "وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك" يعني: لم يقع منه الندم ولم يقم عليه الحد "فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه حتى يسلب منه ذلك، نسأل الله العفو والعافية".
  3. حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع

    يقول المصنف رحمه الله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرعٍ منها، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير.
    فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون
    ].
    1. اجتماع الطاعة والبدعة في الفرق والأعيان

      فقول المصنف: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين]، يعني اجتماع الوقوع في البدعة أو المعصية أو الذنب أو النفاق العملي مع محبة الله ورسوله والإيمان باطناً أمر متيقن به في طوائف كثيرة، هذا بالنسبة للفرق، وأيضاً عند أئمة في العلم والدين كثيرين، فيلاحظ اجتماع البدعة والطاعة، أو البدعة ومحبة الله ورسوله في الباطن حتى عند بعض الطوائف البدعية، ولذلك نجد الخوارج على سبيل المثال لم يكفرهم كثير من السلف، وتوقف فيهم الإمام أحمد، وظاهر كلامه أنه لا يكفرهم رحمه الله، وقد جاء في الحديث: {يمرقون من الدين} إلى آخره، لكن الخوارج في واقع أمرهم وحالهم في الباطن يحبون الله ورسوله، بغض النظر عمن غلا منهم ومرق من الدين، لكن أول من خرج منهم وهم القراء متيقن أن عندهم محبة الله ورسوله، ولهذا لما قيل لـعلي رضي الله تعالى عنه: [[أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً]]، يعني هم ليسوا كفاراً ولا منافقين، ويتضح ذلك من حالهم وشدة اجتهادهم في العبادة، وقراءتهم للقرآن ومحبتهم له، وحرصهم على الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالشيخين والترضي عنهما، فأصل مشكلة الخوارج كما تعلمون الغلو في الدين وليست في التفريط والتهاون، فالغلو هو الذي جعلهم يريدون أن يكون عثمان وعلي كـأبي بكر وعمر، ولم يقبلوا أن يكون الخليفة أقل في كماله أقل من أبي بكر وعمر والكمال العالي جداً لا يصله كل أحد، وهناك كمال أقل منه وهو كمال معتبر أيضاً، وقد كانت مشكلة الخوارج أنهم أرادوا أن يكون معيار الكمال معياراً واحداً لكل أحد، فهم في الباطن يحبون الله ورسوله؛ فهذا كمثال، ولهذا تجدون في مقابلهم دائماً الروافض وقد ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقابل الخوارج وما هم عليه في الباطن، فـالروافض هم الفرقة التي تجد قلوبها في الباطن مبنية على النفاق، فالأصل فيهم النفاق مع إظهار الخير والدين، ومحبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الصحابة والمؤمنين أحياناً، لكن الباطن بخلاف ذلك، فأصل مذهبهم النفاق، وأما الخوارج فأصل مذهبهم الإخلاص، لكن لم يأتوا بالموافقة وبالمتابعة، والإخلاص ضد النفاق، هذا من حيث الأصل ككل، والفرق بعد ذلك تتشعب والأفراد يختلفون، وهذا أمر آخر، لكن كمبدأ عام فإن الفرقة الواحدة تتفرع، فـالشيعة تفرع منهم الرافضة، وكان من الشيعة غير الغلاة من يقدم علياً على عثمان رضي الله تعالى عنهما، أو فيهم تشيع يسير في المواقف العملية، لكنهم في حقيقة أمرهم أئمة وعلماء وعباد، ويحبون الله ورسوله، إلا أنهم وقعوا في هذه البدعة، وهي بدعة قد غَلَظَ فيها بعض السلف حتى قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)؛ لأنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كانوا إذا تكلموا يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهذا شائع ومشهور بينهم، ومن فضل علياً على عثمان وخالفهم في هذا الترتيب، فقد أزرى بهم، فكأنه احتقر عقولهم واحتقر رأيهم، إذن فمثل هؤلاء الشيعة عندهم حب الله ورسوله وفيهم الإيمان، ولكن وقعوا في مثل هذه البدعة، وتفاوتوا فيها، كما يوجد أناس في واقعنا المعاصر يقيمون البدع وينسبونها إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نستطيع نفي المحبة لله ورسوله عنهم، ولكننا نستطيع أن ننفي عنهم فعل الصواب والمتابعة والموافقة، وأنهم في هذا العمل لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوا سنته، ولم يوافقوا هديه وهدي خلفائه الراشدين وصحابته.
      فما دمنا لا نستطيع أن ننفي عنهم الإيمان في الباطن، فهم ليسوا كفاراً؛ لأنهم مع بدعتهم مسلمون، وهذا هو مقصود الشارح من قوله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة، وأئمة في العلم والدين] فيوجد أئمة من أئمة العلم والدين والهدى يخطئون في بعض المسائل، يقول: [وفيهم بعض مقالات الجهمية، أو المرجئة، أو القدرية، أو الشيعة، أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة أي: بالمنهج كله، بل بفرع منها] وهذا فرق عظيم ومهم جداً، ونحن أمة العدل الذين أمرنا الله بالعدل؛ يجب أن نعدل وننصف في حكمنا على الأئمة وعلى الطوائف وعلى الناس مراعين هذا الجانب.
    2. أخطاء بعض الأئمة في موافقتهم لمقالات أهل البدع

      وفي إشارتنا إلى بعض الأئمة، نورد هنا مثالاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول المرجئة، يعني: أخرج العمل من الإيمان، أو على الأقل فإن تلميذيه وصاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن بقيا ثابتين على ذلك.
      كما أن من الأمثلة ما جاء عن بعض المتأخرين الذين وافقوا الجهمية . ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي وافق في كتبه كلام الجهمية في نفي الصفات، فقد جاء عنه في الحديث الذي فيه أن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في نار جهنم، أنه يقول: يضع الجبار، والجبار اسم ملك، أو أن الجبار هو الشيطان، يعني يقول: إن التأويل لابد منه هنا، وعلى هذا فإن أبا حامد الغزالي وقع في بعض مقالات الجهمية، ووقع أيضاً في بعض مقالات من هو أشد من الجهمية وهم الباطنية، فتجدون كلام الغزالي عندما يتكلم عن العلم الباطن، والعلم الظاهر، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، وهذا مذهب الباطنية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس العلم الظاهر، وكان هناك علم باطن اختص به علي بن أبي طالب أو اختص به فلاناً أو فلاناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم! لكن هذا هو معتقدهم، فيأتي الإمام الغزالي رحمه الله ويكتب المضنون به على غير أهله -سبحان الله- ويقول: هذا العلم لا يقبله العامة، ويقول: هذه العلوم النفيسة لا تعطى للعامة.
      يا رب جوهر علم لو أبوح بـه            لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
      ولاستحل أناس مسلمون دمي            يرون أقبح ما يأتونه حسنا
      يقول هذا الشاعر: هناك جوهر علم لا نبثه في الناس ولا نقوله؛ لأننا لو قلناه لقيل: هؤلاء ممن يعبدون الوثن ولتقرب المسلمون بدمائنا، وهم يرون ذلك من أفضل الأعمال، ولذلك فلن نبث ذلك العلم.
      وهذا الأمر عجيب عنهم، فلماذا لا يظهرون هذا العلم لو كان حقاً؟!
      فوقع في كلام الغزالي رحمه الله ما هو من جنس كلام القرامطة الباطنية وأتباعهم، بل وقع في كلامه ما هو من جنس كلام الفلاسفة والمناطقة؛ حتى قال الغزالي رحمه الله في أول كتاب المستصفى : "من لم يتعلم المنطق وقواعده لا يوثق بعلمه"، وهذا شيء عجيب جداً وناقشه فيه الأئمة، حتى إن المازري رحمه الله رد عليه وكان من علماء المغرب في دولة المرابطين، وكانت كتب الغزالي تحرق حرقاً، إذ كيف يقول هذا الكلام، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أوثق الناس علماً، ونحن نثق بعلمهم أعظم الثقة، لم يتعلموا قواعد المنطق، ولا من جاء بعدهم؟! فالمقصود أنه وقع في كلامه من جنس كلام هؤلاء، ومع ذلك فمن يستطيع أن يشهد ويتحمل القول بأنه في الباطن لا يحب الله ورسوله؟ هذا لا يقوله أحد.
      ولهذا اختلف العلماء في حكمه وفي إعذاره وعدم إعذاره، ولكنهم لم يقولوا عنه: إنه كافر أو مرتد، إذن فالعالم يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأقوال وموافقة كلام الآخرين، ولو أن كل مبتدع يكفر؛ لقلنا: بكفر أناس لا نجزم نحن بأنهم في الباطن منافقون وكفار وزنادقة، لكننا نعتقد أنه تجتمع فيهم محبة الله ورسوله، والوقوع في هذه البدع.
      فلو أن المسلمين فهموا هذه الأمور وأخذوا هذه القواعد الذهبية المستقيمة لما جاروا في الأحكام، فهم في حالين متعاكستين: إما غلو في المحبة يتناسون معه الأخطاء وإن كانت كبيرة وفادحة، وإما غلو في العداوة يتناسون معه الفضائل وإن كانت عظيمة وظاهرة.
      كما وقع الخطأ من بعض الشراح الكبار للحديث، فجاء في شروحهم موافقة لكلام غيرهم، حتى الحافظ ابن حجر رحمه الله نجد أنه ينقل كثيراً عن ابن فورك في كتابه، وينقل عن أبي المعالي الجويني تأويلات؛ خاصة عند شرحه كتاب التوحيد وإثبات الصفات من صحيح البخاري، فماذا نقول في هؤلاء الأئمة؟ لا يحل لأحد أن يقول: إنهم في الباطن لا يريدون الحق، أو إنهم منافقون أو يكرهون الحق؟! لكننا نقول: إنهم أخطئوا فوافقوا غيرهم ووقعوا في أخطائه.
      قال رحمه الله: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة] فنقول: هل يكون أحد من أئمة العلم والدين متمسكاً وقائماً بكل البدعة؟ يعني: هل يكون باطنياً كاملاً؟ إذا صار باطنياً كاملاً فقد خرج عن أهل السنة وليس بإمام في الدين، وهل يمكن أن يأخذ التجهم كاملاً، فيكون جهمياً من جميع الوجوه؟ أيضاً لا يكون ذلك، ولو كان كذلك لم يعد في العلماء والأئمة، وإنما يعد مع تلك الفرقة ومن أهلها.
      وفي عصرنا الحاضر يوجد بعض العلماء الذين يعدون من الأئمة الدعاة ولهم فضل، وهم على خير، وقعوا في أخطاء مماثلة، فيقوم أحدهم رغبة منه في التعبير عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول: هذه اشتراكية في الإسلام، فهل نقول: هذا على مذهب لينين واستالين وجورباتشوف؟ إننا سنكون عندئذٍ ظالمين وجائرين في الحكم؛ لأننا لا نستطيع أن نجزم بما في باطنه، ولا نعلم أنه في الباطن اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك، لكن نقول: هو أخطأ عندما أخذ بهذا الكلام.
      رجل آخر يقول: الديمقراطية هي الإسلام، فهل يعني هذا أنه ديمقراطي ومن دعاة الديمقراطية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويحكمون أهواء الناس وآراء الناس؟ كلا! لا يجوز ذلك، وليس هذا من العدل، ولكن نخطئ الفكرة وننقضها، أما الرجل فينظر إليه بحسب حاله، فقد يكون من أهل الخير والصلاح، وقد يكون مجرماً مفسداً أيضاً؛ لأنه لو كان ديمقراطياً مائة بالمائة، أو اشتراكياً مائة بالمائة، أو قومياً مائة بالمائة، لما كان من أهل الدين والدعوة والإيمان أصلاً، وإنما كان محسوباً في عداد أهل هذه المذاهب الباطلة.
    3. من استكمل أصول مذهب معين صار من أهله

      قاعدة مهمة: كل مذهب من المذاهب ومبدأ من المبادئ له أصول، من استكملها فقد استكمل المذهب، كما نقول: مذهب أهل السنة والجماعة له أصول، من استكملها فهو من أهل السنة، ومن نقص واحداً منها نقص من أصول أهل السنة شيئاً، وتعرضنا لهذا في معرفة الفرق، ونقول: المعتزلي هو من يؤمن بالأصول الخمسة، فإن جاءنا من يوافق المعتزلة في أصلهم الذي يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يعني -عندهم-: الخروج على أئمة الجور، فهل نقول: هذا معتزلي بإطلاق؟ الجواب: لا. لكن نقول: هذا الرجل وافق المعتزلة في رأيهم في هذه القضية، ونقول: هو معتزلي في مسألة الخروج، فنقيد المسألة.
      ولو أن رجلاً آخر أخطأ في الإيمان -كبعض فقهاء الحنفية- لكنه في موضوع القدر والصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصحابة رضي الله تعالى عنهم، وجميع أبواب التوحيد على منهج أهل السنة، فإن كان وافق المرجئة فنقول: هذا وافق المرجئة في الإيمان، وإن كان وافق المعتزلة فنقول: هذا وافق المعتزلة في الإيمان، ولذلك تجدون أن أعدل الناس هم أهل السنة ؛ لأن الله تعالى علم فيهم العدل والصدق والإخلاص، فرفع منزلتهم في الأمة، فهم في الجرح والتعديل يطلقون عدة عبارات، فيقولون عن فلان: فيه تشيع، وأحياناً يقولون: رافضي، وأحياناً يقولون: رافضي جلد، وأحياناً يقولون: سبئي، فهم يقولون في الرجل بحسب ما فيه، فلا يظلمونه ولا يزيدون على الحق، فهم يحكمون على الناس من خلال ما فيهم، فكل فرقة لها ضابط معين.
    4. الرد على أهل الأهواء ليس شرطاً في صحة مذهب القائل به

      وقد يكون ممن رد على بعض الفرق من وقع في بعض مقالتهم، فمثلاً ابن الجوزي رحمه الله في المنتظم وفي غيره من الكتب يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، وابن رشد يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، فلو وجدنا هذا الكلام عن ابن رشد، فهل نقول: إنه من أهل السنة والجماعة ؛ لأنه يهاجم الأشاعرة ؟ لا. هو ليس كذلك، فـابن رشد هذا شر من الأشاعرة، فهم أقرب إلينا منه مع مهاجمته لهم؛ لأنه يقول قول الفلاسفة الذين هم أبعد الفرق في الانحراف حسب دوائر الانحراف والكفر التي رتبناها للفرق.
      إذن لا نقول: هذا من أهل السنة ؛ لأنه رد على الأشاعرة، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله رد عليهم، بينما تجده هو نفسه يؤول الصفات، ويتبع في ذلك شيخه ابن عقيل، وشيخه ابن عقيل كان أقرب ما يكون من مذهب الاعتزال مع أنه حنبلي، وكذلك تلميذه ابن الجوزي كان حنبلياً، وقد وقع في شر مما وقع فيه الأشاعرة، أو في مثله وهو يهاجمهم ويتكلم عليهم، لكن هو في نفس الوقت ليس من أهل السنة في هذه المسألة التي يقول فيها بخلاف قول أهل السنة، يعني: نجد أنه اجتمع فيه أنه من أهل السنة في جوانب كثيرة، ولكن عنده تأويل في جوانب أخرى، وهكذا فلا نستطيع أن نقول: إنه أشعري لمجرد أنه أوَّل؛ لأنه هو نفسه يرد على الأشاعرة، ولا نستطيع أن نقول: إنه من أهل السنة ؛ برده على الأشاعرة ؛ لأنه مع رده عليهم وقع فيما وقعوا فيه في أبواب أخرى، إذن فلابد من الميزان، وقد قال الله تعالى: ((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ))[الرحمن:7] * ((أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ))[الرحمن:8] * ((وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ))[الرحمن:9] لابد من الميزان العدل الذي نحكم به على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الطوائف وعلى الأمم وعلى المواقف، ويكون الميزان هو ميزان العدل إن شاء الله في جميع أمورنا.
    5. انتحال أهل الأهواء الانتساب للأئمة

      يقول المصنف: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة]، فلا نجد أبداً عالماً من أئمة الدين المتبوعين قائماً بجملة بدعة من البدع، يعني: آخذاً بمنهجها كله، لكن يحصل أنه يخطئ في مسألة أو يتابع في جزئية، فما يكون بعد ذلك من الأتباع إلا أن ينسبوه كله له ويتغاضون عن فضائله، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله كان أول مذهبه في الصفات على منهج أهل السنة والجماعة، وسار على منهجه أئمة المذهب المشهورون الكبار وظهر منهم الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي يسمونه مالكاً الصغير؛ لأنه أحيا وجدد ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكتب الرسالة في فقه المالكية، وبدأه بمقدمة في العقيدة والإيمان -وهذه عادة طيبة وحسنة- والرسالة لابن أبي زيد يقال: إنها أول مدونة قانونية جمعت مواد تشريعية، وهو كتاب قيم ولا شك، وبالذات في المذهب، فمقدمة الرسالة مقدمة إيمانية سلفية ليس عليها غبار، فجاء من بعده وحاولوا أن يجعلوا الشيخ أشعرياً على مذهبهم، والشيخ ابن أبي زيد كلامه واضح، فمثلاً في مسألة العلو يقول: (وهو على عرشه المجيد بذاته) وهذا إثبات العلو (وفي كل مكان بعلمه) وهذه عبارة واضحة لا لبس فيها، فجاء الأشعرية ليؤولوا كلامه، فقالوا: (وهو على عرشه)، إلى هنا تنتهي العبارة، ثم تستأنف بقول: (المجيدُ بذاته)، أي أن الله مجيد بذاته، وهو حكيم بذاته، وعليم بذاته، أما أن يكون (وهو على عرشه المجيد) فتكون المجيد هنا صفة للعرش، فقد رفضوا ذلك، لأننا إذا قلنا: (وهو على عرشه المجيدِ بذاته) أثبتنا العلو، وهم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يؤولوا كلامه ليوافق مذهبهم، من أجل أن ينتحلوا من ليس منهم.
      وإن أمامنا مثالاً واضحاً جلياً في مسألة الانتحال، فهذا الإمام زيد المشهور نسبة الزيدية إليه، والزيدية على منهج ومذهب المعتزلة ثم يقولون: نحن زيدية، فيقال: ليس عند زيد ما يوافق به منهج الزيدية، فإن زيداً وافق المعتزلة في مسألة واحدة فقط وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي على أساسها خرج على بني أمية، ولم يكونوا كفاراً، بل كانوا حكام جور، وخرج من اتبعه من بعده على بني العباس، فخرجوا على أئمة الجور، ورغم هذا فنقول: لا نجزم أنه كان يعتقد هذا المبدأ للاعتقاد، لكن قد يكون رأى المصلحة في هذا الخروج. والمقصود أن الزيدية جاءوا من بعده ونسبوا كل مذهب المعتزلة إليه، وقالوا: من فضل زيد وشرفه وعلمه أنه تلقى المذهب على يد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، بئس الشيخ وبئس المعلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ! لكن يظن الزيدية أنه مدح لـزيد أن يقال عنه: إنه تلقى ذلك عنهما، كما يقولون أنهما تلقيا المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أو عن أبي هاشم، ثم مع ظنهم أن الاعتزال شيء عظيم نسبوا أئمتهم إلى الاعتزال ونسبوا الاعتزال أيضاً إلى أئمتهم، وأغرب من ذلك أنك تجد في كتاب المنية والأمل، وهو من كتبهم في الفرق يزعمون أن أول من قام بهذا المذهب الخلفاء الراشدون، حتى كادوا أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم على مذهبهم، فجعلوا أبا بكر وعمر على مذهبهم، ثم بعد ذلك جعلوا علياً على مذهبهم، ثم من بعده، فكأنهم يدعون أن مذهبهم هو الإسلام.
      وهم ليسوا وحدهم في هذا، فقد قال المتكلمون: أول من بدأ الكلام عمر ؛ لأنه ناقش السارق في القدر، فقالوا: إن عمر جيء بسارق فقال له عمر : لم سرقت؟ فقال: هذا قدر الله، فقال عمر : [[سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله]].
      إذن فـعمر عندهم من أهل الكلام، ورأيت كتاباً من الكتب التي تناولت نشأة الكلام، فوجدت فيه هذه العبارة، كما نسبوا إلى علي رضي الله تعالى عنه أنه ناقش أو ناظر رجلاً من القدرية، وبهذا يكون متكلماً، يعني: كل من له رأي أو كلام أو شيء يتعلق بالعقيدة فهو عندهم متكلم، مع أن علم الكلام هو ضد التوحيد وضد العقيدة.
      وتأتي الصوفية وتنتحل المشاهير، وهم في انتحالهم أشد ممن قبلهم، حتى قالوا: إن الخرقة نزل بها جبريل، وألبسها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو ألبسها أبا بكر أو علياً، وهكذا إلى أن وصلت إلى الحسن، ومن ثم إلى أن وصلت إلى الجنيد، إلى أن طارت إلى عبد القادر الجيلاني، إلى أن وصلت إلى فلان، فسبحان الله! كيف ينتحلون هؤلاء وينسبونهم إلى ذلكم الباطل، فالادعاء كثير، لكن بعض هذا الادعاء له أصل وهو أن يكون هذا الإمام أو العالم أو المشهور المتبع قد وافق بعض جزئيات هذه البدعة، أو قال بشيء من جزئيات البدعة، فينسبونها كلها إليه، ويتركون ما هو من صريح كلامه في مخالفتهم، كما ذكرنا في مثال زيد، فهم لا يقبلون ما ذكره زيد في أمور أخرى، فهم يأخذون بأقوال الأعلام الموافقة لهم ويلبسونهم ثوب الاعتزال ويجعلونهم جميعاً معتزلة .
      وهذا ما يفعله الأشعرية في تأويل الصفات، فتجد بعضهم يقول: إن أوَّل من أوَّل: الصحابة ومن بعدهم، فيقولون: إن مجاهداً أوَّل قوله تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] فقال: قدرته؛ وهذا تأويل، فنقول: هناك فرق بين نفي الصفة وبين تفسير الآية أو المعنى الكلي للآية، كما ينسبون إلى الصحابة نفي الصفات، فيقولون: إن ابن مسعود أوَّل؛ قلنا: ماذا أوَّل؟ قالوا: ألم يقل في قول الله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))[القلم:42]: الهول والكرب والفزع؟!
      إذن فهم ينتحلون المشاهير من الأئمة، حتى وإن كانوا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم إلى مذهبهم، مع أننا نعلم ونجزم بأن هذا القول لو عرض على أحد هؤلاء الأئمة المتبوعين المشهورين بالعلم والدين لأنكره، بل لو قرءوا تاريخ أي واحد من الأئمة لوجدوا أنه ينكر بدعتهم إنكاراً شديداً وإن كان قد أخطأ فوافقهم في بعض جزئيات بدعتهم، فيقول: "ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير" فـالخوارج انتحلوا كثيراً من المشاهير كما قالوا في حجر بن عدي، وأبي بلال مرداس بن حدير وغيرهما، والقدرية انتحلوا الحسن البصري ونسبوا الحسن إلى القدر وقالوا: إمامنا في القدر: الحسن البصري !
      سبحان الله! الحسن البصري يكون من أئمة المبتدعة؟ حاشاه والله! ولكن هذا مما سولت لهم أنفسهم.
  4. مذهب أهل السنة في من وقع منه الخطأ

    قال المصنف: [فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون] وهذه قاعدة عظيمة في تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة حيث إنهم يخطئون ولا يكفرون، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم لبعض، ومن مدائح أهل السنة أو أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، فالخطأ واضح ويستدل على أنه خطأ، ثم صاحب الخطأ قد يكون كافراً، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون غير ذلك، لكن ما يهمهم هو بيان الخطأ، ولذلك عندما يتكلم أهل السنة في حق أحدٍ من أهل القبلة يحرصون من أجل بيان الحق على أن يقولوا: أخطأ فلان، ويبينون خطأه، دون تكفير، أما أهل البدع فإنهم لمجرد أي مخالفة يحكمون على المخطئ بالكفر، فنجد هؤلاء يقولون لخصومهم: أنتم تكفرون لأنكم مشبهة، فيردون عليهم قائلين: وأنتم تكفرون لأنكم معطلة، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: هؤلاء على ضلال وبدعة، وهؤلاء على ضلال وبدعة، والكل مخطئ، أما الكفر فقد يكون وقد لا يكون، فهم يفرقون بين المعين الفرد وبين الحكم المطلق، ويفرقون بين القول وبين القائل، ويفرقون بين جملة البدعة -الذي نسميه نحن في عصرنا هذا المنهج- وبين من يقول بجزئية من جزئياتها، حتى إنه يأتيك الإنسان ويقول: أنا من المعتزلة، وربما يقولها بلسانه وهو لا يفقه ولا يعرف عن مذهب المعتزلة شيئاً، إنما سمع أن المعتزلة فرقة إسلامية تحرر العقل وتدعو إلى التفكر، فنسب نفسه إليها ظناً منه أنه نسب نفسه إلى الحرية العقلية، فنقول له: هل تقر بالأصول الخمسة؟ فيتبين أنه لا يعرف أصولاً خمسة ولا أربعة ولا يعرف شيئاً من مذهب المعتزلة، فحتى مع دعوى بعض الناس أنه معتزلي أو غير ذلك من الأوصاف، فقد لا ينطبق عليه ذلك الوصف، فمن عدل أهل السنة والجماعة أنهم يرفقون به حتى وإن اعترف، فيبدءون ببيان هذه العقيدة لمعتقدها حتى يتضح له أنه كان مخطئاً، وأنها خلاف ما كان يرى، فربما كان ذلك سبباً لرجوعه عن هذه العقيدة، فـأهل السنة أرحم به حتى من نفسه، وهذه ميزة من ميزات أهل السنة والجماعة .