المادة كاملة    
ما زال الكلام في هذا الدرس عن الأسماء الحسنى والصفات العلى، فقد ورد فيه بيان أن جميع أسماء الله وصفاته دائرة على اسمي: الحي، والقيوم، ثم انتقل الحديث للكلام عن صفتي الخلق والرزق، وختم بالكلام عن صفتي الإماتة والبعث.
  1. مدار الأسماء الحسنى والصفات العلى كلها اسمي الحي والقيوم

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [حي لا يموت، قيوم لا ينام].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [قال تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))[البقرة:255].
    فنفي السنة والنوم دليل عَلَى كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: ((الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ)) [آل عمران:1-3] وقال تعالى: ((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ))[طه:111] وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ))[الفرقان:58] وقال تعالى: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُو))[غافر:65] وقَالَ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام} الحديث.
    لما نفى الشيخ رَحِمَهُ اللهُ التشبيه، أشار إِلَى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه، بما يتصف به تَعَالَى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تَعَالَى دون خلقه، فإنهم يموتون.
    ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد به نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال، لكمال ذاته.
    فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً ((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَان))[العنكبوت:64]، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقَالَ: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب للمخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
    واعلم أن هذين الاسمين -أعني الحي القيوم- مذكوران في القُرْآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم عَلَى معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً عَلَى كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود. والقيوم أبلغ من "القَيَّام" لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه، باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل تفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب، ولا ينقص، ولا يفنى، ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل، ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.
    واقترانه بالحي، يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل عَلَى بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً. ولهذا كَانَ قوله:((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تَعَالَى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
    وأما القيوم، فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إِلَى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام] ا.هـ.

    الشرح:
    ابتدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بذكر الآيات الثلاث التي ورد فيها هذان الاسمان الحي القيوم وهي:
    1ـ آية الكرسي من سورة البقرة: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))[البقرة:255].
    2ـوأول سورة آل عمران: ((الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))[آل عمران:1، 2].
    3ـ وفي سورة طه قوله تعالى: ((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:111].
    وجاء في حديث صحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه} ثُمَّ شرح ذلك هشام بن عمار -شيخ الإمام البُخَارِيّ بـدمشق بـالشام- فقَالَ: أما البقرة فقوله تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))[البقرة:255] وأما آل عمران فقوله تعالى: ((الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))[آل عمران:1، 2].
    وأما طه فقوله تعالى:((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:111].

    فدل ذلك عَلَى أن هذين الاسمين هما: "الاسم الأعظم"، وقد سبق أن حقيقة الاسم الأعظم بالتعيين فيها اختلاف، وأن لله تَعَالَى حكمة في إخفاء هذا الاسم وتعيينه، كما أن هنالك حكمة في إخفاء ليلة القدر، ومن حكمة هذا الاسم أن يُدعى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بجميع أسمائه، لأن من دعا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع أسمائه فقد دعا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باسمه الأعظم، كما إن من قام رمضان، بل قام العشر، بل قام الوتر من ليالي العشر، فقد أدرك ليلة القدر، فهذا الإخفاء فيه ترغيب وحث وحض حتى يديم الإِنسَان الطاعة.
    ولو تأملنا هذه الآيات الثلاث لوجدنا فيها العجب العجيب من المعاني، فمثلاً: آية الكرسي التي تتكون من عشر جمل كلها في تعظيم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي توحيده بأنواع التوحيد، ولا سيما في معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وما له من حق عَلَى العباد، ومعرفة عظمته تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    فابتدأها الله بقوله ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))[البقرة:255] ولفظ الجلالة: أعرف المعارف، واختلف النحويون في أعرف المعارف فَقَالَ بعضهم: العلم، وقال بعضهم: اسم الإشارة، وقال بعضهم: الضمير، وقال بعضهم: المعرف بـ "الـ"، وكل منهم نظر من زاوية ولكن سيبويه -إمام النحاة- قَالَ: أعرف المعارف لفظ الجلالة "الله"، وقيل: إن سيبويه رؤي في المنام. فقيل: ما حالك عند الله؟ فقَالَ: قد غفر لي، لأني جعلت أعرف المعارف "الله".
    واسم الجلالة: "الله" هو أعرف المعارف حقيقة وواقعاً، بحيث أنك مع أي بشر تخاطبه إما باللغة العربية -وهو الله- وإما بأية لغة ينطقها ويعرفها، فإنه هو أعرف المعارف عنده.
    فإذا قلت له: الله.
    فإنه يعرف تمام المعرفة ولا يختلط عليه، بخلاف لو قلت مثلاً: الملك أو الأمير أو كذا فربما يلتبس عليه.
    و"لا إله إلا الله" هي أعظم كلمة ذكر ودعاء، بعث بها رسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنزلت بها الكتب من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقام لأجلها الجهاد بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وبين المؤمنين والكافرين.

    ثُمَّ قال تعالى: ((الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) فذكر هذين الاسمين اللذين ترجع إليهما جميع نعوت الجلال والكمال، وجاء هذان الاسمان أيضاً في أحاديث صحيحة عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها: {كان النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر -يعني أهمه- يقول: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث}، يجمع بين هذين الاسمين معاً -يا حي يا قيوم- وهذه من الأدعية الجوامع التي بإمكان كل إنسان منا أن يحفظها ويرددها أيضاً، فيقول إذا أهمه أمر -يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، وفي حديث آخر: {أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم بعض أصحابه أن يقول: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين} هذا تمام التوكل والتفويض والانقياد لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا يكون هذا الدعاء حرياً بالإجابة بإذن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
    وجاء في الآيات اسم الله الحي مقروناً بتوحيد الألوهية والعبادة، كما في قوله تَعَالَى في سورة غافر: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [غافر:65] فلو تأمل الإِنسَان في هذه الآية مع الآيات السابقة، لعرف وتحقق أن اسم الله: "الحي" يوضح أن كمال الحياة لا يكون إلا في الله وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ولهذا لا يجوز أن نصرف العبادة إِلَى أحد غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أياً كَانَ المعبود من دون الله.
    فالذين يعبدون الكواكب يعبدون الآفل؛ لأن هذه الكواكب تغيب وتأفل وتزول ويعتريها الكسوف والخسوف ونحو ذلك، وتتفتت وتتطاير في الفضاء، ثُمَّ إن مصيرها إِلَى الفناء، وليس لها الحياة المطلقة.
    والذين عبدوا اللات والعزى إنما عبدوا أحجاراً صماء ليس فيها حياة. وهكذا كل ما عُبد من دون الله من ملك أو نبي أو ولي أو حجر أو شجر أو كوكب، نجد أنه ما كَانَ له أن يُعبد من دون الله لو أن العابدين له كانت لهم عقول، فلو أنهم تأملوا في حقيقة هذا الاسم، وقدروا الله حق قدره، وعرفوا حقيقة اسم الله: "الحي" لما عبدوا من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أحداً سواه بإطلاق.

    ومن كمال حياة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: أنه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، أما البشر فلأن حياة الإِنسَان ناقصة، وله جسم يتعب ويلغب ويمسه النصب، فإنه يحتاج إِلَى أن ينام ويصحوا ويحيا ويموت، فلا يمكن أن يكون معبوداً، ولا يمكن أن يكون إلهاً.
    أما الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعتريه غفلة ولا سهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الذي فسره النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه}.
    فهكذا من يقرأ هذه الآيات وهذه الأحاديث، ويستيقن حقيقة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ويحاول أن يتعرف عَلَى صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإنه يعظم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في قلبه، فيخشع له ويخبت وينيب إليه وحده سبحانه لا شريك له، فمن كمال حياته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: أنه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، ولا يعتريه سهو ولا غفلة، ولا آفة من الآفات التي هي علامات نقص الحياة، ودلالات عَلَى أن حياة صاحبها ليست الحياة الكاملة المطلقة.

    ولما نفى الشيخ رَحِمَهُ اللهُ التشبيه، أشار إِلَى ما تقع به الفرقة بينه وبين خلقه بما يختص به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت.
    قَالَ: لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تَعَالَى دون خلقة، فإنهم يموتون: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ))[الرحمن:26، 27] فلا بد أن يموتوا كما قال تعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [الأنبياء:35]، وفي ذلك إشارةٌ إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات.
    ومنه: أنه قيوم لا ينام، وفي ذلك إشارة إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته.
    وقَالَ: لا يشبهه الأنام، ثُمَّ قَالَ: حي وقيوم، فهذا دليل عَلَى أن المنفي هو التمثيل لا حقيقة الأسماء والصفات.
    وبعض الشراح من الماتريدية فهموا أن المؤلف لما قَالَ: [لا يشبه الأنام] أنه ينفي الصفات التي ينفونها هم، فالمصنف رَحِمَهُ اللهُ وضح أن الإمام الطّّحاويّ لا ينفي الصفات، بدليل أنه بعد نفي التشبيه في الصفات أثبت فقَالَ: [حي لا يموت قيوم لا ينام].

    والفرق بين حياة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبين حياة غيره. كالفرق بين الحياة الكاملة الباقية وبين أية حياة يمنحها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويعطيها لمن يشاء من الحياة الناقصة، ولهذا قارن بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، فالحياة الدنيا سميت في القرآن، "لهو، ولعب، وغرور"، لكن الحياة الآخرة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها: ((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ))[العنكبوت:64] أي: الحياة الحقيقية.
    فالدنيا كالمنام، والآخرة كاليقظة، كما جَاءَ في الأثر عن عَلِيّ رضي الله عنه: "النَّاس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا" فكأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية التي تكون فيها معاني الحياة كاملة، فإن قيل: أليست الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، والملائكة والولدان والحور العين الذين في الجنة يعيشون الحياة الكاملة؟ فما الفرق بين هذه الحياة وبين حياة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
    فنقول: الفرق عظيم بين ما يتصف به المخلوق وبين ما يتصف به الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن حياة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي من لوازم ذاته، فهو الحي بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما ما في الجنة من الملائكة وغيرهم إنما هم أحياء بإحياء الله لهم، فالله هو الذي أحياهم وهو الذي وهبهم الحياة، وإن كانت هذه الحياة هي فعلاً أكمل من الحياة الدنيا، وهي حياة حقيقية بالنسبة للحياة الدنيا العارضة الزائلة العابرة.
    فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الحي بذاته، وأما غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنما هو حي بإحياء الإله له، وليس الأحياء في الجنة ذاتهم من لوازم ذواتهم أن يكونوا أحياءً، ولكن الله هو الذي يمنحهم الحياة، ولو شاء لأهلكهم جميعاً تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فما يليق بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له شأن، وما يليق بالمخلوق له شأن آخر.

    والقيوم: يدل عَلَى معنى الأزلية والأبدية، يعني: عَلَى معنى: ما لا أول له ولا بداية له في الأزل، وعلى معنى: ما لا نهاية له في الأبد، فهو أعظم دلالة من اسم القديم، فإن اسم القديم وإن دل في الاصطلاح -لا في أصل اللغة- عَلَى ما لا أول له، فإنه لا يدل عَلَى ما لا آخر له.
    وقد سبق أن الاسم الذي جَاءَ في القُرْآن ويدل عَلَى معنى القديم عند المتكلمين هو اسم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- "الأول"، والأول والآخر فسرها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "{اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء} فالقيوم: يدل عَلَى معنى الأزلية والأبدية بما لا يدل عليه أي اسم.
    ومنها: القديم، ويدل عَلَى كونه قائماً بنفسه، موجود بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يدل عَلَى معنى كونه واجب الوجود -أي في اصطلاح الفلاسفة- والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، فالقيوم بما أنه ورد في القُرْآن فلا شك أنه أبلغ من القيام؛ وإن كَانَ معناها واحداً.

    وهل ورد القيام في شيء من الكتاب أو من السنة؟
    نعم ورد القيام في حديث دعاء النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهور: كَانَ إذا قام إِلَى الصلاة في جوف الليل قَالَ: {اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ...} إِلَى آخر الحديث.
    والمعنى واحد، لكن الأبلغ هو القيوم، وهو أيضاً يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين، وأهل اللغة، وذلك معلوم بالضرورة.
    لكن هل كونه قيوماً يفيد أن غيره لا يقوم إلا به؟
    في المسألة قولان، وأصحهما أنه يفيد ذلك، أن غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقوم إلا به، فهو قريب من اسمه الصمد في قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ)) [الإخلاص:1-2] والصمد: هو الذي تعتمد عليه الخلائق في حوائجها، والذي لا يستغني عنه أي مخلوق، وهو غني عن جميع المخلوقات.
    وكذلك القيوم الغني الغنى المطلق عن كل من عداه، ومع ذلك فإن ما عداه لا يقوم إلا به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه -كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل.
    وأخذ المُصنِّفُ ذلك من نظر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما أراه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ملكوت السموات والأرض، وناظر قومه فجادلهم، فرأى كوكباً. فقَالَ: هذا ربي.
    فلما أفل قَالَ: لا أحب الآفلين، ثُمَّ رأى القمر، ثُمَّ رأى الشمس -كما في سورة الأنعام-، فالآفل لا يمكن أن يكون رباً معبوداً من دون الله، فالقيوم ينفي الأفول وينفي الزوال عن الله عَزَّ وَجَلَّ، فهو قيوم قائم بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا قوام لغيره إلا به، وهو الذي قامت له السموات والأرض بإقامته لها، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو ربها، وهو الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، والذي لولاه لما كانت هذه المخلوقات جميعها، فهو الدائم الباقي الذي لم يزل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يفنى ولا يعدم ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.

    فالحي: يدل عَلَى كمال الحياة، والقيوم يدل عَلَى كمال الغنى، ومن هذين الاسمين معاً نفهم أن جميع صفات الكمال ونعوت الجلال ترجع إليهما، ولهذا كانت آية: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))[البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في حديث أبي بن كعب لما سأله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا أبا المنذر!أي آية أعظم في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فَقَالَ له: آية الكرسي. فَقَالَ له: ليهنك العلم أبا المنذر} وهذا دليل عَلَى علم أبي بن كعب-رضي الله عنه- حيث عرف أعظم آية في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليها ترجع معانيها.

    فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة من الصفات إلا لضعف الحياة، فمثلاً: ضعيف القدرة دليل عَلَى أن حياته غير كاملة، وكذلك ضعيف الإرادة، فهذا يدل عَلَى أن حياته غير كاملة، وهكذا كل صفة.
    لكن الذي يتحقق فيه كمال الحياة يستلزم أن يكون لديه كمال القدرة، وكمال الإرادة، وكمال الحكمة، فترجع هذه الصفات جميعاً إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويكفي غير الله أنه فانٍ وهالكٌ وميتٌ، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحي.
    فغير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يمكن أن يكون قيوماً، ولا يمكن أن يكون قَيَاماً؛ لأن غير الله محتاج مفتقر بذاته إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأنه لولا الله لما وجد، فهو مفتقر إِلَى الله في إيجاده وفي كل أمر من أموره.
    فينبغي للمؤمن أن يتأمل في معاني هذه الاسمين، وأن يدعو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهما، وأن يتقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمعرفة أسمائه وصفاته، ومنها هذان الاسمين: "الحي القيوم "، وهذه المعرفة هي التأمل والتفكر في عظمة الله المستلزمة للإخبات والخشوع والتذلل والرهبة والرغبة إِلَى الله.
    وقال بعض الضُّلال: مادام أن هذا الاسم فيه خصائص عظيمة فنحن نجعله الاسم الذي يردد في غالب الأذكار عَلَى طريقتهم البدعية التي ورثوها عن قدماء المجوس والهنود وأمم الشرك والضلال.
    فتجدهم يقولون: الله حي، الله حي، الله حي، ويرددونها آلاف ومئات المرات، ويرقصون رقصاً شديداً، ويقولون: هذا من خواص هذا الاسم "الحي"، كما يروى عن يحي بن معاذ الرازي كما في ترجمته في الحلية أنه أنشد يقول:

    دققنا الأرض بالرقص             على غيب معانيك

    ولا عيب عَلَى الرقص             لعبد هائم فيك

    وهذا دقنا الأرض             إذا طفنا بواديك .


    إن حقائق اسم الله تَعَالَى ليست لمثل هذه التعبدات الضالة، وليس استخدامها أيضاً فيما يسمى بالرقى أو الحجب، وهو أن يكتب: يا حي يا قيوم، أو الحي عدة مرات، ويظن صاحبه أنه يتحقق بذلك الشفاء أو نحو ذلك، وإنما هي في استشعار عظمة الله تَعَالَى والخضوع والتذلل له وطاعته، ولهذا نجد أن أبا العلاء المعري - الشاعر الزنديق الذي اعترض حتى عَلَى أحكام الله يقول:

    يد بخمس مئين عسجد وديت            ما بالها قطعت في ربع دينار
    وأمثال ذلك من الضلالات أو الشركيات الموجودة في ديوانه.
    وقال لما سمع أن هَؤُلاءِ القوم يجلسون ويجتمعون في المساجد، وتحضر لهم الموائد -تهدى لهم من الأمراء والملوك- فإذا أكلوا وشبعوا قاموا يرقصون ويقولون: حي حي، هو هو، إِلَى آخره لما بلغه هذا قال:
    أرى جيل التصوف شر جيل             فقل لهم وأهون بالحلول

    أقال الله حين عشقتمـــــوه            كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
    وأبو العلاء هذا الزنديق يطعن في الدين؛ لأنه يظن أن هَؤُلاءِ هم أهل الدين.
    فأولى بهَؤُلاءِ أن يتأملوا ويتفكروا إذا كَانَ الزنادقة عرفوا أن محبة الله ليست بأن يملؤا بطونهم ويرقصوا له،
    فكيف بمن يدعون الولاية العظمى، أو القطبية، أو الدرجات العلى ومرتبة الإحسان كما يسمونها؟!
  2. إثبات صفتي الخلق والرزق

     المرفق    
    قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [خالق بلا حاجة، رازق بلا مُؤنة].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ))[الذاريات:56-58] وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15]((وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء[محمد:38]((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ))[الأنعام:14] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حديث أبي ذر رضي الله عنه: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} الحديث رواه مسلم. وقوله: بلا مؤنة: بلا ثقل وكلفة] إهـ.

    الشرح:
    إن الله تَعَالَى خالق بلا حاجة، وهو الذي خلق الخلق ولم يخلقهم لحاجة منه إليهم، لا لحاجة أن يعبدوه، ولا أن يرزقوه، ولا أن يطعموه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الغني الغنى المطلق عنهم، كما سبق في قوله: القيوم، فقيوميته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تستلزم غناه المطلق عن أن يخلق الخلق لحاجة، وإنما خلقهم لحكمة عظيمة -ليبتليهم، وليعبدوه- ثُمَّ جعل منهم فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير، وليصطفي منهم من يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويتخذهم أولياء وأحباباً، ويرفعهم في الدرجات العلى، وليذل ويهين من شاء منهم في معصيته، فيسكنهم في جهنم وساءت مصيراً.
    فلله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكم عظيمة في إيجاد الخلق، ليس منها أنه تَعَالَى محتاج أو مفتقر إِلَى وجود هذا الخلق، أو إِلَى أي مخلوق كائن من كان، كما بين ذلك في الحديث العظيم الذي رواه أبو ذر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، وقال الإمام أَحْمَد: هذا أشرف حديث حدثه أهل الشام: {يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ...إلى أن قَالَ: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} سُبْحانَ اللَّه تعالى! هو الغني سبحانه ونحن الفقراء إليه، فهو في غنى عن عبادتنا وتقوانا.
    وفي المقابل: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا}سُبْحانَ اللَّه! فهو في غنى عن طاعتنا وعبادتنا ولا يضيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في شيء معصيتُنا أو كفرنا ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)) [فاطر:15-16] فنحن الذين في وجودنا وحياتنا وكل أمورنا وفي كل طرفة عين فقراء إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    أما هو جل شأنه، فهو الغني الغنى المطلق التام، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الأنعام: ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ))[الأنعام:14] سُبْحانَ اللَّه! هو يطعم المخلوقات جميعاً، وهو الذي يربيهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعم ولا يُطعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهل يعبد المطعوم ويترك من يطعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا كما جَاءَ في الحديث القدسي {أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إني والإنس والجن لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي} هذا هو حال العالمين مع رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخلق ويعبد سواه سُبْحانَ اللَّه وهذا من جهل الإِنسَان ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً))[الأحزاب:72] هكذا طبع الإِنسَان ((قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)) [عبس:17] فمن جهل الجنس البشري وظلمه وكفره: أن الله هو الذي يرزقه، ومع ذلك فإنه يشكر ما سواه، ينظر إِلَى الأسباب التي أعطته الرزق وينسى الذي خلق الأسباب وهيئها ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) [هود:6].

    فمن اقتران الخالق مع الرازق أيضاً نفهم كمال الغنى لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكمال افتقار المخلوقين إليه؛ فإنهم مخلوقون والله هو الذي خلقهم((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)) [الطور:35].
    وقوله: " بلا مؤنة " يدل عليه ما جَاءَ في حديث أبي ذر هذا، من قوله سبحانه: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط -يعني الإبرة- إذا غمس في البحر} فهذا دليل عَلَى كمال غنى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ((مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)) [النحل:96] ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21].
  3. إثبات صفتي الإماتة والبعث

     المرفق    
    قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً))[الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً.
    وفي الحديث: {إنه يؤتى بالموت يوم القيامة عَلَى صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنَّار}وهو وإن كَانَ عرضاً، فالله تَعَالَى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: {أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح عَلَى أقبح صورة}.
    وورد في القرآن: {أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون} الحديث، أي: قراءة القارئ.
    وورد في الأعمال: {أنها توضع في الميزان}، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران: {أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف}.
    وفي الصحيح: {أن أعمال العباد تصعد إِلَى السماء}. وسيأتي الكلام عَلَى البعث والنشور إن شاء الله تعالى] إهـ.

    الشرح:
    قوله رَحِمَهُ اللهُ: [مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة]، هذا استمرار للنعوت والصفات في حق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو يحي ويميت سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من يشاء بلا مخافة، ولا يبالي متى أهلكه، وإنما جَاءَ في حق العبد الصالح المؤمن المتقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن الله تَعَالَى يقول كما في الحديث القدسي: {وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، هو يكره الموت وأنا أكره مساءته} أما غير ذلك فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يبالي بأن يهلك أياً كَانَ من المخلوقين، وهو كذلك "باعث بلا مشقة" يبعثهم سبحانه تَعَالَى بلا مشقة.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: إن الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم من متكلمي الْمُسْلِمِينَ؛ فإنهم يقولون: الموت ليس شيئاً وجودياً، إنما هو شيء عدمي لا وجود له، فعدم الموت عندهم هو عدم الحياة.
    لأن الله تَعَالَى يقول: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) [الملك:2] خلق الموت وخلق الحياة يعني: أن هذا أمر وجودي مخلوق؛ لأن العدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، {أنه يؤتي بالموت يوم القيامة عَلَى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنَّار} فيذبح الموت بهذا الشكل، حتى يستيقن كلٌ من هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ بالخلود، ويعلم أهل الجنة أنهم في نعيم ولا فناء ولا موت ولا خروج، ويعلم أهل النَّار أنهم في شقاء وعذاب أبدي؛ إلا من ورد في حقه الخروج من العصاة في شفاعة النبيين والصالحين، أو بتحنن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم من بعد ذلك.
    فالموت إذن أمر وجودي، ولهذا {يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فَيَقُولُ: هل تعرفون هذا الكبش؟ فيقولون: نعم.
    هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح.
    ثُمَّ يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النَّار خلود فلا موت، ثُمَّ قرأ: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) [مريم:39]
    }
    هذه رواية الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ للحديث، وله روايات أخرى.
    وقد يُقَالُ: ولكن الموت عرض فكيف يوصف بأنه جسم؟
    والجوهر عندهم: ما قام بذاته، والعرض: ما قام بغيره، فالإِنسَانُ جوهر، واللون لا يقوم بذاته فهو عرض، وهكذا الحياة والموت.
    الجواب: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقلب هذه الأعراض فتصير أعياناً، فمن ذلك: أن العمل الصالح يأتي صاحبه بصورة الشاب الحسن، والعمل القبيح يأتي في صورة الشاب القبيح، وذلك ضمن الحديث الطويل الذي رواه الإمام أَحْمَد في المسند في صفة موت المؤمن والكافر أو المنافق.
    فمن صفات المؤمن: {أنه إذا وضع في قبره يأتيه شاب حسن فَيَقُولُ: من أنت؟ فوجهك الوجه يبشر بالخير، أو وجهك الوجه الحسن، ويستبشر بوجوده، فَيَقُولُ: أنا عملك الصالح، وأما المنافق أو الكافر -والعياذ بالله- فإنه يأتيه في أقبح صورة، فَيَقُولُ: من أنت؟ قبحك الله أو قاتلك الله فوجهك الوجه ينذر بالسوء، فَيَقُولُ: أنا عملك القبيح} فصور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأعمال التي كَانَ يعملها هَؤُلاءِ في صور محسوسة.

    ومن ذلك أيضاً: ما ورد في القُرْآن أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون. ويقول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة} والبطلة: هم السحرة؛ ولذلك من يقرأ سورة البقرة فإنه يعصم -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وينجو من شر السحرة وأعمالهم، ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف} و{إن القُرْآن يلقى صاحبه يوم القيامة حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟
    فَيَقُولُ: ما أعرفك.
    فَيَقُولُ: أنا صاحبك الذي أسهرت ليلك وإن كل تاجر وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة ...إلى آخر الحديث}
    ، الشاهد في هذا، هو قوله: "إن القُرْآن يأتي في صوره الشاب الشاحب"، وفي الحديث الآخر: {إن البقرة وآل عمران يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف}.
    فهذا من أعمال الإِنسَان التي توضع في الميزان، وتصعد إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مع أنها أعراض، لكي يُعرف أنه لا استدلال للجهمية القائلين بأن القُرْآن مخلوق بأمثال هَؤُلاءِ الآيات؛ لأن قرآتي مخلوقة وقرآتك مخلوقة، وأما القُرْآن الذي هو كلام الله فهو ليس بمخلوق، فالذي يأتي كل إنسان منا هو قرآته لا القُرْآن الذي هو كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا مما أبطل به الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى استدلال الجهمية الذين قالوا: إن القُرْآن مخلوق.

    وهذه الأعمال توزن يوم القيامة في الموازين، كما ثبت ذلك وورد في أحاديث كثيرة صحيحة منها: حديث المفلس لما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رَسُول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار -هذا العرف المادي البشري- فَقَالَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كالجبال، أو قال بصلاة وصيام وجهاد وحج ثُمَّ يأتي وقد ظلم هذا وسرق هذا وأخذ مال هذا -حين تنصب الموازين- فيؤخذ من حسناته فيعطى هَؤُلاءِ الذين ظلمهم وضربهم من حسناته، فإذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فيلقى في النَّار}.
    وكما في {حديث الرجل الذي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له يوم القيامة بعد أن توزن جميع أعماله، وإذا بحسناته طائشة، وإذا بسيئاته عظيمة وثقيلة، فتجعل سيئاته في تسعة وتسعين سجلاً، فيقول له الرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (هل بقي لك من شيء)، فَيَقُولُ: لا يا رب ما بقي شيء، فيقول الله: (ولكن لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، بقي لك هذه البطاقة)، فيرى بطاقة مكتوب فيها: "لا إله إلا الله" فَيَقُولُ: يا رب! وما تصنع هذه البطاقة بتسعة وتسعين سجلاً؟! فتوضع البطاقة فترجح عَلَى هذه السجلات جميعاً} التوحيد يرجح بجميع السجلات، فهذا كانت عنده حقيقة التوحيد، ولكنه كَانَ يرتكب ويفعل من الآثام ما الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به عليم، وقد أحصاه عليه وعده، ثُمَّ أراه إياه، ثُمَّ تجاوز عليه بفضل تحقيقه للتوحيد.

    وسنتحدث عن الميزان في آخر الكتاب -إن شاء الله- ضمن الحديث عن البعث، وهناك نبين الرد عَلَى مثل هذه الشبه، وهي قول الفلاسفة والمعتزلة ومن وافقهم بأن الأعمال أعراض، والأعراض لا توزن، وانكروا لذلك الميزان، مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً)) [الكهف:105].