الإسلام هو دين الله عز وجل، وهو الدين الحق، وقد وقف الناس منه -منذ بدايته- مواقف مختلفة، فمنهم من أنكره ظاهراً وباطناً، ومنهم من قبله ظاهراً وباطناً، ومنهم من نافق المسلمين فقبل الإسلام ظاهراً وكاد له في الخفاء، وهم المنافقون، وقد أطلق عليهم فيما بعد اسم (الزنادقة). وقد ظهرت الزندقة -أول ما ظهرت بهذا المصطلح- في العصر العباسي، وانتشرت في بلاد العراق، وتعتبر الزندقة حليفة الرفض؛ لأنها أكثر ما تنتشر وتترعرع في البلاد التي يسيطر عليها الرافضة، ولا يجد الزنادقة زياً يتقمصونه أنسب لهم من الرفض.
  1. ليس كل من قال الكفر يكفر

    قال المصنف: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكونُ ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً؛ فلا يُتَصور أن يُكفَّر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلقَ فيه ثلاثة أصنافٍ:
    صنفٌ: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين.
    وصنفٌ: مؤمنون باطناً وظاهراً.
    وصنفٌ: أقروا به ظاهراً لا باطناً.
    وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين؛ فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.
    وهنا يظهر غَلَطُ الطرفين، فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر: {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمهُ: عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده من الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله} ]
    .
    قول المصنف رحمه الله: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً؛ قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع].
    أي أن القول أو العمل؛ إما أن يكون دون الكفر، سواء أكان بدعة أو ذنباً أو كبيرة؛ فلا يجوز أن يقال: إنه كفر، ولا يجوز أن يقال: إن مرتكبه كافر.
    وإما أن يكون القول أو العمل كفراً في حكم الله ورسوله فهنا نقول عن القول أو العمل: إنه كفر. ولا يقال: إن هذا القول أو الفعل حرام أو بدعة حتى لا نكفّر فاعله؛ فإنه ما دام أن الله ورسوله قد حكما بكفر هذا القول أو الفعل فلا حرج من إطلاقه، أما المقترف لذلك القول أو الفعل المحكوم عليه شرعاً بأنه كفرٌ؛ فلا يكفَّر إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع.
    قال: [ولا يكون ذلك إلا إذا كان منافقاً زنديقاً] أي: لا يكون تكفيرُ قائله إلا إذا كان منافقاً زنديقاً، فلا يمكن أن يقع الكفر منه على الحقيقة، أو يكون كافراً على الحقيقة إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فتغير اسمه فلم يعد مؤمناً، لأننا حكمنا عليه بالكفر، وهو نفسه يظهر الإسلام، فأصبح حكمه أنه زنديق منافق. وهذا الذي يريد المصنف رحمه الله أن يتوصل به إلى أنه لا يجوز الحكم بالتكفير إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع.
    يقول: [فلا يتصور أن يُكفِّر أحد من أهل القبلة المظهرين للإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً] فأهل القبلة المظهرون للإسلام لا يمكن أن نحكم على أحد منهم أنه كافر إلا إذا كان منافقاً زنديقاً، أي: كافراً في الباطن بدلالة القرائن وتوافر الشروط وانتفاء الموانع والتي بمجموعها يستدل على كفر باطنه، وإذا لم يكن كافراً على الحقيقة فإن إطلاق الكفر عليه لا يجوز ولا يصح ويترتب عليه إثم كما هو معلوم.
  2. أصناف الناس وموقفهم من دين الله

    وقد ذكر المصنف أصناف الناس فقال: [وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف]: أي أن الله تعالى صنف الخلق وقسمهم في القرآن إلى ثلاثة أقسام ليس لها من رابع.
    القسم الأول: المنكرون، والقسمان الآخران: المقرون، ولكن أحدهما مقر ظاهراً وباطناً، والآخر مقر ظاهراً فقط، وهو في الحقيقة والباطن كافر. فيبين أن الصنف الأول: [كفار؛ من المشركين ومن أهل الكتاب] وفي القرآن في أوائل سورة البقرة: ((ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))[البقرة:1-3] الآيات، وهذه الآيات الكريمات جمعت صفات الأصناف الثلاثة (المؤمنين، الكافرين -وأخيراً- المنافقين) ولنا مع ذلك وقفات وتأملات.
    1. الصنف الأول: المؤمنون

      الصنف الأول وهم المؤمنون، فإن الله تعالى أنزل سورة البقرة وهي أول سورة نزلت في المدينة مع بداية ظهور المجتمع المسلم، بعد أن كان المشركون -في مكة - يعذبونهم ويفتنونهم ليتخلوا عن دينهم، فبعد الهجرة أصبح للمسلمين مجتمع وكيان مستقل، وأصبحت السيادة في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى في هذه السورة للمؤمنين أصناف الناس الموجودين في المدينة -والناس عامة- وبين أن من أصناف الناس -أرفعهم درجة- المهاجرون والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ولم يرتابوا، إلى آخر ما جاء في صفاتهم، فهؤلاء هم حزب الله.
    2. الصنف الثاني: الكفار

      ثم إن الله تعالى ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب وهم الذين كفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا، ولم ينقادوا ظاهراً ولا باطناً، بل ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين منهم كفار قريش، والمشركون ممن حول المدينة من الأعراب الذين ذكر الله أنهم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وخصوصاً اليهود؛ لأن النصارى كانوا قلة في الجزيرة، أما في شمال الجزيرة -جنوب بلاد الشام - فكان منهم الغساسنة، لكن في مكة أو في المدينة وجد قلة ممن تنصر أو من الحنفاء وأشباههم، والمقصود أن أهل الكتاب في المدينة كانوا أيضاً كفاراً، ولذلك أتت الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل ضمن سورة البقرة وغيرها، وما ذكره الله من كفرهم وتكذيبهم مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يقولون: سنغلبكم وننتصر عليكم، حين يبعث نبي آخر الزمان ونقاتلكم تحت رايته، ولكن لما جاءهم ما عرفوا وما استفتحوا به كفروا كما بين الله تعالى في كتابه؛ فهؤلاء هم الكفار.
    3. الصنف الثالث: المنافقون

      والصنف الثالث -صنف جديد- وهم المنافقون، إذ أن مكة لم يكن فيها منافقون؛ لأن الابتلاء الذي وقع على المسلمين بها يمنع وجود من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا ينبغي ألا نكره الفتن والمصائب والعوائق -من هذه الحيثية- التي تأتي في طريق الدعوة -على الحقيقة- وإن كانت النفوس بطبيعتها تكره ذلك، لكن يجب علينا أن نعتقد أن الله كتب هذا الابتلاء للتمحيص، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا فيه حكمة عظيمة، فلو أن الإسلام والإيمان والدرجات العلى في الجنة تُعطى بالادّعاء لادعاها ولطمع فيها كل أحد، لكن تأتي الفتن والزلازل والعوائق والعقبات ليمحص الله الصف، وليعلم المؤمن والصادق على الحقيقة، وليظهر ذلك أمام الناس وليتساقط على الطريق كل من لا خير فيه، فكل من لا يصلح لحمل هذا الدين، ولا يستطيع أن يحيط به من جميع جوانبه، ولا يقوم به حق القيام؛ فإنه يسقط ولا تبقى إلا القلة المؤمنة.
      لذلك فقد تفاضل الناس حتى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فليس من أسلم وآمن وجاهد بعد الفتح، كمن فعل ذلك قبل الفتح، وليس من أسلم من الأعراب طمعاً في الغنائم وأُلِّفَ بها قلبه على الإيمان، كالسابقين الأولين الذين أوذوا في الله عز وجل، وحوصروا في الشعب، وهاجروا إلى الحبشة، ونالهم ما نالهم من الأذى وهم صابرون محتسبون. وهكذا فالناس درجات وطبقات في هذا الدين، وكذلك منازلهم عند الله تعالى ودرجاتهم في الجنة بحسب هذا الابتلاء، وخلاصة القول أن النفاق لم يكن موجوداً في مكة، أما في المدينة فقد ظهر -بسبب الأمن وتهيؤ الأمور للمسلمين- وبزغ نجمه، وجاء ذكره في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى في معرض التحذير منه، وفي بيان صفات أهله وأحوالهم، إلى آخر ما قصه الله تعالى في سورة البقرة.
      بعد أن بين المولى جل وعلا صفات الصنفين الأولين أفاض في ذكر صفات الصنف الأخير، وكذلك جاء هذا الصنف في سورة التوبة، والنساء، والمنافقون، وفي غير ذلك من السور، كما قد أسلفنا من قبل.
      والخلاصة أن الناس ثلاثة أصناف، أما الذين هم من أهل القبلة -أي: المنتسبون للإسلام- فهم في الحقيقة على صنفين:
      صنف مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء لا يجوز أن يكفروا بأي حال من الأحوال.
      وصنف ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، وهؤلاء يكفّرون إذا توافرت فيهم الشروط وانتفت عنهم الموانع، ويسمى الواحد منهم منافقاً أو زنديقاً.
      فإذا قُطع أو جزم أنه كافر، فمعنى ذلك الشهادة عليه بأنه ليس في قلبه ذرة من إيمان.
      يقول المصنف رحمه الله: [وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً -وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة- وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر] أي في حقيقته التي ظهرت في فلتات كلامه وسوء فعاله [وكان مقراً بالشهادتين] أي في ظاهره [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
      معنى ذلك أنه لا يجوز الإقدام على تكفير من لم يقل الكفر أو يعتقده على الحقيقة؛ لأنك إذا فعلت ذلك فقد أخرجته من أن يكون مؤمناً في الباطن، وجعلته مجرد مؤمن في الظاهر، رغم أنه ليس لديك أي دليل على ذلك، ففعلك هذا يُعد من كبائر الذنوب بتكفيرك من ليس بكافر حقيقة.
      فلو أن إنساناً قال مقالة، والمقالة في ذاتها تحتمل أن تكون كفراً أو بدعة، ونحن نعلم أن هذا الرجل مؤمن في باطنه إن شاء الله -كما يظهر لنا- ولا يقصد الكفر ولا يريده، فإن قلنا: إنه كافر بناءً على أن هذا اللفظ كفر، أو أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى كفر، فقد وقعنا في التناقض؛ لأننا نقول: إننا لا نستطيع أن نشهد بأنه كافر في الباطن، وفي نفس الوقت نكفره!!
      وإذا قلنا: إنه كافر؛ فكيف نقول ذلك وهو يقر بالشهادتين ويقر بالإسلام.
      وإذا قلنا: إنه مؤمن. فكيف يكون مؤمناً بإطلاق وفيه هذا العيب؟ فكيف يكون حكمه؟!!
      نقول: يبقى له هنا اسم الإسلام لا يُسْلَب منه، لكنه يكون من المخطئين أو من المتأولين، وإن لم يتعمد ذلك -كأن يكون لديه شبهة أو تأويل- فهذا يعتبر من أهل البدع، ويقال: هو باقٍ على الإسلام، ولكن فيه هذه البدعة فلا يكفر، فيثبت له اسم الإسلام.
      إلا أن هناك حالات نستطيع أن نجزم في حق صاحبها أنه كافر في الباطن، كما قال ابن القيم رحمه الله -وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية - في مسألة تارك الصلاة: لو أن إنساناً يدعي الإسلام وهو لا يصلي، فسألناه عن ذلك، فأقر بوجوبها وقال: سأصلي ثم لم يصلِ، فاستتابه ولي الأمر ثلاثة أيام إما أن يصلي وإما أن يقتل، ثم إنه مع هذا لا يصلي، فهنا نجزم أنه غير مؤمن، ونشهد بذلك؛ لأنه فضَّل أن يُقتل على أن يصلي، فكيف يكون هذا في حقيقته مؤمناً؟!
      فظهر لنا هنا شيء يمكن أن نشهد به عليه بدون تردد.
      وكذلك لو أن إنساناً يقول: أنا أحب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو متهم أنه من الروافض فإن طلبنا منه أن يترضى عنهما، قال: لا أترضى عنهما، فقلنا: نضربك ونعاقبك، فقال: لو ضربتموني ألف سوط فلن أقول: رضي الله عنهما. فهذا نستطيع أن نجزم أنه في الباطن لا يحبهما، فغير معقول أن تحب أبا بكر وعمر ولا تبادر بالترضي عنهما.
      فالخلاصة: أننا وإن كانت الأمور باطنة فيمكن أن نستدل عليها بالأمور الظاهرة، فإن الله قد ركب في النفوس من معرفة الحق والاستدلال بالظاهر على الباطن ما يشهد له الواقع، وإن كنا لا نعلم الغيب ولا ندعيه، لكن ظاهر الحال يدلنا على ذلك، وهو دليل حق- فالاستدلال به يوصلنا إلى اليقين في هذه المسألة.
  3. ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام

    ثم قال المصنف: [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق] أي أن من قال قولاً كفرياً في مقالة له أو خطبة أو كتاب أو نحو ذلك، فهذا لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون مخطئاً؛ فننظر لماذا أخطأ في هذا، هل كان ذلك لبدعة دعته إلى هذا القول؟ أو أن لديه تأويلاً معيناً للقول بذلك القول؟
    وإما أن يكون زنديقاً أي: أظهر هذه الكلمة الكفرية مع إظهاره للإسلام، ولكنه في الحقيقة يبطن الكفر، وهذا من لحن القول الذي ذكره الله تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ))[محمد:30]؛ لأن كل إنسان لا يمكن أن يعتقد الشيء ويخفيه على من يجاوره ويخالطه بالكلية. ولا يمكن أن يعتقد أحد عقيدة إلا ويظهر أثرها في سقطات لسانه أو جوارحه أو تصرفاته، لأنه من المستحيل أن يؤمن الإنسان بشيء إيماناً حقيقياً ولا يظهر ذلك أبداً.
    وهذا من حكمة الله تعالى ومن الدلالة على تلازم الظاهر والباطن، ويستثنى من ذلك ما كان مجرد شيء عابر، فإنه لا ينبني عليه حكم على الباطن سواء كان كفراً أو إيماناً، فالإيمان العابر كإنسان يحب بعض الطيبين بشكل عارض وتجده في الأصل لا يهتم بالمؤمنين ولا بالإيمان؛ لأنه ليس حباً حقيقياً، إنما هو عبارة عن عاطفة طرأت على قلبه، وكذلك إذا كان الإنسان مؤمناً ثم طرأ عليه نوع من الزيغ أو الشبهات فإنه يظهر لك أن إيمانه ثابت وباقٍ، لكن المنافق الذي يظهر الإسلام، ويحلف بالله كما حلف المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم، فمعلوم أن هذه الأيمان وراءها ما وراءها -نسأل الله العفو والعافية- فإن كفرهم قد ظهر في لحن القول وفلتات الألسن وسقطاتها.
    1. من هو الزنديق؟

      يقول المصنف رحمه الله: [والزنديق هو المنافق] كلمة (الزنديق) لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة، ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحكموا على أحد ممن لا يستطيعون أن يشهدوا له بالإيمان، ولم يكن في ظاهره من الكفار، بل كان من المقرين بالإسلام المظهرين له، فإنهم يقولون عنه: إنه منافق، ويعرفون المنافق بعلاماته المعروفة التي تكون قرائن واضحة دالة على باطنه المناقض لظاهره، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في صلاة الجماعة: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]] وكما قال كعب في حديث الثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد توبتهم من تخلفهم أنه رأى الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إما منافق مغموس عليه في النفاق أو ممن عذر الله}، فكان المنافقون يعرفون بقرائن تدل على بواطنهم.
    2. أصل مصطلح (الزنديق) وتاريخ ظهوره عند المسلمين

      ظهر هذا المصطلح الجديد؛ وهو (الزنديق) أكثر ما ظهر في العصر العباسي وانتشر وأصبح يقال: هذا رجل زنديق، أو متهم بالزندقة، فأصل هذه الكلمة كما قال بعضهم: إن الزندقة مأخوذة من كتاب كان يؤمن به المجوس يسمونه (زندفسته ) وهذا (الزندفسته ) هو كتاب المجوس، فكانوا يتهمون من يظهر الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن؛ بالزندقة؛ لأنه يعتقد ما في كتاب الفرس.
      وقال آخرون: الزندقة مأخوذة من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ فمثلاً الفرس كانوا يقولون: (خسرو) أي: ملك الفرس، وعند العرب لا يمكن أن يأتي اسم آخره واو قبلها حرف مضموم، وكذلك الخاء استثقلوها فقلبوها كافاً فصارت الكلمة عند العرب (كسرى)، فلما جاء المتأخرون ردوا الكلمة إلى (خسرو)، فتجد بعض المؤلفين اسمه (خسرو) على الاسم القـديم، ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري) أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى الله ذلك عنهم بقوله: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]. فـالدهريون هم الذين لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.
      ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد ظهر هذا المصطلح في تلك الفترة؛ لأن من الفرس من دخل في دين الإسلام كذباً وزوراً، وأخذوا يدسون ويكيدون للنيل منه، أما في زمن بني أمية فكان الإسلام ظاهراً عزيزاً قوياً فلم يستطيعوا أن يظهروا شيئاً من مقالاتهم، فلما جاء بنو العباس -وإنما قام ملكهم على أكتاف الفرس- قام بالدعوة إليهم أبو مسلم الخراساني، وجاء من خراسان بجموع هائلة وقاتلوا الأمويين حتى أسقطوا دولة بني أمية وأقاموا بدلاً منها دولة بني العباس، وكان غرض أبي مسلم الخراساني إقامة دولة شيعية غالية باسم بني العباس، تكون شيعية في الظاهر مجوسية في الباطن، ولكن بني العباس فطنوا إلى ذلك وكان السفاح أول من تولى أمر الدولة العباسية، ثم جاء بعده أخوه أبو جعفر المنصور، وكان أبو مسلم الخراساني قائداً له، وكان أبو جعفر المنصور من دهاة الرجال، ويروى عنه في الدهاء العجب العجاب، ففطن إلى أبي مسلم وإلى خطره وضرره، وبعد أن مكن له أمره ووطد له الملك قتله وقضى عليه، وقامت إثر ذلك حركة عظيمة في الفرس، وظهرت فرقة يقال لها: (الأبي مسلمية ) نسبة إلى أبي مسلم فحاربت الدولة العباسية محاربة شديدة، ولكن أبا جعفر المنصور انتصر عليها وأهلك الله تعالى أبا مسلم الملحد ومن معه، فتحول المجوس إلى دور التستر وإظهار الإسلام، ونشطوا في الدس له باطناً وذلك نتيجة لعدم قدرتهم على المجاهرة له بالحرب، وصاروا يدسون الإلحاد والكفر والزيغ في نفوس جهلة المسلمين.
    3. انتشار الزندقة في البلاد الإسلامية

      إن الزندقة أكثر ما انتشرت في العراق ؛ لأنها الأقرب إلى بلاد المجوس، فظهرت الزندقة في البصرة، والكوفة أما في مصر فكان ظهورها نادراً، وأما في المدينة وسائر أرض الحجاز فلم يكن هناك وجود للزنادقة والحمد لله؛ لأن الدسائس والمؤامرات كانت من أجل النفاذ إلى مرافق الدولة، لتقويض دولة الخلافة العباسية ولإبراز المجوسية مرة أخرى، فظهر هذا المبدأ، وكان الخليفة المهدي أشهر من عرف بقتل الزنادقة، فحين تقرأ في أي كتاب من كتب التاريخ فإنك تجد أن أعظم أعمال المهدي قتله للزنادقة، فكان يتتبعهم ويتصيدهم تصيداً، ويسلط عليهم العلماء والثقات من الناس يتتبعون كلامهم وآراءهم، فمن وجدوه قبضوا عليه، ومن وجدوا عنده شيئاً من كتب الإلحاد وأثبت عليه هذا الإلحاد فإنه يقتل فوراً، فقتل منهم المهدي جمعاً كبيراً، ومع ذلك بقيت الزندقة، وكان ممن اشتهر بالزندقة وقتل عليها كثير من الكتاب والشعراء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين كانوا وزراء لـهارون الرشيد وكانوا أشهر وزراء الدولة العباسية، إلا أنهم لم يتبعوا منهج أبي مسلم في الدعوة إلى هذه العقيدة، بل سلكوا طريقاً آخر حتى تمكنوا في الدولة، وحين تبين للرشيد رحمه الله أنهم زنادقة، قتلهم وأقام فيهم حكم الله تعالى، وقد ظهر له ذلك بأدلة كثيرة، كما نبهه بعض العلماء الربانيين إلى أنهم مجوس يعبدون النار، كما قال فيهم الأصمعي رحمه الله:
      إذا ذكر الشرك في مجلسٍ            أضاءت وجوه بني برمك
      وإذا تليت عندهم آية            أتوا بالأحاديث عن مزدك
      ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين، فكان أن حج هارون الرشيد، وكان قد بدأ يشعر بمكرهم فأشاروا عليه قائلين: يا أمير المؤمنين! لو أنك وضعت في الكعبة مجمرة كبرى، ووضعت فيها العود لكان ذلك سابقة لك لم يفعلها أحد قبلك، فعلم وفطن أن هذه حيلة منهم لتكون ذريعة إلى عبادة النار، وقال: (لئن رجعنا إلى بغداد ليرين الله ما أصنع) فلما عاد إلى بغداد فتك بهم.
      ومن الكتاب والأدباء المتهمين بالزندقة عبد الله بن المقفع، وكان يقال عنه: إنه ألف الكتب ليصرف الناس عن القرآن -وما أكثر الملهيات اليوم والله المستعان- فـعبد الله بن المقفع كان مهتماً بالزندقة وثبتت عليه التهمة، وكان إذا مر ببيت تعبد فيه النار يتمثل بقول الشاعر الأحوص :
      يا بيت عاتكة الذي أتعزل            حذر العدا وبه الفؤاد موكل
      إني لأمنحك الصدود وإنني            قسماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ
      يعني: أنا أصد عنك في الظاهر، لكنني والله أحبك وأميل إليك بالباطن، ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد، وله أشعار يظهر فيها وقوعه في الزندقة، منها قوله:
      إبليس أفضل من أبيكم آدم...
      وهذا كفر واضح والعياذ بالله.
      وصالح بن عبد القدوس له شعر كثير في الزهد، ويلمس من شعره أن غايته التزهيد في الدنيا، ولكن هذا التزهيد في الدنيا لم يكن عن إيمان بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على مذهب الصوفية من الهندوس وأمثالهم ممن يزهدون في الدنيا، ويعتقدون أنه لابد أن تُصفَّى الروح لتتحد بـ(براهما)، وعلينا أن نعلم أن الزهد إذا لم يكن أصله وباعثه الإيمان بالله وبرسوله؛ فإن ذلك لا ينفع صاحبه؛ فهو أشبه برهبان النصارى.
      ومن أولئك الزنادقة أبو العلاء المعري، وأشعاره مشهورة تشهد بزندقته، وكل من ترجم له يذكر ذلك -والعياذ بالله- وكذلك الحلاج، الذي قتل بسبب ما أظهره من زندقة، وكذلك السهروردي وأمثالهم ممن قتلوا بتهمة الزندقة.
      إلا أن بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره، وبعضهم لم ينفضح أمثال المعتزلة الكبار الأوائل كـأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام، فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة، وله رسائل تشهد على أنه زنديق والعياذ بالله.
      وقد قتل كثير من الناس بتهمة الزندقة حتى قيل: إنهم بلغوا الآلاف، ثم انتشر هذا المصطلح وأصبح يطلق على كل من انحرف عن الدين وأظهر الطعن في آيات الله أو الاستهزاء بدين الله بأي شكل من الأشكال.
    4. الرافضة ودورهم في نشر الزندقة

      كانت الزندقة أكثر ما تظهر في ظل الدول الرافضية، فعندما يحكم الروافض أي بلد من البلدان تظهر فيه الزندقة و الفلسفة التي يظهر منها الكفر بالله، والترجمات التي يستمد منها الكفر والضلال والعياذ بالله، وكان هذا واضحاً جداً، فنجده في أيام الدول العباسية عندما سيطر بنو بويه وكانوا شيعة، وفي مصر عندما سيطر العبيديون وكانوا باطنية، فأينما ظهر هذا المذهب الخبيث ظهرت الزندقة، ويبوح بها من كان يضمرها.
      ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر أن أبا الربيع الزهراني -المحدث الثقة المعروف- كان له جار من الزنادقة، ثم هداه الله فقال له أبو الربيع : ما بالكم تظهرون التشيع؟! قال: إنا -أي:معشر الزنادقة- نظرنا إلى أهل الأهواء وإلى هذه الفرق، فوجدنا أن أسهل باب ندخل منه إلى هدم الإسلام هو التشيع.
      فيدخل أحدهم الإسلام على أنه شيعي، وهو في الحقيقة زنديق يطعن في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضي الله عنهم، -كما يشاء- تحت ستار أنه شيعي؛ لأن الشيعة من أحمق الناس وأجهل الناس، فمع أنهم يطعنون في القرآن والسنة والصحابة يجتهدون ويبذلون أقصى جهدهم من أجل إضلال الآخرين على جهل فيهم، ولهذا قال بعض المحدثين: "لو طاوعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة" لأنهم يطلبون منه أحاديث في فضل علي أو الحسن أو الحسين، وهم لا يستطيعون التمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وبين ما فيه مدح أو طعن في الأئمة، فكثير من الفضائل التي ينقلها الشيعة عن علي رضي الله عنه والحسن والحسين فيها طعن فيهم، وليست مما يزكّى به الناس، لكن هم غاية عقلهم ومبلغ علمهم أن هذا مدح أو ثناء، فلذلك دخل هؤلاء الكَذَبة الزنادقة من هذا الباب فأصبحوا يروون الروايات الطويلة في فضائل أهل البيت، ويفسرون الآيات حسب ما يوافق هوى الشيعة، ومقابل ذلك فإن الشيعة تعظمهم وتوقرهم وتبذل لهم الأموال، فالزنادقة يدخلون من هذا الباب.
      ولما ذكر ابن الجوزي رحمه الله أسباب انتشار مذهب القرامطة ذكر أنهم يدخلون على أتباعهم من باب حب آل البيت ومدحهم، فإذا وجدوا من المدعوين من يوافقهم رسخوا في ذهنه وغرسوا في عقله أن جل آل البيت كفار، ولم يبق إلا هؤلاء الأربعة أو الخمسة أو الاثنا عشر ثم لا يلبثون حتى يلحقوهم بمن قبلهم. فإذا سئلوا ما هو الدين الصحيح؟ قالوا: الدين الصحيح هو ما عليه الحكماء، أي فلاسفة إخوان الصفا والأديان كلها باطلة.. فيكفر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
      وهكذا نلاحظ أن الزندقة بدأت تحت شعار التشيع، ومن هنا كانا مقترنين أي: ظهور الزندقة وانتشارها في المجتمعات الإسلامية يقترن بظهور دول الرفض والإلحاد، فمثلاً: ما جاء التتار ودخلوا بغداد إلا بتدبير ابن العلقمي الخبيث، وبتأييد نصير الكفر الطوسي وعندئذٍ ظهر أمر الزندقة وانتشر؛ لأن هؤلاء هم في الحقيقة زنادقة يتسترون بالرفض، وتحت غطاء التشيع انتشر الرفض وعم البلاد، لذلك تجد أن كل الخلفاء والسلاطين الذين كانوا يتميزون بالعدل في التاريخ الإسلامي، يقال في ترجمتهم: من مآثره أو من فضائله -كما في البداية والنهاية - أنه كان يحرم قراءة كتب الأوائل -ضمن حربه على الزندقة- والمقصود بكتب الأوائل كتب اليونان ؛ لأنها مصدر الزندقة والإلحاد، وقد وقع كثير من ذلك، كما كان في أيام نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله، والدولة الأيوبية عموماً، ومن قبلهم كثير من الخلفاء؛ كالخليفة القادر وأمثاله، كانوا يمنعون الناس من قراءة كتب الفلاسفة ويحرقونها، ومن وجدت عنده فإنه يعاقب، حتى يتوصلوا إلى القضاء على هذه الفتنة وعلى هذا الإلحاد.
      وعلى هذا فالزنديق في عرف المتأخرين هو من عرف في عهد الصحابة بالمنافق.
    5. قول علماء أهل السنة في الزنديق

      قال: "وهنا يظهر غلط الطرفين" والطرفان هنا يقصد بهما: الذين كفّروا بإطلاق، والذين لم يكفَّروا بإطلاق.
      يقول: "فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله} ". وهذا الحديث في مقابل حديث: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة -وذكر منهم شاربها ...} وهذا الصحابي كان يشرب الخمر، والذي في الحديث لعن الشارب بإطلاق، أما المعين كما هو حال هذا الصحابي فلا. وسنستعرض هنا رواية الحديث والكلام عليه كما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب الحدود (ج12 ص:64، 65) في رواية، والرواية الأخرى التي -ذكرها المصنف- هي عن عمر (ج12 ص:75) ونحن نأتي بالرواية الأولى؛ لأن فيها بعض الفوائد.
      الرواية الأولى: يقول الإمام البخاري رحمه الله: (باب من أمر بضرب الحدّ في البيت) بسنده عن عقبة بن الحارث قال: {جيء بـالنعيمان أو بـابن النعيمان شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه قال: فضربوه، فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال} ثم قال: (باب الضرب بالجريد والنعال) بسنده عن عقبة بن الحارث {أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بـنعيمان أو بـابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه}.
      ورواية أخرى عن أبي هريرة في نفس هذا الباب قال: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان} هذه الرواية ليس فيها اللعن، وإنما فيها بدل (لعنه الله) (أخزاه الله).
      أما حديث عمر رضي الله عنه فهو ما ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة) وفي هذا التعبير إشارة إلى أن من العلماء من كره لعن شارب الخمر، ومنهم من لم يكره، وهذا دليل لمن يرى عدم جواز لعن المعين قال: "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ..} إلى آخر الحديث" كما ذكره المصنف.
      ذكر ابن حجر اختلاف العلماء في لعن المعين وقد تقدم هذا الموضوع ومن جملة ما قال: (وصوَّب ابن المنير أن المنع مطلقاً في حق المعين، والجواز في حق غير المعين؛ لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعين أذى له وسب، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتُعقب بأنه إنما استحق اللعن بوصف الإبهام"، يعني: أن مسألة لعن المعين أو عدمه مرتبطة بالمصلحة، فإذا قيل: لعن الله فلاناً، فقد لا يكون فيه مصلحة، بل قد يكون من باب التنفير وإعانة الشيطان عليه، كما بين في الرواية الأخرى التي ورد فيها: (أخزاه الله) لكننا نقول: يمكن أن نجمع بين القولين بأن يلعن لعناً عاماً أمام صاحب الفعل المعين، فإذا جيء برجل شرب الخمر، فقلت: لعن الله شارب الخمر، أو إذا جيء برجل كذب، فقلت: لعنة الله على الكاذبين، فأنت في هذه الحالة حققت المصلحتين: أول شيء أنه انزجر؛ لأنه لما سمع الناس يلعنون الكاذبين فمعنى ذلك أنهم يريدون زجره، وفي نفس الوقت لم تلعنه بعينه أو بشخصه.
      فعدم لعن المعين لا يقتضي أنه يلعن سراً، فإنك إذا رأيت منكراً معيناً كالتعامل بالربا فإنه لا يتعين عليك أن تقول: لعن الله آكل الربا بينك وبين نفسك، ثم تحتج بأن المصلحة عدم لعن المعين في هذه الحالة، بل عند تحقق المصلحة بإظهار اللعن فإنك تقول: لعن الله آكل الربا.
      يقول الحافظ ابن حجر : "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين اسمه، فيجمع بين المصلحتين) والمصلحتان هما: مصلحة إظهار الزجر واللعن، ومصلحة عدم أذى المسلم لاحتمال أنه يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الخير. وهكذا فتوضع الأمور في مواضعها، ولهذا يفرق بين شارب وشارب، وبين زانٍ وزانٍ. أما بالنسبة لحد الله الذي شرعه فالحكم واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعفِ شارب الخمر من حد الله بل جلده، لكنه شهد له بالخير، وقد يجلد غيره ولا يشهد له بالخير، وهذا من الحكمة في التعامل مع الناس، وعليه فإن هناك أموراً لا يستوي فيها الناس، وأموراً يجب أن يستوي فيها الناس، ومن الحكمة أن نضع الشيء موضعه، فالمجاهر بالمعصية لا حرمة له.
      يقول ابن حجر رحمه الله: "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي، أو يقنطه من قبول التوبة" يعني: إذا رأى الناس يلعنونه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن ينتكس بالكلية، ويفارق أهل الخير، ويصاحب أهل الشر"، لكن لو أحسن التعامل معه لكان ذلك أدعى إلى أن ينزجر ويتوب.
      ويقول -أيضاً- ابن حجر رحمه الله: "بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجراً وردعاً عن ارتكاب ذلك، وباعثاً لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريباً.
      واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه" أي أن شيخه البلقيني قال بقول خالفه فيه بعض من عاصره من المشايخ، وهذا القول من الحافظ يدلك على أن هؤلاء العلماء لم يتأهلوا للعلم والتدريس إلا بعد أن تخلقوا بمكارم الأخلاق التي شرعها الله عز وجل، ولهذا بقي لهم الذكر الحسن عند الناس، فيقول: (وقد توقف فيه بعض من لقيناه) ومن أدب الحافظ رحمه الله أنه أظهر اسم الشيخ صاحب القول الراجح وأغفل تعيين صاحب القول المرجوح؛ لأنه لو قال: وقد توقف فيه فلان، فإنه يفهم منه الطعن في القائل، فتأدباً مع شيوخه لم يعين القائل لعدم الحاجة إليه، قال: "بأن اللاعن لها الملائكة" وهو اعتراض له وجاهته فاللاعن لها هم الملائكة وليس نحن، فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها"، قال ابن حجر: "والذي قاله شيخنا -يعني: البلقيني- أقوى، فإن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود" يعني لا يقال: إنه ما سماها، فالكلام هنا في امرأة معينة، وواضح أن زوجها دعاها فأبت، ويعلم بناءً على ذلك أن الملائكة تلعنها، فيجوز له أن يلعنها.
      ونحن نورد كلامه هنا من باب الفائدة، ولا شك أنه إن ترك لعنها فهو أفضل: ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ))[الشورى:40]، لكن الكلام هنا في الجواز.
      وهنا يظهر الخلاف في اسم صاحب الترجمة، فقيل هو عبد الله ويلقب حماراً وقيل: نعيمان وقيل: ابن نعيمان والخلاف في اسمه طويل، لكن الذي ظهر لي أنه رجل واحد، فلا نقول: إن القصة متعددة، وإن كان ابن حجر أحياناً يميل إلى ذلك، وأحياناً يميل إلى غيره، فحيناً يقول: (وهذا مما يقوي أن صاحب الترجمة ونعيمان واحد، والله أعلم) وهنا لم يجزم ابن حجر رحمه الله بأحدهما، والذي يظهر أنه رجل واحد، وأن القصة تكررت؛ لأنه ورد في نفس الحديث: (ما أكثر ما يؤتى به) يعني أنه كان يؤتى به مراراً والذي لعنه كان رجلاً من الصحابة فقال: (اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به) وفي بعض الروايات أنه عمر .
      فهذا الرجل جيء به أكثر من مرة، فربما أن الصحابة دعوا عليه أول مرة فقالوا: (أخزاك الله) ثم لما جيء به بعدها قالوا: (اللهم العنه!) فهذا أقرب من أن يقال: إن القصة في أكثر من واحد، وعليه يكون نعيمان هو نفسه عبد الله الذي يلقب حماراً ؛ والله أعلم.
      قال: {وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمزحون ولا يقولون إلا حقاً قال بكر بن عبد الله رضي الله عنه [[كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال]] أي أنهم كانوا يمزحون -فهم بشر- ويحب بعضهم بعضاً، ويألفون ويؤلفون، ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال في العبادة والدعوة والجهاد، أما في وقت أكل أو شرب أو جلسة أخوية فكانوا يمزحون ويتداعبون، لكن لا يقولون إلا حقاً ولا يفعلون إلا حقاً، وما ليس فيه إثم، لكن هذا الرجل له وصف متميز فقد كان جريئاً في المزاح حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ابن حجر بعض قصصه في ذلك (بسند الباب : {أن رجلاً كان يلقب حماراً، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى } فكان يأخذ العكة ويعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: هذه هدية مني لك والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة. فيأخذ تلك الهدية، وبعد فترة إذا بصاحب الدين يقف على رأسه مطالباً بحقه، فيجيء به نعيمان إلى رسول الله ويسأله أن يعطي الرجل حقه. يقول الحافظ: "ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: {يحب الله ورسوله} قال: {وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به فقال: أعط هذا الثمن فيقول: ألم تهده إليَّ؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك -النبي صلى الله عليه وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من الجد، ومع انشغال قلبه بالله تعالى في ذكر واستغفار وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك فقد كان في حياته -وفي قلبه- متسع للمزاح والدعابة، وكان يداعب أزواجه ويحادثهن، كما ثبت في حديث أم زرع الطويل، حين حدثته عائشة بالقصة كلها وهو يستمع إليها... -والقصة معروفة وقد أخرجها مسلم- والمسألة ليست أن نقرأ أحاديثه، وإنما الأساس أن نهتدي بهديه ونستن بسنته، ونقتدي به قولاً وعملاً واعتقاداً صلوات ربي وسلامه عليه.
      ولهذا كان التابعون كما قال سفيان قبل أن يأخذوا الحديث عن الرجل ينظرون إلى هديه وسمته ودله، وهذا قول عمرو بن ميمون الأودي لما تتلمذ على يد معاذ رضي الله عنه، ثم انتقل إلى حذيفة، وكانوا يُشَبِّهُون عبد الله بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته.
      وقد كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يحسنون التأمل والتفكر في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وقوله وفعله؛ فيضعون الأمور في مواضعها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بهذه المنزلة.
      نسأل الله أن يرضى عنهم وأن يلحقنا بهم.