كنا قد تعرضنا لتناقض النصارى في هذه المسألة؛ فإن عقيدة النصارى المعلنة في العالم كله: أن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فإذا ثبت ذلك، فلا داعي أن ينسب لأحد، حتى لو قالوا: من جهة الأم فرضاً؛ فإنه لو ثبت ذلك، لكان أعظم من أن ينسب إلى أم أو أب، لكنهم لم يكتفوا بذلك؛ فإن إنجيلين من أناجيلهم الرئيسية الأربعة المعترف بها عندهم قد تعرضا لنسب المسيح -وهما إنجيل متَّى وإنجيل لوقا ونسباه إلى يوسف النجار، ويوسف النجار خطيب مريم، خطبها ولكن لم يدخل بها، فلما جاءها الملك وحملت بعيسى، ارتاب يوسف واضطرب، فلما نام جاءه الملك وقال له: لا تظن بها إلا خيراً، فإنها حبلى من روح القدس الذي نفخ فيها، وليست حبلى من أحد من البشر، كما ذكر الله ذلك عنها في القرآن : ((قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا))[مريم:20]، فليست ببغي ولا ذات زوج فكيف ينسبون عيسى إلى يوسف هذا؟! وهل يصح بعد هذا أن يقال: إنه ابن الله؟! ولم يقف بهم التناقض عند هذا الحد، بل نجد ما في إنجيل متَّى من النسب غير ما في إنجيل لوقا، والآباء والأجداد هنا غير الآباء والأجداد هناك، ولا يمكن أن يقال: المسألة خلافية؛ لأن القضية ليست قضية اختلاف، فالنصارى يزعمون أن هذه الأناجيل وحي من عند الله..!
ومما يزيد في معرفة باطلهم وكذبهم وافترائهم على الله: أن في إنجيل متى بين عيسى وداود (40) جيلاً، وفي إنجيل لوقا (25) جيلاً، فالفرق (15) جيلاً في عمود النسب غير اختلاف الأشخاص! ولو وقع هذا من مؤرّخين، فإن هذا يدعونا إلى الريبة في كلامهما، فكيف إذا نسب ذلك إلى الله؟! وبذلك يُعلم افتراؤهم على الله.
وقد أخذ أهل العلم من هذا فائدة علمية، أعني من كون عيسى من ذرية إبراهيم؛ فقال العلماء: إن فيه دليلاً على أن أبناء البنات يعدون من أبناء الرجل، يعني: إذا ذكرنا ذرية فلان، فندخل فيهم أبناء بناته، ولهذا روى ابن أبي حاتم -كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله-: أن الحجاج كتب إلى يحيى بن يعمر يقول: إنك زعمت أن الحسن والحسين من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك في كتاب الله، فمن أين جئت به، فقد قرأت ما بين الدفتين فلم أجده؟ فكتب له يحيى بن يعمر بهذه الآية في سورة الأنعام: ((وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ))[الأنعام:84-85] قال: فجعل الله عيسى من ذرية إبراهيم، وإنما هو من جهة مريم؛ لأن عيسى لا أب له، فلما وصل الكتاب إلى الحجاج صدق بما فيه وسكت، ففي ذلك -كما يقول العلماء- دليل على أن أبناء البنات من أبناء الرجل وينسبون إليه.
وهناك مسائل تتعلق بذلك، منها: إذا أوصى بشيء أو وقف شيئاً وقال: لأبناء فلان، فهل يدخل فيه أولاد البنات؟ وهي موجودة في كتب الفقهاء، والمقصود أن ابن البنت ينسب إلى جده، كما في الحديث المتفق عليه: {إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين}.
وقد كان العرب في الجاهلية لا يعترفون بهذا، فيعتبرون ابن البنت بعيد الصلة، كما هو حال القبائل في هذه الأيام، فلا يعتبرون ابن البنت من الأبناء، وللعرب في ذلك بيت مشهور:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنـا            بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فيقولون: أبناء بناتنا: هم أبناء الناس الآخرين، وليسوا منسوبين إلينا؛ فبنونا: هم بنو أبنائنا فقط، هذا الذي كان العرب في الجاهلية يتعارفون عليه ويتحاكمون به، أما في دين الإسلام، فنحن نعرف أن الحسن والحسين يقال لهما: ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة: أن البنت كالابن، كلاهما ينسبان إلى الرجل، ولهما الحق في الميراث، وأبناؤهما ينتسبون إلى الجد الذي هو أب للابن والبنت.