مسألة التكفير من المسائل التي خاضت فيها سائر الفرق، بين إفراط وتفريط، فقد قالت الخوارج والمعتزلة بالخلود في النار لمن اقترف كبيرة، وناقضهم في ذلك المرجئة الذين أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، وقد توسط أهل السنة بين هؤلاء وأولئك؛ فهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ كما أنهم يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد.
  1. مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد

    قال شيخ الإسلام في (ص:468) من المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى: "فصل، إذا تبين ذلك فاعلم أن (مسائل التكفير والتفسيق) هي من مسائل (الأسماء والأحكام) التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة" ثم تكلم عن الفرق وعن معنى الإيمان، إلى أن يقول في (ص:474): "ولهذا قال علماء السنة في وصفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب" وهي العبارة التي يشرحها المصنف رحمه الله هنا، ثم يستمر الكلام إلى أن يقول في (ص:477): "وإذا عرف مسمى الإيمان؛ فعند ذكر استحقاق الجنة والنجاة من النار، وذم من ترك بعضه ونحو ذلك، يراد به الإيمان الواجب" وهذا أيضاً سيأتي إن شاء الله شرحه في موضوع الإيمان؛ لأنه رحمه الله يتوسع ويستطرد في كلامه، فتتداخل عنده القضايا، لكن الأمر المهم الذي نريد أن نصل إليه هو قوله في (ص:478): "وإذا تبين هذا" يعني: إذا تبينت حقيقة الإيمان والخلاف فيه، وأن الإيمان إذا نفي، فالمقصود به الإيمان الواجب لا الكامل المستحب، وإن قيل: الكامل، فالمقصود به الكمال الواجب، قال: "وإذا تبين هذا، فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم: مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأموراً بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل؛ بمنزلة صلاة المريض، والخائف، والمستحاضة، وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صلاتهم صحيحة بحسبما ما قدروا عليه" يعني من الصلاة أو من الطهارة، "وبه أمروا إذ ذاك" والمقصود من هذا أن المعذور الذي لم تبلغه المسائل العلمية، فحاله كحال المتفق عليه بين الجميع، وهو المعذور في الأمور والأحكام الشرعية الواضحة؛ كالمستحاضة والعاجز عن القيام والمريض.
    1. اجتماع الثواب والعقاب في حق المعين عند أهل السنة

      ثم قال: "فصل، فهذا أصل مختصر في (مسألة الأسماء)" يعني ما يتعلق بالأسماء؛ متى يسمى المرء مؤمناً أو يسمى كافراً أو يسمى عاصياً أو يسمى فاجراً.
      يقول: " وأما (مسألة الأحكام) وحكمه في الدار الآخرة، فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة: أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان" وهذا قد تقدم.
      ثم يقول: "وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة، فيوجبون خلود من دخل النار، وعندهم من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب.
      وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين -حصول الثواب من جهة والعقاب من جهة- لأن الإيمان يزيد وينقص؛ ولأن الإنسان يطيع الله في أمور ويعصيه في أمور، فيأتي ببعض شعب الإيمان مع إتيانه ببعض المعاصي، فيستحق اللوم والعقاب من جهة كما يستحق المدح والثواب من جهة أخرى".
      قال: "(وأيضاً): أهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره"، يعني كمن كان له حقوق على الناس أو له ولد صالح يدعو ويستغفر له، ويدخل في ذلك أيضاً الشفاعة، فقد يشفع له من لا يعرفه، ومن ليس بينه وبينه قرابة، وليس عليه حق؛ كإنسان صالح يشفعه الله سبحانه وتعالى في مجموعة، وهناك رجل من هذه الأمة يشفع في مثل مضر، فهذا من نعم الله ومن رحمته، فالمقصود أنه قد يدخل الجنة بحسناته أو بحسنات غيره.
      قال: "وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه" أي: قد يكون ذلك بسبب دعائه لنفسه أو دعاء غيره له، فيستجاب للدعاء في الحالين، قال: "وإما لغير ذلك".
    2. أخذ الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد وأخذ المرجئة بنصوص الوعد

      ثم قال: "والوعيدية من الخوارج والمعتزلة " يسمون الوعيدية لأنهم يأخذون بنصوص الوعيد "يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر" يعني بأعيانهم، يقولون ذلك "لشمول نصوص الوعيد لهم" فيرون أنهم يدخلون تحت نصوص الوعيد العامة "مثل قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا))[النساء:10]. وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفرون من خالفها".
      وقد تقدم شرح الأصول الخمسة وشرح كلام المعتزلة، ويقابلهم في هذا القول المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد.
      يقول رحمه الله: "فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر" يعني: أنهم يعتمدون نصوص الوعد؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} فإنه يتناول أصحاب الكبائر، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : {وإن زنى وإن سرق} فردوا عموم الوعيد بعموم الوعد.
      يقول: "فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم" وهذا من المذاهب الغريبة، وهو الذي يظهر من مذهب الأشعرية ومن أكثر كلامهم، فقد اضطروا حتى يتخلصوا من هذه القضية إلى أن يقولوا: (العموم مجاز، ولا يوجد عموم في اللغة أصلاً).
    3. منهج أهل السنة في الجمع بين نصوص الوعد والوعيد

      يقول: "وقال المقتصدة -ويعني بكلامه هذا أهل الحق-: بل العموم صحيح" العموم حق "والصيغ صيغ عموم"، يعني: قد أنكر أولئك المبتدعة صيغ العموم جميعاً مثل (من، وما، وكل، والنكرة في سياق النفي، وألفاظ العموم جميعاً)، وأثبت أهل السنة العموم ينكروا الصيغ الدالة عليه.
      قال: "لكن العام يقبل التخصيص" يعني: أي نص عام يمكن أن يأتي نص يخصصه، فالعموم يبقى، ولكن في حق المعين نأخذ الحكم بشروطه هل تحققت، وبموانعه هل انتفت، ثم نحكم عليه.
      يقول: "والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه" يعني أنه لا تعارض بين آيات وأحاديث الوعد وبين آيات وأحاديث الوعيد، يقول: "فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط" يعني أن من كفر فقد حبط عمله والعياذ بالله، حيث قال الله تعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))[المائدة:5] قال: "لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة"، أي: مشروطة بعدم إيمانهم إن كانوا كفاراً، أو توبتهم إن كانوا فساقاً، فهذه مع تلك عمومها باق، ولكن يدخلها التخصيص في حق المعينين.
      ثم يقول: "فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل"، كما جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه} رواه مسلم .
      قال: "وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل" قال تعالى: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ))[المائدة:27] يعني: من صلى بإخلاص وتصدق برياء؛ فإن الله يقبل صلاته؛ لأنه كان متقياً فيها، ولا يقبل صدقته منه؛ لأنه راءى فيها؛ فهناك حسنات وموانع لوقوعها، وهناك سيئات وموانع لوقوعها.
      يقول: "فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما يبطل ثوابها"، أي: ما يمنع حصول ثوابها؛ فكما أن الله جعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، فكذلك جعل الله تعالى بنص القرآن والسنة للحسنات ما قد يكون سبباً في عدم حصول ثوابها.
      قال: "لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة" حتى لو ارتكب أعظم ذنب وهو الشرك، قال تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11] هذا إذا تاب من الشرك، ولو كان ذلك الذنب قتل النفس -كما مر معنا في حديث الذي قتل المائة- ثم تاب القاتل؛ الله تبارك وتعالى يتوب عليه، فأي ذنب فهو داخل تحت قوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))[الفرقان:70]؛ فهذه التوبة تمحو جميع السيئات.
      قال: "كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة"، فهو إن فعل محظوراً أو ترك واجباً، وهو في نفس الوقت يفعل الواجبات الأخرى، ويترك المحظورات الأخرى، فذلك لا يستدعي بطلان جميع العمل ولا قبول جميع العمل.
      يقول: " وبهذا يتبين أنَّا نشهد بأن ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا))[النساء:10] على الإطلاق والعموم" وبعموم كلام الله لا بد أن نقول وأن نشهد، إذا وعظنا الناس في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي المجالس أو في أي مكان؛ لنزجرهم ونخوفهم من عذاب الله، ونأتي بهذه الآية ونبين أن هذا حكمه وهذا جزاؤه.
      ثم يقول: "ولا نشهد لمعين أنه في النار"، أي: لا نقول: هذا في النار؛ لأنه أكل مال يتيم؛ فإننا نشهد بالعموم والإطلاق، ولكن لا نشهد في المعين؛ يقول: "لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه" فما عندنا علم فيه بذاته وبعينه؛ "لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه".
      مفهوم كلامه رحمه الله أننا لو علمنا ثبوت الشروط وانتفاء الموانع أجرينا الحكم عليه في الدنيا، ولكننا مع ذلك لا نعلم حكمه في الآخرة، وهذا هو الذي يجعلنا نعاقب في الدنيا ولا نتكلم عن العقوبة في الآخرة إلا بنص أو على يقين، أما في الدنيا، فإننا نستطيع أن نتأكد في حدود علمنا أن الشرط متحقق وأن المانع منتفٍ، فنجزي عليه العقوبة الدنيوية؛ مع أننا لا نجزم مائة بالمائة أننا على صواب؛ فقد يكون عند الله تعالى غير مذنب، لكن على القاضي أن يحكم ويتحرى؛ فإذا أصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
      وقد يقال: ما دمنا لا نجزم بالوعيد في حق المعين، فما فائدته؟
      يقول: "وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه".
      يعني أننا نقول للناس: من فعل هذا الفعل فهذا حكمه، فإذا أنت وعظت الناس، وذكرتهم بالله عز وجل؛ فقلت لهم: لا تأكلوا أموال اليتامى؛ فإن الله تعالى قال في ذلك: (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10] فأنت قد أعذرت وأبلغت، وبينت للناس حكم هذا الذنب، وكل واحد من الحاضرين يرى في نفسه ويعلم أنه فاعل لهذا الذنب؛ فعليه أن يتوب ويستغفر الله ويجتهد في الخير؛ ففي هذه الحالة وجود الوعيد له فائدة عظيمة، ولا يستلزم وعظ الناس أن تعين فلاناً بذاته، وتقول: فلان من أهل النار؛ لأن الله تعالى قال (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10].
      يقول: "يبين هذا -يبين الفرق بين العموم والإطلاق وبين المعين- أنه قد ثبت: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها}.
      وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر: {أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله}".
      فالحديث الأول يدل على أن اللعن في العموم حق، وقد صرح به النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الثاني يدل على أن لعن المعين منهي عنه، وكثير من الناس في هذه المسألة على طرفي نقيض؛ فإما أنهم ممن لا يرى ذكر هذه الأمور مطلقاً ويقول: لا نكفر، ولا نفسق، ولا نضلل، وهذا مذهب المرجئة، وإما أنهم ممن يطلقها على المعينين رأساً بلا تثبت، وهذا منهج الخوارج وطريقهم.
      ففي الحديث الثاني علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن لعن شارب الخمر بقوله: {إنه يحب الله ورسوله} أي أنه وجد في هذا الشخص بعينه مانع يمنع لحوق الوعيد العام به، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم اللعن في العموم؛ لأنه هو الذي قاله وأطلقه؛ فلو أنك سمعت أن رجلاً شرب الخمر، فقلت: لعن الله شاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها، فما عليك شيء؛ لأنك لم تلعنه هو بعينه؛ بل أطلقت اللعن بعمومه؛ فإن كان هذا الرجل يستحق اللعن شمله اللعن، وإن لم يكن مستحقاً للعن، فأنت حينئذ ما أخطأت وما أثمت، لكن إن قلت: فلان ملعون، فقد يقال: هناك مانع يمنع من إطلاق هذا الحكم.
      وربما لو انتفى هذا المانع في حق ذلك الرجل، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقر اللاعن له على لعنه، لكن وجد المانع وهو حب الله ورسوله، يقول: "فنهى عن لعن هذا المعين، وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم".
  2. تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء

    1. ضوابط أهل السنة في تكفيرهم لأهل البدع والأهواء

      ثم يقول: "فصل، إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملّي، وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في ذلك من الاضطراب؛ فـ(مسألة تكفير أهل البدع والأهواء) متفرعة على هذا الأصل".
      فهذه المسألة هي موضوع بحثنا، والتي بناءً عليها ذكر ابن أبي العز رحمه الله حديث الرجل الذي أمر أبناءه، وأوصاهم بحرقه بعد الموت وذر رماده في البحر؛ يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه المسألة متفرعة عن هذه القضايا.
      قال: "ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة، فنقول: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية " وهذا سبق أن قلناه؛ فالمشهور عن أئمة السلف تكفير الجهمية في العموم، قال: "وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم".
      ذكر هنا الجهمية ثم قال بعدها: " أما المرجئة "، فالمقصود بـالمرجئة هنا غير الغلاة منهم؛ لأن المرجئة الغلاة -وهم الجهمية- يقولون: إن الإيمان هو المعرفة في القلب فقط، فهؤلاء يدخلون في التكفير في العموم، لكن كلامه هنا في المرجئة غير الغلاة الذين يقولون: لا يدخل العمل في الإيمان، لكنهم يرون أن الأعمال ثمرات للإيمان، وأنه يجب على الإنسان أن يأتي بالعمل، وأنه يثاب ويعاقب على العمل، لكنهم لا يدخلونه في الإيمان، فهذا مذهب المرجئة غير الغلاة الذين يقال لهم: مرجئة أهل السنة أو مرجئة الحنفية، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
      والمقصود أنه غاير بين المرجئة والجهمية، فعرفنا أنه يريد من قوله: (المرجئة): غير الغلاة منهم، والإمام أحمد رحمه الله لم يكفر المرجئة، وكذلك الأئمة.
      قال: "وكذلك الشيعة المفضلون لـعلي على أبي بكر " الشيعة الذين ليس فيهم من التشيع إلا تفضيل علي على أبي بكر، هؤلاء أيضاً لم يكفرهم السلف، ولم يخرجوهم من الملة في الجملة.
      قال: "وأما القدرية المقرّون بالعلم" إنما قال المقرون بالعلم؛ لأن من نفى العلم فهو كافر.
      الروافض الذين ليسوا من فرقة الغالية" يعني بهم الذين لم يقتصروا على تفضيل علي على أبي بكر، بل تعدوا ذلك إلى سب الصحابة، لكنهم لم يؤلهوا علياً ولا أهل بيته.
      يقول: " وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج " فيذكر عنه -يعني الإمام أحمد رحمه الله- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق، مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج، مع قوله: ما أعلم قوماً شراً من الخوارج ".
      قد ذكر الإمام أحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج فقال: "صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج من عشرة أوجه".
      ثم قال: "ما أعلم قوماً شراً من الخوارج "، لكنه لم يكفرهم؛ بل توقف في تكفيرهم وفي تكفير من أنكر القدر وهو مقر بالعلم، أما من أنكر العلم فهو كافر لا شك في ذلك.
      فهناك مراتب عند الإمام أحمد في هؤلاء؛ حيث صنفهم إلى قوم لم يتردد في أنهم يكفرون، وقوم لم يتردد في أنهم لا يكفرون، وقوم توقف في أمرهم، أو وردت عنه روايات متعارضة بشأنهم، وهذا من عدل أهل السنة والجماعة؛ حيث إنهم لا يعممون الأحكام على الناس، وإنما كل بحسبه، وهذا من الميزان الذي أمر الله تعالى به.
      ثم يبين شيخ الإسلام أن الناس اختلفوا في فهم كلام الإمام أحمد رحمه الله، وفي فهم كلام الإمام الشافعي وأمثالهم، يقول: "وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة".
      ثم يقول: "وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع" يعني أنهم كما اختلفوا في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد، فكذلك اختلفوا في كلام الأئمة، فمنهم من جعله في المعينين، ومنهم من نفاه بإطلاق.
      قال: "ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".
      إذاً: لا تناقض في كلام الإمام أحمد؛ إذ أنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وفي نفس الوقت حين يسأل عن فلان يقول: كان مرجئاً -مثلاً- أو كان جهمياً أو كان كذا، أي أنه يجرحه جرحاً دون الكفر، ولو كان مرتداً لصرح بذلك واكتفى به، فإن الكافر لا يقبل حديثه مطلقاً.
      قال: "فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات" ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنهم فعلوا الأفاعيل حتى إنه كان لا يعين في أي منصب إلا من نادى بمذهبهم الخبيث، وأعلن أنه عليه، وأنه معارض لمذهب السلف .
      يقول: "ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب" فهم لم يتوقفوا عند مجرد الدعاء إليها، بل استخدموا السلطة لذلك، فكانوا يعطون المناصب لمن قال بقولهم في هذه البدعة التي هي كفر، ويعاقبون من لم يقل بها.
      يقول: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة -يعني: المعتصم الذي عذبه- وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر" فالإمام أحمد بالرغم من قوله: إن قولهم كفر، فإنه حين سئل عن المعتصم، دعا له وعفا عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      وهذا هو منهج أهل السنة، يظهرون الحق ويدافعون عنه، ويستميتون في سبيله، ومع ذلك لا يحملون غلاً ولا حقداً على أحد؛ بل الأصل عندهم الرحمة والتجاوز والتسامح.
      وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سجن وأوذي وعذب، ولما أظهره الله على من فعل به ذلك، وطلب منه السلطان معاقبتهم بمثل ما عاقبوه به -تصديقاً لكلام الله سبحانه وتعالى: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا))[الشورى:40].. ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ))[النحل:126]- عفا عنهم، وهذا هو خلق أهل السنة؛ يعملون بالإحسان مع أنه بإمكانهم أن يعاملوا خصومهم بالعدل.
      يقول: "ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم -قطعاً- فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع".
      وهذا معلوم، قال تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى))[التوبة:113] يقول: "وهذه الأقوال والأعمال منه -أي من الإمام أحمد رحمه الله- ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر قوماً معينين".
      فقد نقل عن أحمد من طريق تلاميذه الثقات أنه كفر معينين، وهذا الذي نريد أن نفهمه؛ فإن المسألة ليست على إطلاقها في أنه لا يَكْفُر من هؤلاء أحد؛ بل هناك من يَكْفُر من هؤلاء المعينين؛ كذلك لابد من إطلاق القول العام بالتكفير في غير المعين.
      يقول: "فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه".
      أي أنه قد يقال: إن الإمام أحمد روي عنه روايتان، أنه كفر فلاناً أو ما كفره، فهذا جائز أن يقع، لكنه احتمال ضعيف، والأولى التفصيل "فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه".
      أي أن من كفره الإمام أحمد رحمه الله بعينه، فمعنى ذلك أنه قد قام عنده الدليل على تحقق شروط التكفير فيه وانتفاء الموانع. "ومن لم يكفره بعينه، فلأن ذلك منتفٍ في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم".
      إذاً: لا تعارض، فهو يقولها على سبيل العموم، وأما في الأعيان فيتحرى، فمن ثبتت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، أطلق الحكم بتكفيره، ومن لم يكن كذلك، لم يطلق ذلك في حقه.
      ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار؛ فمن أدلة الكتاب على أن الإنسان لا يؤاخذ بالتأويل والخطأ ما لم يتعمد: قوله تعالى: ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ))[الأحزاب:5]... وقوله تعالى: ((رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا))[البقرة:286].
      وقد ثبت في الصحيح عن النبي: {أن الله تعالى قال: قد فعلت} لما دعا النبي والمؤمنون بهذا الدعاء.
      قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً لم يعمل خيراً قط}" وذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني" أي: يعلم ذلك المشتغلون بهذا الفن، الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، والذين يأخذون الأدلة منها، وأما أهل الكلام فيردون الحديث ولو بلغ مائة طريق؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الفن، ولا من أهل هذا الشأن، ولا يريدون أن يؤمنوا بما يرونه مخالفاً لعقولهم أصلاً، قال: "وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله".
      قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان}" إلى آخره، وذكر أدلة أخرى.
    2. الخطأ في التكفير عند السلف وما يترتب على ذلك

      قال: "وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل" فهو هنا يستدل على وقوع الخطأ من السلف على عدم التكفير، فلو أن قائلاً قال قولاً بدعياً وهو كفر، فإننا نتأكد في حقه من وجود الشروط وانتفاء الموانع، أما الذي يخطئ فيوافقه دون أن يقصد ذلك، فهذا أقل درجة منه ولا شك.
      وشيخ الإسلام رحمه الله يستدل على عدم إطلاق التكفير أو التعجل في إطلاقه بأن كثيراً من السلف أخطئوا في بعض المسائل، قال: "واتفقوا على عدم التكفير بذلك" ومن القضايا التي خاض فيها الصحابة موضوع المعراج يقظة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء، والكلام في الخلافة.
      يقول: "وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة" ويذكر بعض الأمثلة على ذلك فيقول: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه.. كان عبد الله أفقه منه" يعني ابن مسعود، وهو شيخ الاثنين "كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول: (بل عجبتُ).. فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة".
      حين أنكر شريح (بل عجبتُ) فإنه قد ترتب على ذلك أمران:
      أولاً: أنه أنكر أولاً قراءة ثابتة. ثانياً: أنه أنكر صفة من صفات الله الثابتة والتي دل عليها الكتاب والسنة، وهي صفة التعجب أو العجب، ومع ذلك يقول: "واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة" ولم يكفروه لأنه لم ينكرها على سبيل الرد والجحود؛ كما فعلت الجهمية.
      قال: "وكذلك أنكر بعض السلف بعض حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: ((أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا))[الرعد:31]، وقال: إنما هي: أولم يتبين الذين آمنوا - وإنكار الآخر قراءة قوله: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ))[الإسراء:23] وقال: إنما هي: ووصى ربك"، وقد تقدم معنا ذلك بالتفصيل في موضوع الخلاف في القراءات.
      قال: "وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة" يعني: لم يبلغه شيء من الدين جملة "لم يعذبه رأساً" أي: لا يعذب أيضاً جملة.
      "ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية"، فيحاسب على الجملة التي بلغته، لكن لا يعذب ولا يحاسب على التفصيل الذي لم يبلغه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، وذكر رحمه الله بعد ذلك الأدلة على ذلك.
    3. مواضع إطلاق التكفير العام

      ومن ثم يقول: "هذا الكلام يمهد أصلين عظيمين: أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك" أي: ما كان فيه جحد أو إنكار لأصل من أصول العقيدة والإيمان أو من أصول الأحكام العملية التي دل عليها الكتاب والسنة. وهنا فائدة وهي: أن الأصول تطلق على ما يتعلق بالعقيدة، ويقابلها الفروع، وهي الأحكام العملية، ولكن ليس هذا هو المراد هنا، إنما المراد بالأصول هنا: أصول العقائد من جهة، وأصول الأحكام العملية من جهة أخرى. فمثلاً: وجوب الصلاة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، هي من أصول الأحكام. وقد يعبر عنها أحياناً بقولهم: هي المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه الأصول جميعاً -أصول العقائد وأصول الأحكام- نحكم على من لم يؤمن بها بأنه كافر في الجملة وفي الإطلاق وفي العموم. قال: "والأصل الثاني أن التكفير العام -كالوعيد العام- يجب القول بإطلاقه وعمومه". فالتكفير أو ما كان دونه كالوعيد العام يطلق كما جاء في الكتاب والسنة.
    4. التوقف في مصير المعين في الآخرة وعلاقته بإقامة الحد عليه في الدنيا

      قال: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه".
      ثم بدأ شيخ الإسلام في تفصيل موضوع العقوبة، قال: "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة -أننا لا نشهد بالجنة أو النار- لا يمنع أن نؤاخذه في الدنيا وأن نعاقبه لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
      إذاً: نحن نعاقب المبتدع لنمنعه عن بدعته؛ وذلك لأننا نفرق بين وقوع العقوبة وبين ارتباط ذلك بصلاح الإنسان أو فساده، وأنه غير مقبول عند الله، أو بمعنى آخر: نفرق بين وقوع العقوبة في الدنيا ووقوعها في الآخرة، أما في الآخرة، فهو تبارك وتعالى الذي يتولى الجزاء، ولا ارتباط بين هذا وذاك.
      يقول: "ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل: قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة".
      هناك فرق بين قتال الخوارج وقطاع الطرق وبين قتال المتأولين؛ فـالخوارج يُقَاتَلُون لأنهم على البدعة، وقطاع الطريق الذين يسمون المحاربين يُقَاتَلُون لأنهم مفسدون في الأرض؛ أخذاً من قوله تعالى: ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا))[المائدة:33].
      أما المتأول، فهو الذي يظن أنه على الحق، واجتهاده أدى به إلى أن هذا هو الحق، فخرج به على جماعة المسلمين بأحد المعنيين؛ إما على الجماعة بمعنى الحق، أو على الجماعة بمعنى الإمام وأهل الحل والعقد الذين معه، فهذا اجتهاده، وقد يكون معذوراً؛ لكنه يقاتل حتى لا ينتشر خطؤه ولو أن أحداً استحل شيئاً مما حرم الله، أو ابتدع شيئاً في الدين، وإن كان يريد الحق، ولكنه لم يفهم الأدلة، وتأولها على غير وجهها ولم يقصد إلا الخير، لكنه أخطأ، فإذا تركناه تديَّن الناس بما هو عليه من الخطأ، ومن البدعة والضلال، وإن قاتلناه، قالوا: كيف تقاتلونه وهذا اجتهاده وهو عند الله معذور؟! فنقول: حكمه في الآخرة شيء آخر، أما في الدنيا فإننا نقاتله؛ لأن هناك فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
      وأوضح مثال على ذلك ما أورده شيخ الإسلام في قوله: "ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك والغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له}، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً، مع العلم بأنه باقٍ على العدالة".
      يعني: إذا قال شارب النبيذ: أنا على مذهب أهل العراق، والنبيذ عندي جائز، نقول: نحن بالنسبة لمذهبنا -وهو الراجح وعليه السلف - نجلد في شرب النبيذ، لكننا لا نحكم على شارب النبيذ بأنه منزوع العدالة كشارب الخمر؛ لأنه ما شربها لهوى أو لشهوة؛ إنما اتبع مذهبه، لكن لأننا نرى أن هذا المذهب مرجوح؛ لا نقول له: اشرب كما تريد؛ لأنه لو فعل ذلك وأقر عليه، لشرب الناس الخمر باسم النبيذ؛ ولذلك فإننا نمنعه ونعاقبه ونقول: هو غير آثم إذا كان هذا اجتهاده .. ونحن حين نعاقبه لا يلزم من معاقبتنا له أنه آثم، كما لا يلزم عكس ذلك.
      يقول: "بخلاف من لا تأويل له" هذا سيأتي شرحه إن شاء الله.
      يقول: "وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة"، وهذا حاصل، كحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا يحلفون بالله أنهم كانوا من المعذورين في غزوة تبوك، ليرضى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:((يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ))[التوبة:96] وقال تعالى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ))[النور:53] يحلفون ويقسمون الأيمان للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجت مرة أخرى لنجاهدن معك ((قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ))[النور:53] أي أنه قد عرف من شأنهم أنهم في كل مرة يحلفون ويكذبون، والله تعالى يطلع المؤمنين على أحوالهم من عنده، وأيضاً المؤمنون يعرفونهم بلحن القول.
      فكثير من الناس تعلم أنه منافق، ورغم ذلك لا تقدر أن تعاقبه بشيء في الدنيا.
      ومع أنك قد اجتمعت لديك قرائن وأدلة معينة تجعلك تعتقد أنه منافق، إلا أنك تكل أمره إلى الله.
      وكحال المنافقين -في كف العقوبة عنهم في الدنيا مع اعتقاد أنهم معاقبون في الآخرة- حال أهل الذمة، من النصارى الذين يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويذهبون إلى الكنائس، ولا يؤمنون بالقرآن، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويشربون الخمر، ويأكلون الخنزير؛ يقترفون كل هذه الأمور؛ ومع ذلك فإن الله أمرنا أن نقرهم على دينهم بالشروط العمرية، وهي شروط أهل الذمة.
      فنحن نعلم أنهم على الكفر، وأنهم لا يحلون ما أحل الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويعتقدون هذا الكفر، ومع ذلك نقرهم؛ فهناك فرق بين أحكام الدنيا وبين أحكام الآخرة؛ نقرهم في الدنيا ونحن نعلم ونعتقد أنهم معاقبون عند الله على هذا الكفر، وأن مصيرهم ومآلهم إلى النار.
      يقول رحمه الله: "وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة".
      السبب في كف العقوبات عن أهل الذمة وعن المنافقين وإجرائها على التائبين والمتأولين أن الجزاء الحقيقي يكون في الدار الآخرة، فنحن إنما أمرنا أن نقيم حدود الله بما استطعنا.
      يقول: "التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا، فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان".
      ولذلك لم تكن غاية قتالنا لهم أن يؤمنوا بقلوبهم، فنحن لن نعلم ذلك؛ وإنما غاية قتالنا لهم ألا يفتن مؤمن؛ كما قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ))[البقرة:193] فبعد ذلك: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ))[البقرة:256].
      فنحن نقاتل حتى يعلم الناس الحق، وحتى يصل إليهم الحق، وحتى لا يوجد في الدنيا من يفتن الناس عن الحق بالشبهات أو الشهوات.
    5. قتل الداعي إلى البدعة بغض النظر عن تكفيره

      يقول رحمه الله: "وإذا كان الأمر كذلك، فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي بالبدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر".
      انظروا فقه السلف وفهم السلف؛ لم يتجادلوا كثيراً في الجعد هل هو كافر أو ليس بكافر.. أما نحن الآن -مع الأسف- فتجد أكثر خلافنا هل فلان كافر أم ليس بكافر.
      لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يعلمون أن أمور العباد إلى الله، وحقيقة العقوبة إنما هي في الآخرة، لكن إن وجد في الدنيا رجل ابتدع بدعة تفسد الدين، وجب أن يقتل؛ فأجمعوا على هذا القدر، ومنهم من أطلق الكفر، ومنهم من لم يطلقه، والمقصود أنهم لم يتجادلوا، بل القضية والنظر الأساسي عند السلف هو أن من كان في وجوده أو في بقائه خطر على الدين، وفي قتله مصلحة للدين، فإنه يقتل، أما كونه قتل كافراً أو غير ذلك، فذلك أمر ثانوي، فقد كان نظرهم إلى أصل القضية، ولذلك لا يمنع أننا قد نعذر أحداً من الناس، لكن لا يعني ذلك أننا لا نعاقبه، بل قد نعاقبه في الدنيا، ونحن نعلم أنه معذور، ونعلم أنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى حسب ما يظهر لنا من نيته ومن عمله.
      قال: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
      وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة.
      ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
      يقول رحمه الله: "وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم".
      وهذا الفصل الطويل في المجلد الثاني عشر مجموع الفتاوى من صفحة (479-501) يوضح ويجلي هذه المسألة.
      ومن أهم النقاط التي نحب أن نركز عليها أن المبتدع يجوز أن يقتل تعزيراً ولو لم نحكم بردته؛ لأن هناك مع الأسف من يثير هذه المسألة ويقول: (لا يقتل) بناءً على حرية الفكر، وأن الإسلام أتى بحرية الرأي.
      فنقول: نعم الإسلام جاء بحرية الاجتهاد؛ فيجوز أن يجتهد الإنسان في ضوء الأدلة والنصوص، لكن الاجتهاد قد يكون خطأً، وقد يكون المجتهد مأجوراً عليه عند الله، ولكنه في الدنيا يعاقب.
      وغاية ما عندهم أن يقولوا: إن هذا الرجل وقع في البدعة عن اجتهاد، فنقول: إن كان مجتهداً مخطئاً، فذلك يجعله غير معاقب عند الله، لكن نحن في الدنيا لابد أن نقيم الحد عليه وأن نعاقبه.
      فمن أنكر شيئاً من أصول العقائد والأحكام، ومن قال: إن القرآن مخلوق، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، ومن أنكر القدر، ومن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو كفرهم، أو أتى بأي بدعة من هذه البدع، فإنه يقتل تعزيراً دفعاً لبدعته بغض النظر عن الكفر وعدمه؛ يقتل من جهة النظر إلى مصلحة الدين واستقامة المسلمين.
      وعلى هذا قتل الجعد بن درهم، وقتل غيلان الدمشقي لما أنكر القدر، وكثير غيره من أهل البدع، ثم جاء الحلاج وأمثاله، فأجمعت الأمة على قتلهم.
      وهذا أصل أحببناً أن ننبه عليه؛ لأنه يوجد الآن من يحاول أن ينكره، ويقول: كل هؤلاء ما قتلوا إلا لأغراض سياسية، فلو كانت أغراضاً سياسية من الحكام، فهل حين كفرهم العلماء أو استحسنوا قتلهم -هل كان ذلك لأغراض سياسية؟!
      إن هؤلاء السلف أو علماء الأمة حين رضوا بقتلهم وأثنوا على فاعله جعلوا ذلك من باب العقوبة الشرعية، والله تبارك وتعالى أعلم بالنيات، والظاهر من حال من قتلهم أنه إنما قتلهم من أجل المصلحة الدينية.