فيما سبق رد على
المتصوفة وأمثالهم، الذين يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله وأن إبراهيم خليل الله، وأن المحبة أعلى من الخلة. وهذا غير صحيح، والأدلة التي ذكرناها تدل على أن هذا الكلام غير صحيح، فـ
الصوفية يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله، وأن أخص صفاته في نظرهم هي المحبة، وسبب ذلك أنهم يتعبدون الله بالمحبة المطلقة فقط، ويظنون أنهم يبالغون في حق رسول الله ويعظمونه بقولهم: هو حبيب الله (حبيب رب العالمين)، ولذلك يستخدمون كلمة (الحبيب) أكثر مما يستخدمون كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ولكن أفضل من ذلك كونه خليل الله، والخلة إنما كانت له لكونه مستكملاً الفضيلة العظمى، وهي الرسالة والاصطفاء؛ فأعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم الحقيقية هي الرسالة والعبودية التي ترقى في مراتبها ووصل إلى أعلاها، وهي الخلة.
وكان أكمل الرسل من جهتين: من جهة أنه خاتمهم صلى الله عليه وسلم، فرسالته عامة للناس جميعاً، ومن جهة أن رسالته عامة وباقية إلى يوم القيامة لا ناسخ لها، فلم يبعث قبله رسول إلا لقوم محدودين، وفي وقت محدد إلى أن يبعث نبي آخر.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل الرسل في الرسالة، وهو أكمل الخلق في العبودية، فإذا أراد أحد أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويثني عليه، فأعظم ثناءٍ عليه أن يصفه بأنه عبد الله ورسوله.
وقوله: [والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير] أي: يصبح الخليل محبوباً لذاته، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يُحَبّ لذاته، وأما بقية الخلق فلا يحبون إلا لأسباب.
قال: [ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة] أي: أن من يحقق كمال المحبة بتحقق الخلة، فلا شريك ولا مزاحم في قلبه، وذلك بالنسبة للمحب، أما بالنسبة لمن يُحَبُّ فلا ضير، فمثلاً:
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: {
أوصاني خليلي ..} يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل في هذا معارضة ومخالفة لما ذكرنا من الأحاديث؟ الجواب: لا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا خليل له اتخذه هو إلا الله، لكن الناس يتفاضلون في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه قد يكون منهم من يسعى إلى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لهم -بل ينبغي أن يسعوا إلى ذلك ويجتهدوا فيه- حتى تتخلل محبته قلوبهم، فتلك غاية الرتب وأعلى الدرجات في المحبة.