من اليسر في دين الإسلام أن يعذر الجاهل بجهله، وإن أتى بما هو كفر، ولا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت على مبتدع أو عاص ترتبت عليه الأحكام والعقوبات الدنيوية؛ من تكفير وتفسيق وتبديع، أو قتل أو حد أو هجر ونحوه.. ثم هجر المبتدع تابع لمصلحة الدين، وذلك يختلف بحسب القوة والضعف، والقلة والكثرة، وانزجار المهجور وعدمه، ونحو ذلك.
  1. إقامة الحجة شرط في تكفير المعين

    قال شيخ الإسلام رحمه الله:
    "فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: {هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!}" وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالمٌ بكل شيءٍ يكتمه الناس كافرة" والقضية عندنا هي: أن بعض الناس قد يعتقدون الكفر، أو يقولون الكفر، وهذا لا يعني تكفير قائله أو معتقده إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الدعوة.
    يقول: "ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: أن الإقرار بأن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم؛ هو من أصول الإيمان، ولكن إنما يثبت في حق المعيَّن بعد قيام الحجة عليه.
    قال رحمه الله: "وإنكار علمه بكل شيء، كإنكار قدرته على كل شيء" أي: أن ما خفي على عائشة هو مثل ما خفي على الرجل المذكور في الحديث.
    قال: "هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب"، أي: هذا مع أن عائشة رضي الله عنها لم تكن خالية الذهن من الإيمان تماماً، بل كان عندها علم ودين وخير، ولذلك فهي مؤاخذة، فكانت تستحق اللوم على الذنب لو كان هذا الجهل ذنباً.
    قال: "ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟}. يعني: عندها علم، وتعلم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يحيفا عليها، فهي مؤاخذة وتستحق اللوم، بمعنى: أن من لم يبلغه شيء من الدين ولا يدخل تحت المؤاخذة أصلاً، فهو أولى بأن يُعذر ولا يُعاقب على ما لم يبلغه.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.
    فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائلِه لا يُحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها.
    وهكذا في كل قولٍ كفري: لا ُيحكم على قائله بالكفر حتى تُقام عليه الحجة التي يكفر تاركها" وقيد الحجة هنا بأنها التي يكفر تاركها، فكل إنسان بحسبه، ولا يشترط معنىً معيناً للحجة، ولا مقداراً معيناً؛ لأن من الناس من يكفي في إقامة الحجة عليه موعظة أو كلمة أو تذكير، ومن الناس من لا يكفي فيه إلا سنوات أو شهور من التعليم؛ لضحالة علمه وقلة فهمه وفرط جهله.
    وكذلك الذي يقيم الحجة، فمن الناس من يستطيع أن يقيم الحجة في مجلس واحد، ومن الناس من لا يقيمها وإن ظن أنه قد أقامها، وهذه أمور نسبية بحسب الأحوال والأشخاص، سواء في المقيم للحجة أو المتلقِّي لها، ولذلك يُراعى كل إنسان بحسبه، والله تعالى هو المطلع على الأحوال والسرائر.
    ثم يرد شيخ الإسلام على من يقول بسقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول: "ودلائل فساد هذا القول كثيرةٌ في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها، لا يُحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت".
    يعني: بهذا القول قول من قالوا: إنهم إذا تجوهروا سقطت عنهم التكاليف، وهو القول سبق أن شرحناه فيما مضى.
  2. إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا

    ما تقدم ذكره كان في أحكام الآخرة، وأما أحكام الدنيا فإنها كما ذكر المصنف رحمه الله بعد ذكره للحديث قال: "وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه". أي: أنه كان يظن أن الله لا يقدر عليه أو شك في ذلك كما تقدَّم إيضاحه، يقول: [لكن] وهي هنا للاستدراك "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا" فالكلام السابق هو في حقِّه في الآخرة، أي: لا نقطع ولا نجزم بكفره أو ردته أو خلوده في النار .. إلى آخره، ومع أننا نقول ذلك بالنسبة لما يتعلق بالآخرة؛ لكن ذلك لا يمنعنا من معاقبته في الدنيا، وربما يُعاقب في الدنيا وهو عند الله تعالى معذور، لكن بالنسبة لأحكام الدنيا لابد من العقاب إذا أقمنا عليه الحجة وأوضجنا له الدليل، ولم يقبل ولا اهتدى، ونحن معذورون عند الله إذا عاقبناه؛ لأننا اجتهدنا وتحرينا ألا نقيم الحد والعقوبة إلا على من يستحقها، فهذا غاية اجتهادنا، وهو قد يكون معذوراً.
    1. تقام الحجة على المبتدع قدر الإمكان ثم يعامل حسب الظاهر منه

      عندما تقابلت جيوش الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيوش الكفر والضلال من مشركي العرب ومن الروم والفرس، فإننا لا نجزم أن كلَّ واحد من أعيان تلك الجيوش قد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة؛ لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا كبراءهم، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وإلى كسرى، ثم قبل القتال دعا قادة الإسلام أمثال: سعد وخالد وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم؛ دعوا قادة الكفرة إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهذا غاية ما يمكن فعله، لكن قد يُقتل من يكون معذوراً، فقد لا يفقه ولا يفهم، ولم يبلغه شيء من الدين ولا من الحق، وإنما سيق إلى المعركة كالبهيمة، وهذا يقع، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يقاتل في الدنيا أو لا تقام عليه الحدود إن كان من أهل الحدود، ثم مصيره إلى الله سبحانه وتعالى: ((وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))[الكهف:49].
      فنحن في الدنيا نعتقد أنهم كفار، ونستحلُّ دماءهم وأموالهم، وإذا كان فيهم من هو عند الله تبارك وتعالى معذور؛ فأمره إلى الله. وما قرَّرناه من أن رحمة الله سبقت غضبه لا يتنافى مع هذا؛ لأن أحكام الدنيا لابد أن تقام، ودين الله لابد أن يُنصر، ولا بد أن تُقام الحدود، ولو أننا لا نجاهد ولا نقيم الحد إلا على من علمنا يقيناً أنه في باطنه عرف الحق وبلغه، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))[البقرة:286]، وإنما أمرنا أن نتخذ الأسباب، ثم بعد ذلك هؤلاء أمرهم إلى الله سبحانه.
    2. قتل المبتدع واستتابته

      ثم ذكر المصنف رحمه الله الحكمة من عقاب المبتدع فقال: [لمنع بدعته]، أي: يُعاقب لمنع بدعته.
      ثم قال: [أو أن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه].
      وهذه العبارة فيها إجمال فلابد لها من التفصيل، من ذلك أن يقال: ما حكم المبتدع؟ نقول: حكم المبتدع التفصيل، فمن المبتدعة من يقتل، ومن المبتدعة من يُهجر، بحسب الأحوال وبحسب المقالات، وكل ذلك له أصل من السلف.
      فأما قتل المبتدعة، فهذا أصلٌ مشهور قائم عند السلف، يدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، وأجمعت الأمة على استحقاقه للقتل، وأثنت على من قتله على بدعته، فمنهم مثلاً: الجعد بن درهم، وكفعل علي رضي الله تعالى عنه في قتل السبئية الذين قالوا له: أنت الله، ولم يختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك، وكذلك قتاله رضي الله عنه للخوارج، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم عليه، لكن الأمر فيهم مختلف عما نحن فيه، فذاك قتال لا قتل، وفرق بين القتال والقتل، فالقتل لمعين، ومثاله الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، والحلاج، والقتال لجماعة، وتقدم الكلام عليه.
      والحاصل أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد، أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب؛ وقد تعرضنا فيما مضى لهذه المسألة في حكم توبة الزنديق، ورجحنا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله وهو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الزنديق يُقتل ولا تقبل توبته.
      والذي نريد أن نقوله: إن المبتدع يجوز أن يُقتل رأساً من غير استتابة؛ إذا كان ممن اشتهرت بدعته وظهرت، وكان في قتله مصلحة للدين وللإسلام والمسلمين.
    3. هجر المبتدع

      وهناك عقوبات يعاقب بها المبتدع هي دون القتل، وكثيراً ما تلتبس على طلاب العلم، وهي الهجر؛ وهذا أصل مشهور عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن كيف يُهجرون؟ وما أنواع الهجر؟ وما الأحكام المتعلقة به؟
      للإجابة على هذه الأسئلة نلتقط هذه الدرر الثمينة من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة، فإنه سُئل رحمه الله عن أحكام الهجر، وهو في حق المبتدع أدنى وأخفُّ من القتل، والمبتدع لا يجوز أن يوقَّر: [[من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام]].
  3. أحكام هجر المبتدع

    وهذه فتوى شيخ الإسلام في الجزء الثامن والعشرين (ص:203) من مجموع الفتاوى: "وسُئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بُغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يُبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الردُّ عليه أم لا؟ وهل يستمر البغضُ والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها، أم يكون لذلك مدةٌ معلومة؟ فإن كان له مدةٌ معلومة، فما حدها؟ أفتونا مأجورين".
    وهذا سؤال يدل على فقه سائله.
    1. أنواع الهجر في الشرع

      فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها".
      أي الأول: أن تهجر أنت المنكر وتتركه، والآخر العقوبة، وهو أن تعاقب صاحب المنكر بهجره وقطيعته.
      ومن الأدلة على النوع الأول وهو هجر الشيء بمعنى تركه والابتعاد عنه، مثل قوله تعالى: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:5] والرجز: الشرك، وعبادة الأصنام.
      وقوله صلى الله عليه وسلم: {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه}.
      وهناك علاقة بين الهجر والهجرة في لغة العرب، وعادةً ما يكون اتفاق وتقارب في المعنى اللغوي والشرعي إذا تقارب اللفظان في المبنى.
      وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عدداً من الأدلة فقال: "فالأول هو المذكور في قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68].
      وقوله تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ))[النساء:140]." فالشاهد في الآيتين وجود معنى الهجر، كما قال تعالى: ((فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68].
      قال: "فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة شرعية، مثل: قوم يشربون الخمر فلا يجلس عندهم، أو قوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمْر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره" كأن يكون لا يعلم بذلك "ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله... إلى أن قال رحمه الله: "وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه}، ومن هذا الباب: الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمُقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكِّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:5]"، وهذا النوع واضح؛ لكن ذكره لداعي التقسيم.
    2. هجر المبتدع تعزير له

      ثم ذكر النوع الثاني فقال: "النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يُظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى أنزل الله توبتهم؛ حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيِّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً. فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
      والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، التي ظهر أنها بدع -هذا شاهد موضوعنا- وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون".
      وهذا معلوم بالتواتر عن السلف رحمهم الله، أعني أن أصحاب البدع الداعين إليها لا تقبل شهادتهم، سواء كانوا من أصحاب الكلام أو من الخوارج والروافض، فأياً كانوا فشهادتهم مردودة، ولا يُزَكُّون، فإذا شهد أحد أهل البدع عند قاضٍ فإن شهادته مردودة، كما فعل شريك بن عبد الله القاضي فقد ردَّ شهادة حماد بن أبي حنيفة ؛ لأنه يقول: إن العمل ليس من الإيمان. وكذلك لا يصلَّى خلف أصحاب البدع، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
      قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا" ولهذا يفرِّقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويَكلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم".
      أي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذرين بعد غزوة تبوك، جاءوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم ليرضى عنهم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل أيمانهم، ويعرض عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، وهو يحاسبهم ويجازيهم.
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تُنكر ضرَّت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه} أعاذنا الله من عقاب الله.
      يقول: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".
      وأصحاب المنكرات الباطنة تقوم عليهم الحجة بالنصح والتذكير العام، فلو أنك وقفت في المسجد محذراً من بدعة ومخوفاً منها، والمستمعون أمامك فيهم من يعلم في نفسه أنه معتقد لهذه البدعة، فقد قامت عليه الحجة في نفسه، وهذه هي فائدة التذكير العام، وكذلك لو تكلمت في مسجد من المساجد عن شر الزنا وخطره وضرره، فكل جالس همَّت نفسه بالزنا، فأنت قد خاطبته وأقمت عليه الحجة، وهذا هو بالنسبة لمن يفعل المعصية سراً ويكتمها، أما المعلِن المجاهر فله حكمٌ آخر.
  4. اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية

    يقول شيخ الإسلام: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين".
    وهذا من الحكمة في الدعوة، ولكن ما أكثر ما تُظلم هذه الحكمة! حتى إذا جئت ونصحت أحداً من الناس، قالوا: لابد أن تكون النصيحة بالحكمة، والحكمة عند بعض الناس أن تسكت ولا تنكر، وليس الأمر كما يظنون، بل الحكمة أن تتخذ الوسيلة المناسبة، والموقف الصحيح من المنكر، حسبما يقتضيه الحال وفقاً للدليل.
    يقول رحمه الله: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلَّتهم وكثرتهم".
    إذا كان الهاجر قوياً، كأن يكون عالماً معتبراً له شأن في المجتمع وقال: هجرت فلاناً ولا أسلم عليه؛ لأن فيه بدعة أو لأن فيه معصية، فهذا ليس مثل من يهجره إنسان لا يبالى به.
    1. اختلاف الهجر بقوة وضعف الهاجر والمهجور

      سُئل الإمام أحمد عن هجر من يقول: إن القرآن مخلوق؟ قال: إن أهل خراسان لا يقوونهم.
      يعني: نحن في بغداد نستطيع أن نهجر من يقول إن القرآن مخلوق، لكن أهل السنة في خراسان لا يقدرون؛ لأن البدعة غلبت عليها، والأهواء استحكمت فيها.
      وأيضاً: لما سُئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن القدرية، كما قال شيخ الإسلام : "لما سُئل عن القدرية وعن الحديث عنهم قال: لو تركنا الحديث عن القدرية لتركنا عامة حديث أهل البصرة ". يعني أن بدعة القدر انتشرت فيهم، فإن كان كل من تلبَّس ببدعة القدر ترك حديثه ترك عامة حديث أهل البصرة ؛ لأن البصرة فشا فيها القدر والتصوف؛ والغلو في العبادة والزهد، والكوفة فشا فيها الإرجاء، ولو قلنا: لا نروي عن القدرية، لتركنا عامة رواية أهل البصرة، وإن قلنا: لا يروى عن من تلبس ببدعة المرجئة، فإننا لن نروي عن عامة أهل الكوفة، ولذلك وضع علماء الحديث معياراً منضبطاً لقبول الرواية، وهو الصدق، لذلك روي عن الخوارج، وكان من رواة البخاري وغيره بعض الخوارج كـعمران بن حطان وغيره؛ لأن الخوارج لا يكذبون، والكذب عندهم كفر، وليس مجرد معصية، وبالعكس تُركت الرواية عن الروافض، فلا تجد على الإطلاق رافضياً داعيةً من رواة الصحيح، لا من قيل عنه: فيه تشيُّع، والروافض لا تجد أحداً زكَّاهم أو وثَّقهم أو روى عنهم أحد ممن يشترط الصحة في كتابه؛ لأنهم يستحلون الكذب.
    2. اختلاف الهجر بانزجار المهجور وعدمه

      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن المقصود به" يعني: الهجر "زجر المهجور وتأديبه"، أي إنما نهجر من يهجر من مبتدع وعاص لكي نزجره ونؤدبه، ولكي ترجع العامة عن مثل حاله، وحتى لا يقلِّده الناس ويتَّبعوه.
      يقول رحمه الله: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشرّ وخفيته كان مشروعاً".
      أي: إذا كان هجر هذا الإنسان يؤدي إلى تخفيف الشر أو إلى إضعافه فعلناه.
      قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر"
      ومثال ذلك: لو أن طالباً طلب العلم، ثم ذهب إلى أهله في بادية بعيدة، أو ذهب إلى أهله في بلدٍ من البلدان التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع، فلنهجرهم، فهجر أمه وأباه، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه: "بل يكون التأليف لبعض الناس، أنفع من الهجر" أي: بأن تتألفه على الحق بحسب ما فيه من الخير، ومن العلم والفهم.
  5. الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين

    1. هجر الثلاثة المخلفين وتألف الأعراب

      يقول رحمه الله: "والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألَّف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم".
      أي: أن الثلاثة الذين خلِّفوا لن يرجعوا عن الدين مهما كان، بل الهجر يزيدهم خوفاً، كما كان واقع حالهم من بكائهم، وما غشيهم من الهمِّ والكرب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في وجوههم، وهجرهم أحبُّ الناس إليهم ممن يعرف صدقهم وإيمانهم، ومع ذلك لم يزدهم ذلك إلا خوفاً وخشيةً وطمعاً في توبة الله عليهم، ولما أرسل ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك يرغبه باللحاق به، سجر بكتابه التنور، فأمثال هؤلاء لا يخشى عليهم.
      لكن المؤلَّفة قلوبهم، لو أغضبوا أو هجروا فإنهم قد يرتدون؛ لأن ضعيف الإيمان يستجيب لعدوه وعدو دينه؛ لأنه قابل للفتنة، لذلك لا يهجر؛ بل يتألف حتى يدخل في الإسلام أمثاله من المؤلفة قلوبهم، أما من كان حاله كحال هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم فالواحد منهم يعرف الحق ويعلمه، فيعاقب ليرتدع ويرتدع أمثاله من المؤمنين.
      أما المؤلفة قلوبهم فيتألفون، فمثلاً لو سمع الأعراب بأن شيخاً من مشايخ بني تميم أو غيرهم أُعطي مائة ناقة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري، فستجد كل شيخ من شيوخ الأعراب.. يقول: نسلم لنأخذ مثلهم، فيدخل في الإسلام وتُسلم القبيلة، وربما هدى الله تعالى القبيلة أو كثيراً منها عن إيمانٍ ويقين، وإن كان الشيخ أسلم من أجل الشاة والبعير والدرهم والدينار، ثم يصلح الله حاله ويحسن إيمانه، فهنا تحصل المصلحة للإسلام والمسلمين بهذا التأليف بخلاف الهجر.
      قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم، لمَّا كان أولئك سادةً مطاعين في عشائرهم، فقد كانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين وتطهيرهم من ذنوبهم". يعني: أن الثلاثة وأمثالهم كان في هجرهم عز للدين، وتطهيرٌ لهم من الذنب، فعز الدين بأن يشعر الناس أن هذا الدين متين، وأن هذا الدين ليس لكل من ادعاه، وليس بالنفاق ولا بالدعاوى ولا بالشعارات الزائفة، وإنما هو جهاد وصبر وتضحية، إذ كيف يرغبون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يتخلفون عن ركبٍ يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركون الجهاد معه؟! فهجر هؤلاء فيه مصلحة للمؤمنين.
    2. قتال الكفار وتركه حسب المصلحة في العهد النبوي

      يقول رحمه الله: "وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمهادنة تارةً، وأخذ الجزية تارةً، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".
      وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً يمثل بالمثال الآتي، وذلك لأن واجب العلماء والدعاة مثل واجب المجاهدين. ونذكر كلامه رحمه الله للفائدة، يقول رحمه الله (28/188): "ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم". أي: قد يكون الأفضل في قتال العدو هو الإثخان في الأرض والقتل، كما في يوم بدر، فهذا كان الأفضل، وهو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ فقال: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ))[الأنفال:67]، وقد تكون المهادنة أو المصالحة أفضل، كما كان ذلك في عام الحديبية، وأخذ الجزية قد يكون أفضل، وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع بعض أهل الكتاب؛ فإن أهل الكتاب إذا عقد لهم عقد الذمة وأخذت منهم الجزية، أتيح لهم أن يسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه؛ وهم يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، كما في كتابهم، وعندهم قابلية للتديُّن، لكنهم يتدينون على ضلال، فلو سمعوا الحق لآمنوا وأذعنوا، فتكون المصلحة في أخذ الجزية منهم.
    3. قصة نور الدين زنكي في أسر ملك الألمان والعمل بالمصلحة

      والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
      إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كـأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
      الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لـأهل السنة، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بـخراسان والتشيع في الكوفة، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
      فقد فرق الإمام أحمد، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
      يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.
  6. الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا عُرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره".
    وهذان شرطان في قبول كل عمل من الأعمال، وهما: الإخلاص، والموافقة للسنة.
    يقول رحمه الله: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمورٍ به، كان خارجاً عن هذا". أي فالذي يجب على الإنسان ألا يعمل العمل إلا لله، إن هجر فلله، وإن أحب فلله، وإن أبغض فلله.
    وإن مما ينبغي التنبه له: أن كل داعية قد يُبتلى ويُمتحن ويُؤذى، فإياك إياك أن تجعل ما ابتليت به أو أوذيت به هو المعيار في العداوة، أي: أن تعامل أحداً بشر لأنه آذاك أو أساء إليك، وإن كانت النفوس مفطورة على هذا، لكن اجعل المعيار هو أن تكون محبتك وعداوتك لله، فلا تظلم منهم أحداً ولا تحيف عليه وإن كان ظالماً لك، بل اجعل غضبك لله تعالى، ودعوتك إلى الله تعالى، فتجرَّد من حظ النفس ومن هواها، واجعل هواها وحظَّها تبعاً للحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أقام الدين ونصره فأحبه ولو آذاك في حقك أو ظلمك في نفسك؛ لأنه نصر الحق وأظهر الله به الدين، ومن كان غير ذلك وإن أحسن إليك في نفسك؛ فإنه لا يجوز لك أن تحبه أو أن تداهنه في دين الله.
    1. هجر المؤمن أخاه لحقه

      هل يعني ذلك أن الإنسان لا يهجر لحظ النفس، كمن ظلمه، أو كذب عليه، أو أخذ حقه شخص ثم أنكره؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بالحنيفية السمحة}، وعليه فلا تهجر من ظلمك؟!
      الجواب: لا. بل تهجره، أما شريعة الإنجيل فتقول: (من سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه الإزار). وهذا ليس من شريعة الإسلام، بل قال الله: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا))[الشورى:40] لكن... ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه))[الشورى:40] فالشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والعفو، فمن حقك أن تعاقب من ظلمك، وذلك حتى لا تحمل النفس على خلاف ما جبلت عليه من حب الانتقام، وذلك ربما أدى بها إلى النفور من الأوامر الشريعة، فأجاز الله للمرء أن يأخذ حقه ممن اعتدى عليه، وله أن يهجره ثلاث ليال، وهي كافية للقلوب المؤمنة أن تمحو أثر الخطأ والظلم، أو الغضب والانتقام الذي يقع في النفس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} قوله: (وخيرهما) أي: خير المتخاصمين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
      يقول بعد كلام له رحمه الله: "وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله".
      أي: كل الأعمال يجب أن تكون لله، والهجر من جنس العقوبات، وأعلى أنواع العقوبات التي يُعاقب بها أعداء الله أن يُقاتلوا فيقتلوا ويسبوا ويُغنموا؛ فيُفعل هذا الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193] فكذلك أيضاً: إن هجرت فيكون الهجر لله، وإن بدَّعته أو فسَّقته أو حكمت عليه، فأيضاً من باب الانتصار لدين الله، حتى يكون الدين كله لله.
      ويقول رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ))[الحجرات:9-10].
      فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم".
    2. المحبة والبغض للمرء حسب ما فيه من خير وشر

      ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
      أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.
      فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
      يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".