يقول
ابن القيم رحمه الله: "لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى"، فالمحبة كل يدعيها، حتى
البراهمة و
البوذيون والنصارى، كلهم يقولون: نحن نحب الله، ولذلك يضحون بالأموال والأولاد والزوجات، ويهيمون في الغابات عراة، بدافع محبة الاتحاد بالإله (براهما)، لتتصل أرواحهم به كما يزعمون.
قال رحمه الله: "فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي" يعني: كما أننا في جانب الأحكام والقضاء نعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: {
لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر}، فلابد من البينات، فما البينة في باب الإيمانيات والعبادة؟
قال: "فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة: ((
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31]" هذه هي البينة، وبغير هذه البينة فالدعوى باطلة، فليدع من شاء ما شاء، لا نقبل دعواه إلا بالاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ))[آل عمران:31] أي: إن زعمتم ذلك فاتبعوني، وكل من بعث فيهم صلى الله عليه وسلم يدَّعون ذلك، لا أحد يقول: أنا أكره الله، حتى كفار قريش يعظمون بيت الله، ويطعمون الحجاج، ويسقونهم، وحتى النصارى واليهود: ((
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ))[المائدة:18] فالدعاوى كثيرة، لكن: ((
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي))[آل عمران:31] ونتيجة ذلك: ((
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31]، فلا تكون النتيجة أنكم صادقون في المحبة فقط، بل تكون النتيجة أن الله تعالى يحبكم؛ فتكون المحبة من الطرفين من جهة أنكم أحببتموه فأحبكم بسبب اتباعكم للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: "فتأخر الخلق كلهم" وانظر كيف يصور القضية: "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب" صلى الله عليه وسلم، وممن يدخل في هذا التأخر
البوذيون والنصارى واليهود والمشركون، لأنه ليس عندهم بينة.
"فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة"، وهذا تصوير بديع، وأسلوب رفيع، فهؤلاء الشهود لابد من تزكيتهم، لتعرف عدالتهم.
قال: "فطولبوا بعدالة البينة بتزكية: ((
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]" يشير رحمه الله إلى قوله تعالى: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ))[المائدة:54] ما صفتهم?!
((
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))[المائدة:54] هذه أول صفة لهم.
والثانية: ((
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ))[المائدة:54].
والثالثة: ((
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]
قال: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون" ففي المرة الأولى تأخر كل الخلق إلا الأتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي المرة التالية تأخَّر أكثر المحبين، وبقي المجاهدون، والجهاد هنا بمعناه العام الذي منه الجهاد بالسيف، ومنه الجهاد الكبير (جهاد الدعوة) قال تعالى: ((
وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا))[الفرقان:52] هؤلاء المجاهدون هم القائمون بأمر الله، الوارثون لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم"، إنما هي لمن يحبون، إن كانوا صادقين على الحقيقة في الحب، ولذا قيل لهم: "فهلموا أيها المجاهدون إلى بيعة: ((
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ))[التوبة:111].
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأناً. فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس. فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار. وقالوا: (والله لا نقيلك ولا نستقيلك).
فلما تم البيع وسلموا المبيع، قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معاً ((
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ))[آل عمران:169-170]."