من منهج أهل السنة والجماعة: عدم الحكم على المعين أو تكفيره إلا بوجود شروط وانتفاء موانع، ومن موانع التكفير: الجهل، ومما يدل عليه حديث حذيفة المبين لحال الناس في آخر الزمان، وحديث الرجل الذي شك في قدرة الله وأوصى أولاده أن يحرقوه بعد موته، وحديث عائشة حين جهلت أن الله يعلم ما يكتمه الناس في صدورهم.. وغير ذلك من الأدلة.
  1. أثر الجهل في التكفير

    ما زلنا في موضوع الحكم على المعين بالتكفير أو التضليل أو التفسيق أو التبديع ونحو ذلك، وأن الحكم على المعين يختلف عن الحكم العام.
    فمن ذلك ما ذكره المصنف رحمه الله من أن المعين قد يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أو يكون جاهلاً, أو يكون له إيمان عظيم وحسنات، فهذه ثلاثة احتمالات.
    وحديث الرجل الذي أوصى بحرقه إذا مات وذره إنما يُحْمَل على الجهل، أي أنه يناسبه قول المصنف: [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص] فهذا أقرب ما يمكن حمله عليه، فإن كان يعلم لكنه جهل هذا،فالمقصود هو العلم الحقيقي لا أي علم.
    وكنا قد وصلنا في شرح كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفتوى التي سئلها عن الذين يداومون على الرياضة حتى يتجوهروا إلى قوله(11/406): "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة".
    1. بلوغ الحجة شرط في المؤاخذة والتكفير

      فقوله: "فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة" يعتبر قاعدة مهمة ومعياراً يقاس به.
      يقول: "كما قال تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وقال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15]".
      يقول رحمه الله: [ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلم أن الصلاة واجبةٌ عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا].
      لا يَكفُر ولا يُكفَّر بعدم اعتقاده أن الصلاة واجبة أو أن الخمر محرم، وهاتان القضيتان من أظهر الأمور؛ لأن من أشهر وأظهر الواجبات: الصلاة، ومن أشهر وأظهر المحرمات: الخمر، وشيخ الإسلام رحمه الله دقيق في عبارته، لذلك عدل عن الزنا إلى الخمر؛ لأن الخمر تنفر منه النفوس السليمة وإن لم تكن متدينة، أما الزنا فإن الشهوات تدعو إليه، ولا يرتدع عنه إلا من كان يخاف الله، أو من لا يستطيعه.
      المقصود: أن واجباً معلوماً ظاهراً وهو الصلاة، ومحرماً معلوماً ظاهراً وهو شرب الخمر، من لم يعلم وجوب هذا وحرمة ذلك جاهلاً به، فإنه لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
      يقول: "بل ولا يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
      قوله: "لا يعاقب" أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.
      أما في الدنيا: فمعلوم أنه لا يعاقب وهو لا يَعلَم، لكن يُعلَّم.
      وأما في الآخرة: فلدلالة ما تقدم من الآيات مع ما ذكرناه في حديث الأربعة الذين يمتحنون يوم القيامة.
    2. حكم من أسلم بدار حرب وما علم أن الصلاة واجبة

      يقول: "بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة، ثم علم".
      هذه مسألة تتفرع عن تلك المسألة، فإذا أسلم رجل في دار الحرب كـأمريكا أو بريطانيا أو الصين أو يوغسلافيا، وهو لا يعلم أن الصلاة واجبة، لأنه إنما أسلم بأن وجد شخصاً فعلَّمه الإسلام، أو وجد كتاباً فقرأ في هذا الكتاب أن الإسلام عقيدة صحيحة، وأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق، فآمن بالله وآمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن القرآن حق والإيمان حق؛ لكن ما علم أن هناك صلاة ولا صياماً، وبقي شهراً أو سنةً، ثم وجد شباباً مهتدين دعاةً إلى الله فعلَّموه الصلاة، وأنها واجبة، فهل يقضي المدة التي لم يصلّ فيها؟
      يقول شيخ الإسلام : "اختلف العلماء: هل يجب عليه قضاء ما تركه بحال الجهل، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:
      أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة :
      والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ".
  2. اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه

    يقول: "بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجباً قبل بلوغ الحجة".
    1. أمثلة لترك الواجب من الجاهل

      قال: "مثل من ترك الصلاة عند عدم الماء، يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم":
      وهذا حكم آخر غير الحكم الأول، فالأول لا يعلم وجوب الصلاة أصلاً، وهذا يعلم وجوب الصلاة لكن يظنها لا تجب إذا لم يجد الماء.
      قال: "أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيحسب أن ذلك هو المراد بالآية، يعني قوله تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ))[البقرة:187]".
      وضع حبلين أحدهما أسود والآخر أبيض، وقعد ينتظر حتى يميز بينهما وقد طلع الفجر، لكنه يظن جواز الأكل حتى يتبين له الأبيض من الأسود، فهل يقضي أو لا يقضي؟
      وهذا أمر وقع لبعض الصحابة، وهو عدي بن حاتم، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك -إذاً- لعريض الوساد}.
      قال ابن تيمية :"أو مسَّ ذكره، ثم تبين له وجوب ذلك".
      أي: كان يعتقد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، ثم تبين له وجوب ذلك على الخلاف الفقهي، بأن ترجح لديه بعد حين أن القول الصحيح هو أن من مس ذكره فليتوضأ.
      يقول رحمه الله: "وأمثال هذه المسائل: هل يجب عليه القضاء؟".
      وكذلك لو أن رجلاً قرأ أو علم أن الله شرع التيمم؛ لكن جهل كيف يتيمم فتمرغ كما تتمرغ الدابة، فصلى بهذا شهوراً أو أسابيع أو أياماً، وهكذا غير ذلك من الأحكام.
    2. ذكر الخلاف في حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه

      والمقصود من هذه الأمثلة أن هناك خلافاً فيمن وقع في مثل هذه المسائل، وهو المكلف الذي ترك واجباً قبل بلوغ الحجة، ثم بلغته الحجة هل عليه القضاء؟
      يقول: "على قولين في مذهب أحمد وغيره، وأصل ذلك هذه المسائل الأصولية". يعني من علم الأصول لا من أصول الدين، والمسألة الأصولية هي ما ذكره بقوله:
      "هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ أو لا يثبت إلا بعد أن يتمكن من سماعه؟!"
      قال: "على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره":
      فالقول الأول: "قيل: يثبت مطلقاً" وذلك على القول بأن الله تعالى إذا خاطب العباد بشيء، فإنه يثبت في حق جميع المكلفين وإن لم يبلغهم.
      والقول الثاني: "وقيل: لا يثبت مطلقاً".
      أي: لا يثبت حتى يتمكن من سماعه ويبلغه، فيكون بلوغ الحجة شرطاً للوجوب كما سيأتي.
      والقول الثالث: "وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة"
      أي: استدلالاً بمسألة نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وقد جاء خبر النسخ بعض الصحابة وهم يصلون، فتحولوا إلى الكعبة ولم يقضوا تلك الصلاة، ومعلوم أن النسخ كان قبل أن يبدءوا فيها؛ لكنهم لما كانوا ثابتين على حكم شرعي لم يجب عليهم.
    3. الراجح عدم المؤاخذة قبل بلوغ الخطاب

      يقول شيخ الإسلام : "والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية، أن الخطاب لا يثبت في حق أحدٍ قبل التمكن من سماعه".
      وهو القول الثاني من الأقوال الثالثة، ومن الحجة له أنه كيف يثبت الخطاب في حق أحد وهو لم يسمعه؟ والوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الكثيرة تشهد وتدل لهذا القول بعد أن يبلغه، فإذا لم يبلغ المكلف الخطاب بقي على البراءة الأصلية، فلا يجب عليه شيء، وعليه قال شيخ الإسلام :
      "فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها"، فإذا جاءنا شخص وقال: كنت لا أدري أن الصلاة واجبة، قلنا له: صل من حين علمت وجوبها، ولا يجب عليك قضاء ما قبل علمك بوجوبها.
      وآخر كان يترك الصلاة لعدم وجود الماء ولم يبلغه حكم التيمم، أو تيمم على غير الكيفية المشروعة، والآخر كان يأكل في رمضان حتى يتبين له الحبل الأبيض من الأسود يفسر الآية بذلك جهلاً، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجب عليه القضاء، وكل هذه الصور قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً ممن وقع له ذلك بالقضاء، وهذا دليل صحيح صريح على أنه لا يثبت حكم الخطاب في حق أحدٍ إلا بعد تمكنه من سماعه، وقيام الحجة عليه.
      ويدخل في هذا أيضاً: لو أنه بلغه النص ولكن لم يفهم منه الوجوب، كأن فهم منه الندب مثلاً، أو فهمه على غير وجهه، فإنه أيضاً لا يجب في حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بأن نطيعه في حدود ما نعلم أنه شرعه، فمن لم يعلم أن الله شرع هذا فلا يؤاخذ به.
      ما سبق يذكرنا بما يحدث هذه الأيام من الفتوى، ونذكر ذلك لشدة الحاجة إليه، ولخطأ من يفتي في هذه الأيام -وهم كثيرون مع الأسف-! يفتون أن من تاب وعمره أربعون سنة أو ستون أو أكثر، ولم يكن يصلي ولا يصوم قبل ذلك؛ بأن عليه أن يقضي جميع الصلوات التي فاتته، وصيام جميع شهور رمضان التي فاتته، وهذه الفتوى تجعل التوبة أمراً عسيراً، مما ينفر الناس عن التوبة!
      والصحيح أنه لا يقضي، لكن هل ذلك لأنه لم يبلغه الحكم مثلما قلنا هنا؟
      الجواب: ليس انتفاء وجوب القضاء لكون الحكم لم يبلغه، بل لأنه كان كافراً حيث لم يكن يصلي، والآن نقول له: أسلم حقيقةً، وصلِّ، فإذا ابتدأ الصلاة فقد استأنف الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان في حال الردة فإنه لا يجب عليه أن يقضيه.
  3. ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل

    يقول: "مع اتفاقهم على انتفاء الإثم"
    أي أن الفقهاء عامةً من الصحابة وغيرهم اتفقوا على انتفاء الإثم، ولكن الخلاف في وجوب القضاء.
    والحاصل مما ذكرنا، أنه لا يقضي من الناحية الحكمية والفقهية على الصحيح الراجح، وأيضاً لا يؤاخذ من الناحية الأخروية.
    فيقول: "مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان" قال تعالى: ((رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا))[البقرة:286].
    فاستجاب الله لهم أن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطئوا، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية.
    يقول: "فإذا كان هذا في التأثيم، فكيف في التكفير؟" أي: إذا كان لا يأثم ولا يقضي، فكيف نقول: إنه يكفُر؟!
    ثم يعلل لذلك رحمه الله، ويقول: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثيرٌ من علوم النبوات".
    بهذه المناسبة لـشيخ الإسلام رحمه الله كلام قريب من هذا المعنى وأكثر وأوسع في تفسير سورة الإخلاص أيضاً، وموجزه: أنه قد توجد أمكنة أو أزمنة يندرس فيها كثير من علوم النبوات، فآثار النبوة تمحى وما أكثر ذلك! والجاهلية المطلقة لا تقع بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لأن الله تعالى تأذن وتكفل: أن لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ظاهرة لا يضرها من خالفها؛ لكن هناك جاهلية مقيدة في زمانٍ ومكان تكون آثار النبوة عنه غائبة، يقول رحمه الله عن مثل ذلك:
    "حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يُعلم كثيرٌ مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر".
    أي: أنه قد يوجد مسلمون -وهذا موجود في كل الأزمنة- لكن في مناطق نائية بعيدة لم يجدوا من يبلغهم دين الله الحق، فلا يعرفون من الإسلام إلا بعض الأمور كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو يصلي، أو يعرف أن الحج واجب، وهذا ظاهر في كثير من الحجاج، لكن إذا جاء لا يدري بأعمال الحج، فعنده شعور وعاطفة فأحب أن يحج، لكن لا يعرف ما هو الحج، ويجهل هذه الأمور جميعاً.
    1. ذكر حديث حذيفة ودلالته على انتفاء الإثم بالجهل

      يقول: "ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: {يأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون به صلاةً ولا زكاةً، ولا صوماً ولا حجاً، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاةً ولا زكاةً ولا حجاً، -فقال:- ولا صوم ينجيهم من النار}".
      هذا حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ويبدو لي أن فيه خطأ من المطبعة؛ لأن الحديث يقول فيه الراوي صلة بن أشيم لـحذيفة رضي الله تعالى عنه: {فما تنفعهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاةً ولا زكاةً؟ قال: تنجيهم من النار}.
      هذا يكون في آخر الزمان؛ لأن الإسلام يدرس كما يدرس وشي الثوب الخلق، فلا يبقى من آثاره شيء، إلا أن الشيخ الكبير أو المرأة الكبيرة، يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا وهم يقولون هذه الكلمة، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان أو ذريتنا!
      وفي الحديث الآخر: {لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله} أي: لا يُعرف الله عز وجل ولا يذكر.
    2. مذهب السلف فيمن ترك الصلاة والصيام والحج

      وأهل ذلك الزمان يتسافدون كما تتسافد الحمُر في الطرقات، وذلك لانتشار الجهل، فتنتشر الفواحش والمنكرات، ولا توجد مساجد ولا تقام الصلوات، ومع ذلك فإن هؤلاء لا يكفُرون، لأنه قال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟} وهذا السؤال يدل على أنه من المتقرر عند الصحابة والتابعين، أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج فليس بمسلم، ولذلك تعجب التابعي فقال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار} ولم يقل: تدخلهم الجنة؛ لأن الأصل قبل ذلك: أن من ترك هذه الأمور أنه مؤاخذ، فالأصل المؤاخذة، فتنجيهم من النار، سواء تنجيهم بمعنى أنهم لا يدخلونها، أو أنهم يعاقبون، ولا تنافي بين ذلك، فقد يكون حجب العلم عنهم نتيجة ذنوب ومعاصٍ أجرموها هم أو آباؤهم.
      والمقصود أن لفظ: (تنجيهم) محتمل الأمرين: تنجيهم من النار وتدخلهم الجنة، أو تخرجهم منها بعد أن يعذبوا فيها.
      فالمقرر عند السلف أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ليس بمسلم، ولذلك استنكر التابعي ذلك في حق قوم لم يدروا ولم يسمعوا إلا الشهادتين، فكيف بمن يسمع الأذان كل وقت حتى في الإذاعة والتلفاز في وقت كل صلاة، ويرى الناس يصومون، ويسمع عن الحج كل عام، ومع ذلك لا يصوم ولا يصلي ولا يحج؛ لكن يسهر إلى آخر الليل، ثم ينام إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ثم يذهب إلى العمل ويرجع بلا صلاة ولا صوم، ولا عنده شيء من الدين، هل هذا يكون مسلماً؟!
    3. حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة

      ثم إن حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة وعدم خلوده؛ فكيف نقول: إن تارك الصلاة الذي يسمع الأذان ويعلم الوجوب، ويرى الناس يغدون ويجيئون إلى بيوت الله، ومع ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من ذلك، أيكون هذا مسلماً أو ينجو من النار؟!
      لا يمكن ذلك.
      فإذا كان هذا في حق من كانوا في آخر الزمان، فكذلك -كما يقول شيخ الإسلام - من نشأ ببادية بعيدة، أو منطقة مغمورة لم تظهر فيها آثار النبوة؛ فإنه لا يؤاخذ حتى يبلغه ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
  4. ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً

    يقول: رحمه الله: "وقد دل على هذا الأصل".
    الذي هو عدم المؤاخذة.
    "ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال رجل -لم يُعجِّل حسنة قط- لأهله: إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبنه أحداً من العالمين، فلما فمات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلتَ هذا؟ قال من خشيتك يا رب، وأنت أعلم! فغفر الله له}"، ثم ذكر لفظاً آخر وروايات أخر.
    1. بيان أن الرجل أنكر القدرة والمعاد

      قال رحمه الله: "فهذا الرجل: ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق"، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، فوقع هذا الرجل في أمرين عظيمين: حيث ظن أنه إذا تفرق لن يقدر الله عليه، وظن بناء على ذلك أنه لا يعيده، أي: لا يبعثه.
      قال رحمه الله: "وكل واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت؛ كُفر".
      فـشيخ الإسلام رحمه الله يقول: هذا الرجل وقع في مصيبتين:
      الأولى: إنكار القدرة.
      والثانية: إنكار المعاد.
      فيقول: "لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك"، أي فهذا مؤمن أسرف على نفسه ولم يعمل خيراً قط، ولكن أيقظ الله قلبه في تلك اللحظة، ولكنه غلا في الخوف حين وجد أنه في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، ولا يستطيع أن يتقدم ولا يتأخر عن ذلك، وأمامه صفحة سوداء ملطخة بالذنوب والمعاصي، وهو يخشى عذاب الله، ويريد أن ينجو من العذاب بأي وجه، فوقع في هذه المشكلة؛ حيث غلا في الخوف، وظن الحل والخلاص فيما ليس بحل ولا خلاص، بل هو وقوع في مصيبة أو مشكلة أخرى، وهكذا حال كثير من الناس إلا من مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، وليس كل من حَسُن دافعه أو رغبته يصيب الحق، ويحسن التصرف والتدبير في الأمر.
      يقول: "ولكنه كان مع ذلك جاهلاً ضالاً في هذا الظن مخطئاً؛ فغفر الله له ذلك".
      قال: "والحديث صريح بأن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر؛ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره، وهو بيِّن".
      أي أن من شك في المعاد وأقيمت عليه الحجة حكم بكفره.
    2. ذكر بعض التأويلات المخالفة لظاهر الحديث

      قال: "ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي، بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيَّق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه".
      أي أن بعض العلماء أوَّل هذا الحديث، وذلك على أقوال:
      الأول: أن قدر بمعنى قضى.
      الثاني: أنه بمعنى ضيق.
      الثالث: أنه غلط في اللفظ، مثل الرجل الذي قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك}.
      الرابع: قال ابن الجوزي : إنه كان في زمن الفترة.
      والخامس: أنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر. وهذا بعيد.
  5. دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه

    فذكر شيخ الإسلام أن من تأول الحديث، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، وسيرد رحمه الله على من تأول الحديث من وجوه:
    1. الترتيب بين الجملتين بالفاء يدل على السببية

      الوجه الأول: قال: "فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا متُ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذِكْر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنها سبب لها" فالجملة الثانية هي سبب أمره بالحرق وغيره مما ذكر في الجملة الأولى. يقول: "فهو فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة". أي أنه إذا كان مقراً بأن الله يقدر على هذا وهذا فما الفائدة؟! لكن هو يرى أنه لو دفن بجثته فسيقدر الله على أن يبعثه، فإذا أحرق وسحق فلن يقدر الله عليه، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في قدرة الله على إعادة الإنسان. فالوجه الأول أن التأويل يتنافى مع لفظ الحديث في الترتيب والتعقيب.
    2. المغايرة بين تفريقه وأن يقدر الله عليه

      الوجه الثاني: قال: "ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب". أي: إذا كان (لئن قدر عليَّ) بمعنى: ضيق، أو بمعنى: قضى وحكم علي بالعذاب، فذلك هو العذاب نفسه. قال: "فقد جعل تفريقه مغايراً لأن يقدر الرب عليه، ولهذا قال: فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني، فلا يكون الشرط هو الجزاء، فهو يقول: أنا أوصي بتفريقي حتى لا يعذبني" وعلى قولهم يكون كأنه قال: لئن عذبني الله ليعذبني، وليس هذا مراداً.
    3. لو كان معنى (قدَر) قدَّر أو ضيق لما لجأ إلى كلمات بعيدة وعامة

      الوجه الثالث: يقول: "ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني". لو كان قصده ما قيل إنه بمعنى ضيَّق أو بمعنى قدَّر عليَّ العذاب، لقال: يا أبنائي افعلوا هذا، فوالله لئن جازاني ربي ليعذبني عذاباً شديداً، ولم يقل: لئن قدر علي، فتكون القدرة والتقدير خارجين عن المقصود، "كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك" يعني فالناس عادةً لا يلجئون إلى خطاب بعيد المعنى مع إمكان الخطاب بخطاب معروف واضح، وهذا الرجل لم يكن في مقام بلاغة، حتى يأتي بالمعاني البعيدة، بل في مقام موت، يريد أن يقول لأولاده شيئاً واضحاً سهلاً يفهمونه.
    4. لفظ (قَدِرَ) بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة

      قال: "ولأن لفظ (قَدرَ) بمعنى ضيّق لا أصل له في اللغة".
      شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبحرُّه وتوسُّعه في لغة العرب معروف، فقد جاء إليه مرة أبو حيان، بـكتاب سيبويه، وبدأ يفتخر به على شيخ الإسلام، فقال له شيخ الإسلام : اسكت، فإن في كتاب سيبويه ثمانين خطأً.
      فقد كان رحمه الله حجة في اللغة.
      يقول: "ومن استشهد على ذلك"، أي على أن قدَّر بمعنى: ضيق، "بقوله: ((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ))[سبأ:11]، وقوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ))[الطلاق:7] فقد استشهد بما لا يَشْهَد له فإن الله قال: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ))[الطلاق:7]، وكما قال عز وجل: ((وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ))[سبأ:35-36]، وقال في آية أخرى: ((وَيَقْدِرُ لَهُ))[العنكبوت:62].
      يقول شيخ الإسلام: يقدر هنا ليس معناها: التضييق، فليس المعنى: ومن ضُيِّق عليه رزقه، يقول: "فإن اللفظ كان في قوله: ((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ))[سبأ:11] معناه: اجعل ذلك بقدْر ولا تزد ولا تنقص" أي: وليس معنى ((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ))[سبأ:11]: ضيِّق؛ لأنهم قد يقولون: تضييق السرد أدعى إلى الإحكام، لأنه عندما يكون الدرع مخلخلاً لا يكون كما إذا كان مشتبكاً محكماً، وعليه فالتقدير يكون بمعنى: التضييق، هذه وجهة نظرهم.
      شيخ الإسلام رحمه الله يقول: معنى قدِّر: اجعله بقَدْر معين ولا تزد ولا تنقص.
      أي: التزم مقداراً معيناً، لا تزد عليه ولا تنقص منه، وذلك أدعى إلى الإحكام والضبط.
      يقول: "وقوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ))[الطلاق:7]: أي: جُعل رزقه بقدر ما يكفيه من غير فضل، بحيث لو أنفق منه لاختل" فهذا دخله على قدْر ما يقيم نفسه وأولاده، ولو كان أقل من ذلك لأصبح من غير أهل الكفاية، وصار مسكيناً أو فقيراً فيعْطَى من الزكاة.
      يقول: "إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش".
      يعني: بمقدار لو نقص عن هذا المقدار لم يعش، فالله سبحانه وتعالى يرزق العباد جميعاً؛ فيرزق بعضهم رزقاً واسعاً، ويرزق البعض الآخر بحيث يكون على أدنى الكفاية، كما في قوله: ((قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر))[سبأ:36].
    5. تأويل لفظ (قدر) بمعنى قضى غير صحيح

      الوجه الخامس: قال: "وأما قَدر بمعنى قدَّر أي: أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدَّر عليّ ربي العذاب". فالموضوع ليس له علاقة بالقَدَر، لو كان كذلك لقال الرجل: لئن قدَّر عليَّ ربي العذاب ليعذبني.. يقول: "بل قال: لئن قَدِر عليَّ ربي. والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله عليّ؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره". أي: ولا يصلح أن يقول: لئن قضى الله عليّ؛ لأن القضاء قد كتب، وهو يريد شيئاً يتخلص منه، فيقول: (لئن قَدر) لأنه لا يدري: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما أنه قضى وقدَّر فيما مضى فهذا أمر قد فرِغ منه. يقول: "ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فَعَله مانعاً من ذلك في ظنه". قال: "ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة، ليس هذا موضع بسطها".
  6. بيان أن الرجل الشاك في قدرة الله لم يكن كافراً بل جاهلاً ببعض الصفات

    قال ابن تيمية: "فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من الصفات" أي: إنما كان يعلم بعضها، مثل أن الله شديد العقاب، وأنه مالك يوم الدين يحاسب ويجازي عباده على أعمالهم، وعنده إقرار بأن الله سبحانه وتعالى يحصي على الإنسان ما فعل، أي أنه من خلال هذا الحديث نعرف أنه كان عنده شيء من العلم بالشرع، ولذلك قال: أسرفت على نفسي بالمعاصي، وما عملت حسنة، بل فعلت كل قبيح وخطيئة!
    فإذاً: فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى يشرع لعباده، وأنه ينزل عليهم الأحكام فيأمرهم وينهاهم، وأنه شديد العقاب، وأنه يحاسب، وأنه يحصي على العباد أفعالهم، وغير ذلك.
    فالرجل لم يكن عالماً بجميع الصفات، والشك إنما جاء في صفة القدرة، ولا يتعداها إلى غيرها.
    يقول: "وبتفصيل أنه القادر"، أي أنه كان يعلم اتصاف الله بالقدرة في الأصل، لكن لا يعلم بتفصيل ذلك.
    قال: "وكثيرٌ من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك".
    فكثير منهم إما أن يجهل بعض الصفات، أو يجهل تفصيل بعض الصفات، ولا يكون كافراً بذلك إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الرسالة، فأنكر وجحد ولم يلتزم بذلك.
  7. حديث عائشة في سؤالها عن علم الله بكل شيء ودلالته على عدم المؤاخذة بالجهل

    يقول: "ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه".
    أي: فهذا أصل دلت عليه عدة أحاديث: حديث حذيفة -الذي ذكرناه- في الرجل الذي أوصى أولاده بأن يحرقوه.
    ومن ذلك ما ذكره قال: "كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: {ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى: قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه، فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع ...} ".
    فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ كأنه يتهيأ للقيام.
    قالت: {فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت ...}".
    أي: حتى ظن أن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رقدت، وهي لم تكن نامت، وهذا يدل على أنه كان لا يعلم الغيب، خلافاً لأولئك الذين يكفرون بآيات الله، ويكذبون الله ورسوله، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب.
    قالت: " {فأخذ رداءه رويداً}" أي: سحب الرداء بهدوء.
    " {وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً}".
    أي: أغلق الباب رويداً.
    {قالت: فجعلت درعي في رأسي، واختمرتُ وتقنعتُ إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع ...}"، أي: المقبرة، ليتذكر الموت، ويزكي نفسه، ويدعو للموتى كما قالت: {فقام، فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرول وهرولت ...}" وذلك أنها رضي الله تعالى عنها تخاف أنه يصل قبلها فلا يجدها، لأنه ما علم بها صلى الله عليه وسلم.
    {قالت: فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، وإذا به صلى الله عليه وسلم قد دخل فقال: ما لك يا عائشة؟ قلت: لا شيء، قال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فأخبرته! فقال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم! فلهَزَنِي في صدري لهزةً أوجعتني، ثم قال: أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟!}"، ومعنى يحيف: يجور، وهذا هو الشاهد من الحديث؛ إذ ظنت أن يجور عليها فيعطي ليلتها لغيرها من نسائه.
    {... قالت: قلت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ ...}".
    أي: أهذا الخاطر الذي خطر في نفسي أنك ذهبت عند أحد أزواجك يعلمه الله؟
    {... قال: نعم. قال: فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت، فناداني فأخفاه منكِ، فأجبتُه وأخفيتُه منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابكِ، وظننتُ أنكِ رقدتِ، وكرهتُ أن أوقظك، وخشيتُ أن تستوحشي}".
    أي أنه لو أيقظها وقال: لا تخافي، لربما خافت، لكنه تركها تنام حتى يرجع، لكن هي رضي الله تعالى عنها خافت أن يذهب إلى غيرها من أزواجه، لما رأته فعل ذلك.
    "{فقال: -أي: جبريل عليه السلام- إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم}، ولم يكن من عقيدة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيف عليها، أو يترك ليلتها ويخدعها ويذهب عند غيرها، فهي لا تظن ذلك ولا تعتقده؛ لكن يأتي أحياناً خاطر خفيف جداً فتسأل عن هذا الخاطر العابر الذي لا يكاد الشخص يعتقده، أيعلمه الله؟ قال: نعم! يقول: سبحانه تعالى: ((وَهُو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[البقرة:29]، وقال:((يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى))[طه:7]، أي: وما هو أخفى من السر، وهو أنه يعلم السر قبل كونه سراً، فـ((لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ))[آل عمران:5] سبحانه وتعالى.
    {... فقالت: كيف أقول يا رسول الله؟}" أي: عند زيارة المقابر {فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله للاحقون ...}".
    قال ابن تيمية: "فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه سلم: نعم!.
    وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة".
    أي: لم تكن رضي الله تعالى عنها قبل أن تعلم هذا من النبي صلى الله عليه وسلم كافرة، وحاشاها رضي الله تعالى عنها من ذلك، فهي تستفهم وتسأل، لأنها كانت تجهل، فأمرٌ تجهله سألت عنه فعلمته، ولو كان الجهل به يقتضي الكفر لكانت قبل أن تسأله كافرة.
    قال: "وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: فالمخاطب بعد أن تبلغه الحجة يصبح إقراره بأن الله بكل شيء عليم من أصول الإيمان، وليس من فروعه، ولذلك فـالقدرية الذين أنكروا العلم كفار، وقد قال الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما: (ناظروا القدرية بالعلم)، فمن أنكر علم الله كَفَر؛ لكن أن يظن الإنسان أو يتوهم أن بعض الشيء من العلم قد يخفى على الله فهذا لا يجعله يكفر، لكن إذا سأل عنه وعُلِّمَه علمه.