فالموضوع الأول: إثبات صفة المحبة وبيان قيمة المحبة لله سبحانه وتعالى، وهي أنه سبحانه وتعالى يُحِب ويُحَب، وقد خالف في ذلك من خالف، وكتب في ذلك العلماء رحمهم الله ورضي عنهم، ومن خير من كتب في ذلك ومن أجوده وأجمعه: ما كتبه العلامة الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه
مدارج السالكين حول منزلة المحبة، ولهذا أردت أن أستعرض شيئاً منها، لتكون بمنزلة المقدمة في شرح هذه الفقرة، ولنعرف أهمية المحبة بالنسبة للأعمال الإيمانية، وكذلك منزلتها بالنسبة للعقيدة، أي ما يتعلق بإثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، وبيان غلط وفحش وسوء قول من قال: إن الله تعالى لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، وما يوقع فيه هذا الخطأ من الانحراف والضلالات.
ونحن أحوج ما نكون إلى أن نعرف حقيقة المحبة، ولا سيما ونحن في عصر الجفاف القلبي، وعصر الغلظة وقسوة القلب، بسبب ما نرى ونسمع، وما يخالج قلوبنا من الفتن والشكوك، والشهوات وزخارف الحياة الدنيا.
يبين
ابن القيم رحمه الله حقيقة هذه المنزلة على طريقته بالأسلوب الأدبي الرفيع الجميل، الذي يستثير الوجدان والعاطفة نحو هذه المنزلة -وذلك في (ج3/ص8)- فيقول: "ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة المحبة، وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال؛ التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب" كما قال:
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
فالمنازل الأولى هي جنات النعيم، حيث أسكن الله فيها آدم وزوجه، ثم كانت المعصية، وكانت الحكمة والابتلاء وأن ينزل إلى هذا التراب.
ثم قال: "تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدَّر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة: أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة!
تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون، وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول"
هذا حال أصحاب القلوب المحبة لله ولطاعة الله سبحانه وتعالى؛ حباً مقترناً بخشيته وإجلاله والحياء منه عز وجل، هؤلاء هم الذين يمشون الهوينى ويسبقون الساعين، كما قال الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
وقد أشار رحمه الله في الفوائد إلى أن الصحابة الكرام ما سبقوا من بعدهم بكثرة الصلاة والقيام، وإنما سبقوهم بالإيمان. يقول رحمه الله: "يا عجباً لنوم الأكياس وفطرهم! كيف سبقوا به صيام الحمقى وقيامهم" يعني: أن كل من جاء بعدهم بالنسبة لهم، فهو كالأحمق بالنسبة إلى الكيِّس، لأن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم عرفوا كيف يمشون رويداً ويجيئون في الأول، وكيف أن درهمهم يسبق ألف درهم ممن بعدهم، وأن التسبيحة الواحدة منهم تزن عبادات كثيرة ممن بعدهم، كل ذلك لأن الله تعالى فتح لهم هذا الينبوع العظيم من محبته وإجلاله واستشعار العبودية الحقة له تبارك وتعالى، فبذلك فازوا، وإلا فقد جاء من التابعين من يقوم الليل ويقرأ من القرآن أكثر منهم، لكن أين الثرى من الثريا؟! وكل على خير، لكنّ أولئك السابقين لو أنفق من بعدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه.