كان من أسباب انتشار علم الكلام: الشُّبَه، والآن هناك شبهة كبرى ترددها الكتابات الفكرية والفلسفية في الصحافة وفي الكتب المؤلفة، وهي أن الإنسان يجب عليه أن يفكر، وألا يقلد غيره، وأن يعتقد ما يمليه عليه فكره أو رأيه.
وهذه دعوى حسنة في ظاهرها، لكنها تحمل أمراً منكراً، فلا شك أن الإنسان مطلوب منه أن يفكر، ومدعو إلى أن ينبذ التقليد، ولكن أي تقليد؟
وهنا لا بد من الرجوع إلى مسألة: هل كل متبع مقلد؟
أضرب لكم مثالاً واقعياً يوضح ذلك، هو ما نقلناه سابقاً من قول
أبي حامد الغزالي رحمه الله لما بحث في كتابه
المنقذ من الضلال يقول: "أول الأمر آثرت البحث عن الحق، ورفضت التقليد" ويقول فيما معنى كلامه: وجدت أن المجوسي يولد مجوسياً، لأن بيئته
مجوسية، وكذلك النصراني، وكذلك المسلم، فقلت: إذاً: هذا كله من باب التقليد.
وهذه شبهة أهل الضلال عموماً: أن النصراني يولد في بيئة
نصرانية ؛ فيصبح نصرانياً، وإن ولد في بيئة مسلمة يصبح مسلماً، إذاً الكل مقلدون؛ لذا لابد للإنسان أن يفكر ويختار الدين الصحيح، وهي شبهة خطيرة تجعل الإسلام كأي دين من الأديان المحرفة الباطلة التي لا سند لها من وحيٍ ولا فطرة، وتجعله هو مجرد رأي بشري اتفقت عليه طائفة من الناس؛ فهو عندهم قابل للأخذ والرد؛ ولهذا حصر
الغزالي الحق بعد ذلك في أصناف أربعة، لم يذكر منهم
أهل السنة أو
السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، بل حصر الحق في
المتكلمين و
الصوفية و
الفلاسفة و
الباطنية!
أين الأنبياء والرسل؟! أين الصحابة والتابعون؟! لم يدخلهم في هذه الأصناف، ومن هنا يأتي الخلل، عندما يخرج الحق المتميز، ويقال: كل أصحاب دين من الأديان يولدون كما يولد عليه أهل الدين الآخر.
ومما ينبغي أن يعلم أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام مسلماً حنيفاً نبياً مكلماً، وبقيت الأمة على دينه، على التوحيد عشرة قرون حتى ظهر الشرك في قوم نوح؛ فعبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فانحرفوا؛ فالإنسانية من حيث الأصل العام على التوحيد، والقرون الأولى كانت على التوحيد.. هذا بالنسبة لمجموع الإنسانية، وبالنسبة للفرد بذاته: {
كل مولود يولد على الفطرة}، أي: على الإسلام، ولذا قال: {
فأبواه يهودانه أوينصرانه أو يمجسانه} ولم يقل: يمسلمانه؛ لأنه مسلم أصلاً.
ولهذا نقول: إن ما يقوله المتكلمون من أن الطفل المسلم إذا حان بلوغه يُلزم بأن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ليدخل في الإسلام لغو باطل؛ لأنه ولد مسلماً، وبقي على إسلامه، ولم يتغير حتى نقول له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وادخل في الإسلام، وجدد إيمانك.. هذه كلها من ترهات أولئك الذين يهربون من موضوع التقليد، ولهذا نجدهم في كتب الكلام وكتب العقائد الباطلة يقولون: يجب على الإنسان أن ينظر ولو لمرة واحدة حتى ينجو من ربقة التقليد، فيقول: لابد أن هذا الكون محدث، ولابد لكل محْدَث من محْدِث، فإذاً الله تعالى هو الذي أحدثه؛ فيؤمن عن طريق الاستدلال ولو مرة واحدة في العمر حتى يخرج من ربقة التقليد.
سبحان الله! أي تقليد هذا؟! أمن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم يسمى مقلداً بهذا المعنى؟ كلا. فإن هذا متبع للحق، وهو موافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[الروم:30] فالله سبحانه وتعالى هو من خلقها، فأينما ولد الطفل: في الصين، أو بريطانيا، أو أمريكا، أو بلاد الإسلام، فإنه يولد على هذه الملة، وإذا قرأتم كتاب لماذا أسلمنا وأشباهه من الكتب تجدون هذه المعاني. والحمد لله.