ثم ينتقل
شيخ الإسلام إلى بيان معاني العلو فيقول: "والأعلى يجمع معاني العلو جميعها، وأنه الأعلى بجميع معاني العلو.
وقد اتفق الناس على أنه علي على كل شيء؛ بمعنى أنه قاهر له، قادر عليه، متصرف فيه" فكل الفرق متفقة على ذلك، والخلاف إنما وقع في علو الذات.
يقول
شيخ الإسلام : "كما قال: ((
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))[المؤمنون:91] وعلى أنه عالٍ عن كل عيب ونقص، فهو عالٍ عن ذلك منزه عنه، كما قال تعالى: ((
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا *
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا *
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا *
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا*
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا))[الإسراء:39-43]؛ فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح".
فنجد أن من أسماء الله تبارك وتعالى: المتعالي والكبير والعظيم والعلي، وكل منها له معنىً يخصه، مع اشتراك الكل في أصل المعنى.
ثم يقول: "وقالت الجن: ((
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا))[الجن:3] وفي دعاء الاستفتاح: {
سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك}" فالتعالي جاء في القرآن والسنة مقروناً بالتسبيح.
ثم يقول رحمه الله: "فقد بين سبحانه أنه تعالى عما يقول المبطلون وعما يشركون، فهو متعال عن الشركاء والأولاد، كما أنه مسبح عن ذلك -أي: منزه ومقدس لأن سبح معناها تنزه وتقدس- وتعاليه سبحانه عن الشريك هو تعاليه عن السمي والند والمثل، فلا يكون شيء مثله".
ثم ينتقل إلى معنىً آخر ذكره
المتكلمون وغيرهم قال: "وقد ذكروا من معاني العلو: الفضيلة، كما يقال: الذهب أعلى من الفضة، ونفي المثل عنه يقتضي أنه أعلى من كل شيء -فقوله تعالى: ((
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] يقتضي أنه أعلى من كل شيء- فلا شيء مثله، وهو يتضمن أنه أفضل وخير من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء"، فالله سبحانه وتعالى خير من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، لكن هذه الخيرية وهذه المقارنة لا تذكر إلا في باب المناظرة والجدال والرد مع الذين يسوون بالله تبارك وتعالى غيره.
قال رحمه الله: "وفي القرآن ((
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))[النمل:59] ويقول: ((
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))[النحل:17] ويقول: ((
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي))[يونس:35] وقالت السحرة: ((
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى))[طه:73] ... إلخ".
ومن دلالة ذلك ومن معانيه، ومما يستلزمه ذلك ويقتضيه: أنه سبحانه وتعالى أعلى من كل شيء وفوق كل شيء؛ لأنه وحده المألوه المستحق للعبادة، فلهذا يقول رحمه الله: "فهو سبحانه يبين أنه هو المستحق للعبادة دون ما يعبد من دونه، وأنه لا مثل له، ويبين ما اختص به من صفات الكمال، وانتفاءها عما يعبد من دونه، ويبين أنه يتعالى عما يشركون، وعما يقولون من إثبات الأولاد والشركاء له، وقال: ((
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا))[الإسراء:42]".
وهذه الآية من الآيات التي تبين معنى التوحيد وحقيقته، وقد فسرت هذه الآية على معنيين:
المعنى الأول: لو فرض أن هناك آلهة غير الله سبحانه وتعالى بالمعنى الذي يعتقده المشركون لابتغوا سبيلاً إلى التقرب إليه؛ أي: لو أن هنالك شفعاء تشفع عند الله من آلهة ومعبودات تقرب إلى الله تعالى زلفى -كما تزعمون وكما تقولون أيها المشركون- لكانت هذه الآلهة وهذه المعبودات تبتغي إلى ذي العرش سبيلاً، فلو كانت هذه الآلهة -سواء كانوا أنبياء أو ملائكة أو عباداً صالحين- لو فرض أن ذلك حق، وأن هؤلاء موجودون، لكانوا هم يبتغون إلى ذي العرش سبيلاً.
وما معنى ابتغاء السبيل هنا؟ وكيف يبتغون إليه سبيلاً؟
فسر ذلك
ابن مسعود وغيره من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فقالوا: المدعوون والمعبودون أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإذا كنتم أيها النصارى تعبدون عيسى بن مريم، وتعبدون أيها اليهود عزيراً، وتعبدون أيها
الروافض علياً و
الحسن و
الحسين، وتعبدون أيها
الصوفية الأولياء والصالحين والسادة وغيرهم؛ فإن كل هؤلاء الذين تدعون (يبتغون إلى ربهم الوسيلة) يتضرعون إلى الله ويتذللون له، ويسارعون في الخيرات: ((
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90] هكذا وصف الله سبحانه وتعالى الأنبياء، فهذه حال هؤلاء المعبودين، فكيف تعبدونهم أنتم من دون الله؟!
إذاً: لو فرض وجود شفعاء مع الله، ووسطاء يقربون إلى الله؛ لكان هؤلاء يبتغون إلى الله الوسيلة بعبادته.
إذاً لا حجة على الإطلاق لمن يعبد غير الله أو يدعو غير الله.
وإن كان هذا المعبود أو المدعو مقرباً من الله، فلأنه يعبده ويتقرب إليه؛ كما أنك أنت تعبد الله وتتقرب إليه؛ فكونه أقرب منك لا يعني ألا تتقرب إلى الله وتتقرب إليه، فالتقرب لا يكون إلا إلى الله وحده.
وذو العرش هو الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى، وعلى هذا يكون ما عداه مجرد أسماء سموها هم لا حقيقة لها، فلا تملك خلقاً، ولا بعثاً، ولا حياةً، ولا نشوراً، ولا رزقاً؛ لا لأنفسها ولا لمن يعبدها من دون الله سبحانه وتعالى.. هذا هو المعنى الأول.
المعنى الآخر: ورد عن بعض
السلف أن المقصود بذلك: السبيل إلى مغالبته، ويقولون: من أدلة التوحيد أنه لو كان مع الله آلهة أخرى لابتغت هذه الآلهة السبيل إلى مغالبة ذي العرش، حتى يكون المتغلب منها هو ذا العرش، وهو الإله الحقيقي.. وهذا هو المعنى الآخر.
والمعنيان كلاهما يتفقان على أصل التوحيد وعلى قضية التوحيد، لكن الراجح هو المعنى الأول، بدلالة الآية الأخرى: ((
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ))[الإسراء:57] ومما يرجح القول الأول مجيء الابتغاء في الآية الأولى وفي الآية الأخرى بمعنى واحد، وكلمة (سبيل) وكلمة (وسيلة) أيضاً بمعنى واحد.
والمعنى الثاني حق؛ لكنه مرجوح في تفسير هذه الآية.