قال: "والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة" باطل بالضرورة؛ أي: باطل بالعلم الضروري، وهو الذي لا يحتاج إلى استدلال، والعلم النظري هو الذي يحتاج إلى نظر واستدلال.
والعلم الضروري عند من يدينون بالفلسفة ويستخدمون الأساليب المنطقية يعتبر محصوراً وضيقاً إلى حد أنهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لا يجزمون على شيء بأنه ضروري لا يحتاج إلى استدلال وأنه واضح جلي إلا على ما يتفق عليه عقلاء بني آدم، فيساويهم فيه كل إنسان، فهم كما يقول المتنبي :
يموت راعي الضأن في جهله            ميتة جالينوس في طبه
فـأرسطو مثلاً تعمق في علم الفلسفة وفي الاستدلالات العقلية ليجعل العلم نوعين: علم قطعي ضروري، وعلم نظري استدلالي، فكل المسائل القطعية الضرورية التي وصل إليها أفلاطون أو أرسطو يصل إليها ذلك الراعي، ولا فرق إلا في الاسم، فهذا راعٍ، وأرسطو فيلسوف، فلا فرق إذاً، بل الراعي أنظف ذهناً؛ ولم تشوش أفكاره تخبطات أولئك الفلاسفة، وحين تسأله وتقول له: هل الواحد نصف الاثنين؟! يقول: أنت مجنون، وكذلك لو قلت له: هل كل الغنم عندك أكثر من بعض غنمك؟! هل نصف التفاحة أصغر من كل التفاحة؟!
والعرب لا تتخاطب بهذا أصلاً حتى الرعاة وحتى أهل البوادي، ويعتبرون هذا الكلام من لغو المجانين.
وإذا تركنا الرعاة وأهل البوادي جانباً، وجئنا إلى علم الكلام، فإننا نجد المتكلمين يقسمون العلم إلى ضروري وإلى نظري؛ فالضروري كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وأن الواحد نصف الاثنين، فهذه هي الضروريات التي لا تحتاج إلى نظر وإلى استدلال، فهي التي يدركها كل بني آدم.
وبعضهم يمثل بالحسيات، فيقول: إن من العلم الضروري: أن السماء فوق الأرض، فهذه هي خلاصة ونهاية التعب والبحث عن اليقين -كما يسمونه هم- لنصل إلى هذه النتائج!
وقد أغنانا الله عن علمهم هذا، فنحن نؤمن بالكتاب والسنة، فكم من اليقينيات نؤمن بها! نؤمن بالصراط ولم نره، وإنما عرفنا ذلك بالنص، ونؤمن بالميزان، ونؤمن بعذاب القبر، ونؤمن بالله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالعالم العلوي بكل ما ورد فيه، ونؤمن بما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها، وحال أهل الجنة وحال أهل النار، نؤمن به كأننا قد رأيناه، وهو علم يقيني ضروري قطعي لا نقاش فيه.
فالاستدلال أو الرجوع إلى الكتاب والسنة يوسع فهم الإنسان وكلامه وعقله، فيرفعه ليكون إنساناً حقاً ويرفع عقله.
وإذا استوى الفيلسوف وراعي الضأن، فلا يستوي المؤمنون والكافرون، ولا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أبداً!!
لا يستوي من يقول: لا أدري، ومن يؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقبر وعذابه ونعيمه، فأين هذا من هذا؟!
أين تلك الدابة الضالة السائمة من ذلك الذي قذف الله في قلبه النور وجعل في قلبه الإيمان؟!
فالقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة -أي بالعلم الضروري- وباطل بالفطرة.
يقول: "وهذا يجده من نفسه كل داعٍ" أي: كل من يدعو الله؛ إن دعا الله في جوف الأرض، أو دعا الله في الطائرة، أو دعاه على سطح الأرض، أو دعاه وهو في الملأ الأعلى، فإن شعوره يتجه إلى العلو.