قال: [وطوائف من
أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول] أي: أن طوائف من
أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون بالخروج من الإيمان بسبب الأعمال؛ كما يقوله هؤلاء
الخوارج، لكن يقولون ذلك عن الأمور الاعتقادية، ويقصدون بذلك الأعيان، فيقولون مثلاً: كل من قال بنفي القدر فهو كافر بعينه.
أما
أهل السنة والجماعة فيقولون: نحن ننظر إلى المعين هل هو مجتهد مخطئ متأول أراد الحق أم لا؛ فلابد أن نتوقف.
يقول المصنف: [فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره].
إن الإنسان قد يرتكب ذنباً من الذنوب العملية وهو لا يقصده، مثلاً: إذا جاء إنسان وقال لأخيه المسلم: يا كافر! -والعياذ بالله- أو يا مشرك! هذه كبيرة من الكبائر العظيمة -نسأل الله العفو والعافية- فإذا كان بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد قال لأخيه: (أنت منافق تجادل عن المنافقين) فهل نقول: حكمه أنه مرتكب لكبيرة كما تقدم أم أنه مجتهد مخطئ؟! وقد قال ذلك
أسيد بن حضير لـ
سعد بن عبادة رضي الله عنهما، وقال
عمر عن
حاطب أنه منافق، وكان كل منهما متأولاً أراد الحق، وأراد نصرة الدين، وعمل بظاهر الأمر، وما قصد الطعن والتهمة.
أما ذاك الذي يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد أراد الطعن والتهمة، وافترى من عنده، وفرق بين هذا وهذا.
فالمقصود أنه لا يجوز أن نقول: هذا فاسق، وهذا فاجر؛ لأنه قد يكون عنده شبهة، فما دامت الشبهة ترد في العمليات وهي ظاهرة، فكيف لا ترد في العلميات التي هي مظنة الشبهة؟!
فمسألة نصوص الوعد ونصوص الوعيد والتعارض بينهما هي من مواضع الشبهات؛ لأنه ليس كل أحد يفقه الأدلة؛ فلو كان كل من قرأ الآيات أو الأحاديث وكلام العلماء يفقهه على وجهه الصحيح لما وجد الخلاف، وهذا بعيد؛ بل يوجد من يقرأ الآية، فيفهمها على غير وجهها، أو يقرؤها فيضادها، ويعاند ما دلت عليه، وهذا وارد حتى في العمليات؛ فالتيمم -مثلاً- كيفيته معروفة، وكل واحد من الصحابة فهم هذه الكيفية؛ فـ
عمار رضي الله عنه قال: فتمرغت كما تتمرغ الدابة، وكأنه ظن أن التراب ما دام ينوب عن الغسل، والغسل يكون للجسم كله، فعليه أن يتمرغ بكامل جسمه في التراب؛ فهذا اجتهاده.
يقول المصنف: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة]، المقصود بالإثبات العام هو أن يكفر كل مبتدع أو يكفر كل من قال بكذا.
فأراد المصنف رحمه الله أن يرد عليهم، وذكر الدليل الأول، فقال: [فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] أي: لازم قولهم أن من فعل هذا، فقد كفر وأنه لن يدخل الجنة، وأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فهل يستطيع أحد أن يثبت ذلك في حق كل مبتدع، وفي حق كل قائل دون تفريق بين من يقول بالبدعة متأولاً مجتهداً مخطئاً وبين من يقول بها رداً وجحوداً وعناداً؟!
فما دام ذلك غير ممكن، فإنه يجب علينا أن نفرق بين هذا القائل وبين ذاك، وإن كان القول واحداً، وإلا لزم من ذلك أن نحكم على كل من وقع في أي بدعة بأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فيرد على هذا القول أن أناساً يفعلون هذه الأفعال، ونحن لا نستطيع أن ننفي الإيمان من قلوبهم، ولا سيما من كان صادقاً ومخلصاً، وأراد الحق ولم يوفق إليه.
ويحب أن نفرق بين من أخطأ من أهل السنة في بعض أمور العقيدة، وبين من ابتدع من المبتدعة في هذه الأمور، فلابد من التفريق بين النوعين، وهذه مسألة عظيمة ومهمة؛ إذ ليس كل أحد من أهل السنة معصوماً، بل يمكن أن يخطئ بعض أهل السنة حتى في أمور الاعتقاد، لكنه يظل من أهل السنة ما دام قد اجتهد فأخطأ.
وأما أهل البدعة الذين هم أهلها، فهم الذين فعلوها عن جحود للحق وإنكار وشبهة، ولم يستجيبوا لمن كشفها، واعتمدوا على أصل من الأصول غير الكتاب والسنة.
فقد يتفق السني والبدعي في الواقع والحال، لكنهما يختلفان في الحكم، ولهذا كانت عبارات السلف رحمهم الله دقيقة، فأحياناً يقولون: هذا قول المعتزلة ووافقهم عليه فلان من الرافضة مثلاً، وموافقته لهم لا تعني أنه منهم، لكنها تعني أنه وافقهم عليه وأقرهم، وقال بمثل قولهم، فبذلك نفرق بين المخطئ من أهل السنة وبين المبتدع، وإن كانت البدعة قد تكون أحياناً واحدة.
وهناك أمثلة تطبيقية على هذا، وعندنا في باب الإيمان مثال واضح لذلك، فإننا سنجد أن بعض أئمة السلف وقعوا في الإرجاء.
ومع أننا سنذكر الوعيد والإنكار الشديد من أهل السنة على المرجئة، فلابد أن نفرق بين من وقع فيه عن خطأ وبين من وقع فيه عن تعمد وابتداع.