المرجئة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بأي ذنب، ويرد عليهم بوجود منافقين ومرتدين ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهذا يدل على كفر بعض المنتسبين إلى الإسلام، والخوارج يكفرون أصحاب الكبائر، وأهل السنة وسط؛ فإنهم لا يكفرون بكل ذنب، ويفرقون بين المجتهد المتأول وبين المبتدع الجاحد المعاند.
  1. مراتب الكفر فيمن ينتسب إلى الإسلام

    قد ذكرنا في موضوع أركان الإيمان عند قوله: [وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة ] مراتب المنتسبين إلى أهل القبلة في الكفر.
    وهذا الترتيب يقبل الاجتهاد ولا حرج إن اختلفنا فيه، والمقصود إنما هو ضبط أصل المسألة، وهي معرفة أشد الفرق كفراً، والذين لا يجوز الخلاف في كفرهم، ثم من دونهم، ثم من دونهم؛ حتى نصل إلى أهل البدع والضلال الذين لا يكفرون، وإنما يبدعون ويضللون فقط.
    فأول الطوائف كفراً، وهم أعدى أعداء الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأبعد الناس عن الإيمان بالله وبأصول الإسلام، وبأركان الإيمان؛ هم الفلاسفة، ونعرف مذهبهم من خلال أشخاصهم؛ كـابن سينا والرازي الطبيب والكندي والفارابي وأمثالهم، فهؤلاء أبعد الناس عن منهج الأنبياء، وهم مرتدون، لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الإسلام.
    ويليهم في الكفر الباطنية، وهم فرق كثيرة، ولهم أسماء كثيرة مثل: الخرمية والبابكية والقرامطة والسبعية والمحمرة والمعلمية (التعليمية)، هذه كلها أسماء للباطنية، ولا شك أيضاً في كفرهم وخروجهم من الإسلام، وممن يعد من الفرق الباطنية في وقتنا الحاضر: الإسماعيلية والدروز والنصيرية، وهم منهم معنىً ومبنىً.
    وهناك فرق باطنية حديثة النشأة، وكفرهم من جنس كفر الباطنية ؛ كـالبابية والبهائية -ويوجد منهم جماعات في أمريكا- والآغاخانية وهم في الأصل من الباطنية، وأيضاً القاديانية يلحقون بها.
    ويلي الباطنية في الكفر -ويلحق بهم ويشبههم فيه- غلاة الصوفية الذين لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الملة، وهم ثلاث فرق: أهل الاتحاد، وأهل الوحدة، وأهل الحلول، وهي كلها في الكفر سواء، وهذه الثلاث الطوائف هي أكفر من ينتسب إلى التصوف، وهم يضارعون ويوازنون الباطنية في الكفر إن لم يكونوا أكفر منهم.
    فـأهل الاتحاد يؤمنون بذاتين منفصلتين اتحدت هذه بتلك، فهؤلاء يسمون: الاتحادية .
    أما أهل الحلول، فإنهم أيضاً يثبتون ذاتين، ولكنهم يقولون: هذه حلت في هذه، فأصبحت هي عينها بعد أن حلت فيها، فأصبحت الذاتان ذاتاً واحدة، ولكن يجوز أن تفارقها؛ كما يقول النصارى؛ فإن أصل قولهم: أن الله تعالى حل في عيسى.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    وأما أهل وحدة الوجود، فإنهم يرون أن الذات واحدة وليس هناك ذاتان، بل ما ثَمَّ إلا هو، أي أن الموجود هو عين الموجِد، المخلوقات هي عين ذات الخالق.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    فهؤلاء كلهم كفار مرتدون وإن انتسبوا إلى الملة والإسلام.
    وعلى رأس هؤلاء الذين قالوا بالحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود: ابن عربي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين، والفاجر الذي يسمي نفسه: العفيف التلمساني، والصدر القونوي، وشمس الدين التبريزي .. وآخرون، لكن هؤلاء هم أشهرهم، ومقصودنا هو التمثيل فحسب.
    والطبقة التي تلي هذه الطبقة في الكفر -وإن انتسبت إلى الإسلام-: الجهمية، واسم الجهمية يطلق على عموم من ينفي الصفات، لكننا نعني هنا الجهمية الغلاة الذين مذهبهم إنكار الأسماء والصفات جميعاً، ويقولون في الإيمان: إنه مجرد المعرفة، ويقولون في القدر: إن الفاعل هو الله، والإنسان لا إرادة له مطلقاً؛ فبهذه الأقوال وأمثالها تكون الجهمية -أيضاً- خارجة من الملة.
    ويليهم في الكفر الروافض، ولا نعني بهم مجرد من يطلق عليه أنه شيعي أو فيه تشيع، وإنما المقصود الرافضة الغلاة الذين يرون تكفير الصحابة عموماً ومنهم الشيخان أبو بكر وعمر، ويؤلهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعتقدون أن القرآن محرف، وأن الإمامة أعلى من النبوة، ويشركون في الألوهية بدعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، والالتجاء إلى غير الله، واعتقاد أن أئمتهم يعلمون الغيب، ويديرون الكون، وتخضع لهم ذرات الوجود، ويذهبون عند قبورهم يتضرعون ويدعون ويستغيثون بهم؛ فهؤلاء قد حرفوا التوحيد وصرفوا العبادة لغير الله؛ فهم -ومن كان على شاكلتهم- كفار مرتدون.
    ثم بعد ذلك تأتي المعتزلة، والذين يكفرون من المعتزلة هم زنادقتهم وغلاتهم الملاحدة الذين أسسوا هذا الإلحاد والضلال، وهم الذين كفرهم بعض السلف بأعيانهم.
    وأما من جاء من بعدهم، ففي تكفيرهم نظر -وإن كانت مقالاتهم كفرية- لما طرأ عليهم من شبهات.
    فمن أعلامهم المشهورين الذين كفرهم بعض السلف: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد.
    وأعظم منهما كفراً وأصرح في الاعتزال -وهما اللذان أصلا مذهب المعتزلة على علم الكلام، وليس على شبهات نقلية- أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام، وكل منهما كان على مذهب المعتزلة في تكفير مرتكب الكبيرة، وإن لم يقولوا: إنه كافر بالاسم، ولكنهم يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، وكل منهما ألف في تكفير الآخر، وهكذا أهل البدع نسأل الله العفو والعافية.
    أما بقية المعتزلة، فإننا نقول: هم من فرق الضلالة، وإن كانت مقالاتهم كفرية؛ فإن المعتزلة -في باب الأسماء والصفات- أثبتوا الأسماء جميعاً لكنهم نفوا الصفات جميعاً، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر... إلخ.
    بعد ذلك نأتي إلى الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات، لكنهم ينفون بعض الصفات ولا يثبتون الصفات جميعاً، وهم الأشاعرة، وهم لا يُكَفَّرون، لكنهم -كفرقة- يعدون من فرق الضلال، وأما الأفراد فأحكامهم تختلف وتتفاوت، حتى إن من أوائل الأشعرية من كان أقرب إلى السنة، ومن أواخرهم من أصبح قريباً من الفلاسفة، كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
    والخوارج في درجة المعتزلة، لكن من غلا من الخوارج وأنكر بعض القرآن أصبح في درجة الروافض.
    ولو قارنت بين الرافضة وبين الخوارج، أيّ الطائفتين أخف وأقل شراً وضرراً، لعلمت أنها الخوارج بلا شك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذكرهم، وأنهم على ضلالة، لكنهم إذا قورنوا مع الروافض يظلون أقل ضرراً من جهتين: أولاهما أن الخوارج لم يكفروا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وإنما تكلموا في من بعدهم؛ فهم إذن أخف ممن يكفر الشيخين، ولا شك أن من يكفر عثمان أو علياً رضي الله تعالى عنهما هو على خطر عظيم، لكنه ليس كمن كفر الشيخين أو كفر جميع الصحابة.
    ثانيهما: أن الخوارج أعلى رتبة من الرافضة في عبادتهم، فلو ألحقنا كل طائفة من الطائفتين بمن هو شبيه بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نلحق الخوارج -جزئياً- بالثلاثة الذين تقالّوا العبادة، قال أولهم: أصوم ولا أفطر... إلخ، بينما الرافضة يلحقون بالمنافقين.
    وإذا أردنا أن نمد المقارنة وأن نطبق صفات هذه الفرق على ما نقوله في صلاتنا في كل ركعة: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))[الفاتحة:7] كيف نصنف هذه الفرق؟ ومن نجعله مع المغضوب عليهم؟ ومن نجعله مع الضالين؟
    الروافض مع المغضوب عليهم، والخوارج مع الضالين؛ لأن المغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به؛ ولذلك قال سفيان بن عيينة رحمه الله -ونقل أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه-: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى]].
    وأهل الكلام يلحقون بمنهج ومسلك المغضوب عليهم، والصوفية يلحقون بالضالين.
    والمقصود أننا عرفنا أن في أهل القبلة من المنتسبين للإسلام من يكون في الحقيقة كافراً، وعرفنا تصنيفاً مجملاً لهم.
  2. الفرق بين النفي العام ونفي العموم في التكفير

    نرجع إلى عبارة المصنف رحمه الله يقول:
    [ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب.
    ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله) وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع.. إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك.
    وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.. إلى آخر كلامه) رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.
    لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! ]
    .
    قوله: (ولهذا) الإشارة إلى وجود مرتدين ممن ينتسبون إلى الإسلام؛ أي لكونه في أهل القبلة من هو منافق ومرتد [امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب] فهذا مما يستدرك على الإمام الطحاوي وهو يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] فالمستدرك عليه هو هذه العبارة، لكن الاستدراك أيضاً محل نظر، وسنأخذ الآن وجهة نظر من يستدرك ومن لا يستدرك.
    هناك فرق بين: (لا نكفر أحداً بذنب) و(لا نكفر أحداً بكل ذنب)؛ (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) معناه لا أحد يكفر بذنب؛ هكذا فهم بعض العلماء، وكيف لا نكفر أحداً بذنب، وهناك ذنوب تكفر؟! لكن إذا قلنا: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ فمعناه أنه يوجد ذنوب مكفرة، ويوجد ذنوب غير مكفرة.
    [وفرق بين النفي العام ونفي العموم]، العبارة التي تكون على النفي العام هي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فهذا نفي عام، ونفي العموم هو: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب) فهنا نفينا العموم.
    يقول المصنف رحمه الله: "والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب" فقوله رحمه الله: (مناقضة) مفعول لأجله أي: نقول ذلك مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل بذنب.
    فعندنا ثلاث عبارات: (من لا يكفر بذنب) (من يكفر بكل ذنب) و(من لا يكفر بكل بذنب)؛ فـالمرجئة لا يكفرون بذنب، والخوارج يكفرون بكل ذنب.
    أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بكل ذنب.
    قال: "ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله" أي: مراعاة لكونه ليس كل ذنب لا يكفر فاعله، بل مِن الذنوب مَن يكفر مقترفها ومنها من لا يكفر مقترفها "قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)" كأن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تنبه لهذا، فقال: أنا لا أقصد أنني لا أكفر أحداً بذنب -كما تقول المرجئة - فإني أقول: (ما لم يستحله).
    إذاً: عند الطحاوي من أهل الذنوب من يكفرون بالاستحلال.
    يقول المصنف: "وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا: النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية" إذاً: فالاستدراك على الإمام الطحاوي خطأ؛ لأن الإمام الطحاوي تنبه لخطر العموم في النفي فقال: (ما لم يستحله) والاستحلال يكون في الأمور العملية من الزنا وشرب الخمر والسرقة.
    وكأن الإمام الطحاوي رحمه الله يكتب هذه العبارة وأمام عينيه الرد على الخوارج، فهو يقصد بما يكتبه الرد عليهم، ويقول: "لا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله"، أي: أنا أتكلم في الكبائر العملية من زنا وسرقة وشرب خمر، ولا أقول: إن فاعل هذه الأمور خارج عن الإسلام، لكنه من أهل الوعيد، ولا أخرجه من الملة إلا إذا استحل الذنب، فإذا استحل الكبيرة فهو مرتد.
    ثم استدرك المصنف على نفسه فقال: "وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع" ذكرنا تعريف الإيمان وأنه (قول وعمل) فيقول هنا: إن العلاقة بين العمل والعلم لا تنفك؛ بل هي متلازمة؛ فحين يصلي المصلي فصلاته من الأمور العملية، لكن المصنف رحمه الله: هذه ليست عملية فقط؛ لأنه لم يصلِّ إلا بنية الصلاة وبالإخلاص وبالإيمان بها وبالخشوع؛ وهذه أعمال قلبية.
    وحين حرم الله تعالى علينا الزنا أو الخمر أو السرقة، حرمها لكي نعتقد تحريمها، وليس لمجرد ألا نفعلها، فهي -أي العلاقة بين العلم والعمل- مرتبطة لا تنفك، فأعمال القلوب وأعمال الجوارح مرتبطة، والأصل هو أعمال القلوب، والشارع لم يكتفِ منا في العمليات بمجرد العمل؛ بل لابد أيضاً من العلم -أي الاعتقاد- فهناك ترابط قائم ولا شك في وجوده.
    وقد ضربنا مثالاً لذلك، كما ذكره الله تعالى بقوله: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً))[إبراهيم:24] الآية، فالتلازم بين الظاهر والباطن قائم وحق.
    يقول المصنف: "إلا أن يُضَمَّنَ قوله: (يستحله) بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك" فتكون العبارة صحيحة؛ لأن الاعتقاد يتضمن فعل القلب.
    فالمصنف يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، أي: ما لم يعتقده حلالاً، فإن كان عملياً فالمقصود لم يعتقد حله، وإن كان علمياً فالمقصود أنه لم يعتقد صحته وصدقه.
  3. مسألة الإيمان بين أهل السنة وبين المرجئة والخوارج

    يقول المصنف: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه: رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف] أي: نحن أهل السنة والجماعة لا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
    وهذه العبارة تنسب في الأصل إلى المرجئة، ولهذا تجد من يتحدث عن المرجئة يذكر هذه العبارة، ومنهم -على سبيل المثال-: الأشعري في المقالات، والبغدادي في الفرق بين الفرق، وإن لم ينسبوه إلى قائل معين، لكنه أمر موجود في النفوس، فإنه يوجد من يقول في نفسه: نحن -والحمد لله- ما دمنا مسلمين فلا يضرنا شيء، وما علينا شيء، والله غفور رحيم؛ لكنه لا يعتقد هذه المقالة عقيدة يدافع عنها ويلتزم بها، فهناك فرق بين الأمرين.
    فكتاب المقالات والفرق من المرجئة قد أرادوا أن تبرأ ساحتهم من تهمة الإرجاء، فقرروا أن المرجئة هم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة.
    ولكن ليس هذا ضابط المرجئة؛ بل إن المرجئ هو: (كل من أخرج العمل عن الإيمان)، ثم هم درجات متفاوتة.
    وهذا الخلاف في تعريف المرجئ هو خلاف منهجي بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين المرجئة -ولاسيما الأشعرية وغيرهم ممن كتب في المقالات- من جهة أخرى، فالمرجئ عندهم من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية؛ كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ والمرجئ عند أهل السنة هو من يقول: العمل ليس داخلاً في الإيمان.
    قال: [فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف؛ فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة؛ فلا يبقى معه شيء من الإيمان لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخله في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين].
    بعض الخوارج استدرك على إخوانه قولهم: بكل ذنب، وقال: بكل ذنب كبير؛ أي: يكفر صاحب الكبائر، وأما صاحب الصغائر فإنه لا يكفر.
    والمعتزلة والخوارج يتفقون في الحكم، ويختلفون في الاسم؛ فمرتكب الكبيرة مآله الخلود في النار عند الطائفتين، ولكن الطائفتين تختلفان في الاسم، فيسميه الخوارج كافراً؛ أما المعتزلة فقالوا: ليس بمؤمن ولا كافر؛ بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر.
    قال رحمه الله: [وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار!!] فوافقوا الخوارج .
  4. التفريق بين خطأ المتأول وخطأ المعاند

    قال: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول] أي: أن طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون بالخروج من الإيمان بسبب الأعمال؛ كما يقوله هؤلاء الخوارج، لكن يقولون ذلك عن الأمور الاعتقادية، ويقصدون بذلك الأعيان، فيقولون مثلاً: كل من قال بنفي القدر فهو كافر بعينه.
    أما أهل السنة والجماعة فيقولون: نحن ننظر إلى المعين هل هو مجتهد مخطئ متأول أراد الحق أم لا؛ فلابد أن نتوقف.
    يقول المصنف: [فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره].
    إن الإنسان قد يرتكب ذنباً من الذنوب العملية وهو لا يقصده، مثلاً: إذا جاء إنسان وقال لأخيه المسلم: يا كافر! -والعياذ بالله- أو يا مشرك! هذه كبيرة من الكبائر العظيمة -نسأل الله العفو والعافية- فإذا كان بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد قال لأخيه: (أنت منافق تجادل عن المنافقين) فهل نقول: حكمه أنه مرتكب لكبيرة كما تقدم أم أنه مجتهد مخطئ؟! وقد قال ذلك أسيد بن حضير لـسعد بن عبادة رضي الله عنهما، وقال عمر عن حاطب أنه منافق، وكان كل منهما متأولاً أراد الحق، وأراد نصرة الدين، وعمل بظاهر الأمر، وما قصد الطعن والتهمة.
    أما ذاك الذي يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد أراد الطعن والتهمة، وافترى من عنده، وفرق بين هذا وهذا.
    فالمقصود أنه لا يجوز أن نقول: هذا فاسق، وهذا فاجر؛ لأنه قد يكون عنده شبهة، فما دامت الشبهة ترد في العمليات وهي ظاهرة، فكيف لا ترد في العلميات التي هي مظنة الشبهة؟!
    فمسألة نصوص الوعد ونصوص الوعيد والتعارض بينهما هي من مواضع الشبهات؛ لأنه ليس كل أحد يفقه الأدلة؛ فلو كان كل من قرأ الآيات أو الأحاديث وكلام العلماء يفقهه على وجهه الصحيح لما وجد الخلاف، وهذا بعيد؛ بل يوجد من يقرأ الآية، فيفهمها على غير وجهها، أو يقرؤها فيضادها، ويعاند ما دلت عليه، وهذا وارد حتى في العمليات؛ فالتيمم -مثلاً- كيفيته معروفة، وكل واحد من الصحابة فهم هذه الكيفية؛ فـعمار رضي الله عنه قال: فتمرغت كما تتمرغ الدابة، وكأنه ظن أن التراب ما دام ينوب عن الغسل، والغسل يكون للجسم كله، فعليه أن يتمرغ بكامل جسمه في التراب؛ فهذا اجتهاده.
    يقول المصنف: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة]، المقصود بالإثبات العام هو أن يكفر كل مبتدع أو يكفر كل من قال بكذا.
    فأراد المصنف رحمه الله أن يرد عليهم، وذكر الدليل الأول، فقال: [فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] أي: لازم قولهم أن من فعل هذا، فقد كفر وأنه لن يدخل الجنة، وأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فهل يستطيع أحد أن يثبت ذلك في حق كل مبتدع، وفي حق كل قائل دون تفريق بين من يقول بالبدعة متأولاً مجتهداً مخطئاً وبين من يقول بها رداً وجحوداً وعناداً؟!
    فما دام ذلك غير ممكن، فإنه يجب علينا أن نفرق بين هذا القائل وبين ذاك، وإن كان القول واحداً، وإلا لزم من ذلك أن نحكم على كل من وقع في أي بدعة بأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فيرد على هذا القول أن أناساً يفعلون هذه الأفعال، ونحن لا نستطيع أن ننفي الإيمان من قلوبهم، ولا سيما من كان صادقاً ومخلصاً، وأراد الحق ولم يوفق إليه.
    ويحب أن نفرق بين من أخطأ من أهل السنة في بعض أمور العقيدة، وبين من ابتدع من المبتدعة في هذه الأمور، فلابد من التفريق بين النوعين، وهذه مسألة عظيمة ومهمة؛ إذ ليس كل أحد من أهل السنة معصوماً، بل يمكن أن يخطئ بعض أهل السنة حتى في أمور الاعتقاد، لكنه يظل من أهل السنة ما دام قد اجتهد فأخطأ.
    وأما أهل البدعة الذين هم أهلها، فهم الذين فعلوها عن جحود للحق وإنكار وشبهة، ولم يستجيبوا لمن كشفها، واعتمدوا على أصل من الأصول غير الكتاب والسنة.
    فقد يتفق السني والبدعي في الواقع والحال، لكنهما يختلفان في الحكم، ولهذا كانت عبارات السلف رحمهم الله دقيقة، فأحياناً يقولون: هذا قول المعتزلة ووافقهم عليه فلان من الرافضة مثلاً، وموافقته لهم لا تعني أنه منهم، لكنها تعني أنه وافقهم عليه وأقرهم، وقال بمثل قولهم، فبذلك نفرق بين المخطئ من أهل السنة وبين المبتدع، وإن كانت البدعة قد تكون أحياناً واحدة.
    وهناك أمثلة تطبيقية على هذا، وعندنا في باب الإيمان مثال واضح لذلك، فإننا سنجد أن بعض أئمة السلف وقعوا في الإرجاء.
    ومع أننا سنذكر الوعيد والإنكار الشديد من أهل السنة على المرجئة، فلابد أن نفرق بين من وقع فيه عن خطأ وبين من وقع فيه عن تعمد وابتداع.