التكفير وعدم التكفير باب عظمت فيه الفتنة، وكثر فيه الاختلاف، وتشتت فيه الأهواء والآراء، والناس في تكفير أصحاب المعاصي والمخالفات العقدية طرفان ووسط: فالمرجئة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، والخوارج يكفرون أهل الكبائر، وأهل السنة وسط في ذلك، فلا يكفرون بكل ذنب، ولا ينفون الكفر نفياً مطلقاً.
  1. اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه

    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير بابٌ عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
    فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
    وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً.
    والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: [[إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء]]، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ))[الأنعام:68]]
    اهـ.
    الشرح:
    حتى تفهم العبارة فهماً صحيحاً لابد من وضع خط اعتراض بعد (فالناس فيه) إلى (في اعتقادهم) فتكون الجملة الاعتراضية: "في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم" فكأن العبارة: الناس فيه على طرفين ووسط، أي فيما بين علامتي الاعتراض.
    وقال أطال المصنف رحمه الله تعالى في الكلام في التكفير وعدم التكفير، وحكم مرتكب الكبيرة، واختلاف الفرق فيه، وأنواع الكفر والنفاق، ولكنه فرق الكلام مع ما فيه من تكرار وتداخل تبعاً للأصل، فإن الإمام الطحاوي رحمه الله فرق الكلام في التكفير، فالكلام مفرق ومتداخل على وجه العموم، وسنجتهد بإذن الله أن لا يكون هناك تكرار، فنقول:
    ذكر المصنف رحمه الله أن أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق اختلفوا في تكفير غيرهم من الفرق، والمقصود بالمقالة هنا: الاعتقاد والعقيدة، فكلمة (القول) قد تطلق بمعنى الاعتقاد، فإذا قيل: هذا قول الجهمية أو قول الكرامية، فالمراد هو اعتقادهم، لا مجرد لفظهم؛ لأن القول يشمل قول اللسان وقول القلب، أي: اعتقاده وإقراره.
    يقول رحمه الله: [أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم]، ثم أجمل ذلك بأن جعلهم على طرفين ووسط، فقال: [فالناس فيه.. على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
    فيلاحظ أنه قسم الخطأ الذي اختلف في تكفير أهله إلى نوعين: الأول: اعتقاديات أو علميات، والثاني: العمليات، فالاعتقاديات: مثل أن نعتقد أن عذاب القبر حق، فهذه عقيدة، والعمليات: مثل الصلاة، فهذا عمل نعمله، وبينهما تلازم؛ فإن الأمر وإن كان اعتقادياً فإنه يلزم منه العمل، فمن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه يلزم من ذلك أن يعمل له، وأيضاً من يؤدي الصلاة يلزم من ذلك أن يكون مؤمناً بالله مؤمناً بالصلاة وبوجوبها، فالتلازم موجود، لكن التفريق فقط من باب الإيضاح ولمعرفة حكم كل منهما.
    وأول ما نشب الخلاف في هذه الأمة وحصل فيه النزاع بين الخوارج والمرجئة وأهل السنة ؛ كان في العمليات، أي: في حكم العاصي الذي ترك واجباً أو فعل محرماً، وهذا كان في الصدر الأول للأمة، ولكن تطور الأمر بعد أن ظهرت الفرق وأصبح لكل فرقة منهج مستقل وأدلة وبراهين وحجج وشبهات، فبدأ الكل يكتب ويتكلم في بيان خطأ المخالف له في هذا الاعتقاد، فبعد أن كان الاختلاف في التكفير أو عدم التكفير مقتصراً على الأمور العملية؛ أصبح اختلاف الناس في مسائل المقالات -أي: الأمور العلمية الاعتقادية- من جنس اختلافهم في أمور الكبائر العملية.
    1. المرجئة لا تكفر أحداً من أهل القبلة

      يقول ابن أبي العز رحمه الله: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين...] إلخ، يعني بأهل القبلة: كل من أظهر الإسلام بالشعائر الظاهرة، فهو عندهم لا يكفر أبداً، فأطلقوا القول، وقالوا: لا نكفر أحداً، وأوضح مثال على هؤلاء هم المرجئة، وهم أصناف، وهذا هو مذهبهم، وممن ذكر ذلك صاحب المواقف عضد الدين الإيجي في المقصد الخامس في موضوع الإيمان عندما تكلم عن التكفير؛ فقال -في معنى كلامه-: (جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة) يعني: مهما اعتقد من اعتقادات فإنه لا يكفر، ثم قال: (وتحامقت المعتزلة بعد أبي الحسين البصري، فكفروا أصحابنا) يعني كفروا الأشاعرة، قال: (فرد عليهم بعض أصحابنا بالمثل)، أي أنه ظهر أيضاً من الأشاعرة من يكفر المعتزلة، فالفتن في هذه الأمة فتن قديمة ومستمرة ما لم تعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وكفرت المجسمة من خالفهم)، والمقصود بـالمجسمة في الغالب عند أهل الكلام أو عند نفاة الصفات هم أهل السنة والجماعة، ثم قال: (وقال الأستاذ: لا نكفر إلاَّ من كفَّرنا، أو قال: من كفَّرنا كفَّرْناه وإلاَّ فلا)، ويعنون بالأستاذ غالباً أبا منصور البغدادي، وبعضهم يقول: الأستاذ؛ ويعني به أبا إسحاق الإسفرائيني، وإن كان البغدادي عندهم أشهر وقد نسب الإيجي الكلام في هذا إلى جمهور المتكلمين والفقهاء، وهو بذلك يريد أن يقوي هذا القول، وهذه النسبة غير صحيحة، وبيان ذلك:
      أولاً: بالنسبة للمتكلمين فإنالمعتزلة هم رأس علم الكلام وأصله وأساسه، وهم مع ذلك ضد هذا القول تماماً؛ حتى إنهم -كما ذكر- يكفرون الأشاعرة أنفسهم.
      ثانياً: وأما الفقهاء؛ فنسبة هذا القول إليهم ليس بصحيح؛ إذ أن كل مذاهب الفقه الأربعة وغير المذاهب الأربعة كالظاهرية وما شابهها، تذكر في كل كتاب من كتبها: باب المرتد، أو باب الردة، أو باب أحكام أهل الردة -تختلف الأسماء، ولكن المسمى واحد- فكل الفقهاء مجمعون على أن هناك مرتداً.. لكن ما هي أحكامه؟ ومتى يكفر؟ هنا يفصلون الكلام، وبعضهم أكثر غلواً -إن صح التعبير- من بعض، مثل بعض كتب الفقه الحنفية، فإنها تستطرد وتذكر أموراً غريبة -على الأقل عند المخالف لهم- فمثلاً يقولون: من قال: مصيحف أو مسيجد كفر؛ لأنه صغر المسجد، وهذا يشعر بالاحتقار، وكذلك إذا أهدى إلى مجوسي بيضة في يوم النيروز كفر؛ لأنه عيد من أعياد المجوس، وقد ذكر هذا علي القاري في الفقه الأكبر .
      إذاً: فغير صحيح أن الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وهذه القضية ليست قضية نظرية، ولم تكن كذلك عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، حيث ثاروا وقاموا في وجهه في أكثر البلاد، وقالوا: إنه يكفر المسلمين، وهذه هي الشبهة التي يرددونها دائماً ولا ينفكون عنها في كل البلاد، منذ ثلاثة قرون وإلى الآن وهم يكررون ويقولون: إن الشيخ رحمه الله يكفر المسلمين، فإذا قيل: وأنتم كذلك! قالوا: نحن لا نكفر أحداً! وقد أرادوا الطعن في دعوته رحمه الله تعالى بهذا الشيء، وأنه خارج عن الإجماع وأنه يكفر المسلمين، ولكن في حقيقة الأمر أنهم هم الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وخرجوا عن الكتاب والسنة بدعواهم أن أهل القبلة فلا يكفر منهم أحد، وأن كل من قال: (لا إله إلاَّ الله) لا يكفر، والغريب أن الأولين من المرجئة كانوا يقولون: إن الذي يقيم أحكام الإسلام الظاهرة لا يكفر، أي: يصلي ويصوم ويزكي -كما سبق بيانه- لكن وصل الحال عند أكثر المتأخرين إلى القول بأنه ما دام يقول: (لا إله إلاَّ الله) فإنه لا يكفر وانتشر هذا حتى أصبح كأنه قضيةٌ بدهية مسلّّم بها.
    2. الرد على المرجئة بأن في أهل القبلة منافقين

      ويقال لهم: نريد ولو واحداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلاَّ الله)، ولم يصلِّ ولم يزكِ ولم يحج ولم يجاهد ولم يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وظل في عرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين أنه من المسلمين والمؤمنين؟ لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على ذلك أبداً، فلذلك يقول المصنف رحمه الله: "فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين..."، فأوضح دليل في الرد عليهم: أن في أهل القبلة من يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويدعي الإيمان، ويصلي مع المؤمنين في المساجد، ويزكي معهم زكوا أو تصدقوا، ويجاهد معهم إذا جاهدوا العدو، ومع ذلك فهو منافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كافر في الباطن، وهو في الدرك الأسفل من النار مع الكفار.
      والأدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة على أن المنافق كافر مع أنه يأتي بالشعائر أو الشرائع الظاهرة، ومع ذلك فهو كافر لنفاقه، فكيف يقال بأنه ليس في أهل القبلة من يُكفَّر؟ فهذا يكفر بناءً على ما في قلبه من المرض الذي أوصله إلى الخروج من الملة.
      ومن الأدلة على أن المنافقين كفار مع أنهم يقولون: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ قوله تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ))[المنافقون:1]، فقد نطقوا بالشهادة، ومع ذلك قال تعالى: ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))[التوبة:107]، فمن كذب في دعوى الشهادة فليس بمؤمن، وقد كان عبد الله بن أبي يقوم ويخطب في القوم مبيناً فضل الله تعالى ونبيه عليهم، ويشهد أن محمداً رسول الله، لكن لم ينفعه شيء من ذلك.
      ومن أبلغ الأدلة على كفر المنافقين سورة التوبة -وهي من آخر ما نزل بعد غزوة تبوك - وقد سميت الفاضحة أو المخزية أو المشقشقة؛ لأنها فضحتهم وأخزتهم وشقشقت عما في قلوبهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيها كفرهم وردتهم بسبب النفاق، مع أنهم كانوا يظهرون الإسلام، بل إنه أثبت أنه كان لديهم دين وإسلام، قال الله تعالى: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ))[التوبة:84]، وآية أخرى: ((وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ))[التوبة:54] فقد كانوا يصلون وينفقون، ثم قال بعد ذلك: ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))[التوبة:55]، وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:65-66].
      فهذا دليل على أنهم كفروا مع أنه أثبت أنه كان لهم إيمان من قبل.
      وقال تعالى: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا))[النساء:145]، وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ))[البقرة:8] وقال تعالى: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا))[التوبة:74]، وكذلك في سورة البقرة والنساء وفي كثير من السور إثبات أن المنافقين كفار.
      إذاً: المنافقون هم في ظاهر الأحكام من أهل القبلة: يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، باللسان، ويصلون، وينفقون مع من ينفق من المؤمنين، ويخرجون للجهاد، وقد خرج بعضهم كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك -وقد يتخلف بعضهم- ومع ذلك فهم كفار وليسوا بمؤمنين، وهذا من أقوى الردود على من يزعم أنه ليس في أهل القبلة من كفار.
      وقد يقول بعض الناس: أولئك هم المنافقون في صدر الإسلام. وكأن النفاق ما وجد إلاَّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنقول: لا، بل إنه كلما ازداد بُعد الأمة -في جملتها- عن الإيمان الحق؛ اشرأب النفاق وأصبح أظهر وأشهر وأكثر انتشاراً، وكثير من الناس هذا حاله، حتى ذكر أن الحسن البصري رحمه الله سمع رجلاً يدعو ويقول: [[w=8000750>اللهم أهلك المنافقين، فقال: لا تقل هذا -يا ابن أخي- فإنه لو فعل لخلت الطرقات]] لأن أكثر الناس فيهم شعبة من النفاق على الأقل، إن لم يكن نفاقاً خالصاً، نسأل الله العفو والعافية.
      إذاً: في أهل القبلة من هو من المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك الكفر إذا سنحت لهم الفرصة وأمكنهم ذلك، وهم يتظاهرون بالشهادتين! فإذا جاءت المحن ظهروا، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل المحن والأحداث تمحيصاً لما في القلوب، وتمييزاً يبن المؤمن الحق والمنافق الزائغ، قال تعالى: ((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:141]، وقال جل ثناؤه: ((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))[الأنفال:37]، فمثلاً: بعد معركة بدر دخل كثير من المنافقين في الإسلام، وخرست ألسنتهم وأذعنوا، لكن بعد هزيمة أحد ؛ رفع المنافقون رءوسهم، وأيضاً يوم الأحزاب أثناء الشدة عندما رأوا أن المؤمنين مقهورين، ولا حيلة لهم، وظنوا أنهم قد انتهوا، وما بقي إلاَّ أيام أو أسابيع وينتهي أمر هذا الدين؛ حينها ظهر النفاق، وأعلن المنافقون نفاقهم، وقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يعدنا بملك كسرى وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لكي يقضي حاجته!
      وهذا هو حال المنافقين على مر التاريخ الإسلامي عموماً، إلا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد كان النفاق خافتاً خافياً ذليلاً، فلما قبضه الله ظهرت الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه، وإذا بالنفاق يظهر، وإذا بـعبد الله بن سبأ يشعل الفتنة في الكوفة، وفي مصر، وغيرها، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه.. وهكذا إذا ضعف الإيمان، وإذا ضعف أهل الحق؛ ظهر المنافقون وكشروا عن أنيابهم، فهم كالأفاعي تتستر متحينة الفرصة المناسبة، والسم ناقعٌ في أنيابها.
      وكلما ظهر عدوٌ للأمة أعانوه، فعندما جاء الصليبيون ظهر المنافقون ظهوراً واضحاً في بعض دويلات الرافضة في مصر، وفي بلاد الشام، وكان من ملوكهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وغيره، ممن فتحوا الحصون لأعداء الأمة، وأعطوهم السلاح، وأعانوهم على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- فظهر نفاقهم، ولمَّا جاء التتار بقيادة هولاكو الذي دخل بغداد، قام ابن العلقمي ومن يسمى نصير الدين الطوسي وأظهرا النفاق وراسلا هولاكو، وظهر شيوخ الطرق يجاهرون بضلالهم، حتى إن بعضهم كان يقود فرس هولاكو ؛ لأن المؤمنين قد قضي عليهم، ولم يعد لهم قوة فلم تعد هناك حاجة في أن يتظاهر بالإيمان، فأظهر النفاق، وأصبح في ركب أعداء الله وأعداء الإسلام.
      فالنفاق موجود في هذه الأمة منذ أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنفاق: هو عدم الإيمان والإخلاص والإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عن صدق واعتقاد بالقلب.
      يقول رحمه الله: [وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم]، فإذا كانت الفرصة مواتية، والمصلحة موجودة؛ ظهر نفاقهم وكفرهم، وإلا فلا.
    3. من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر بالإجماع

      قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً].
      فلو أن إنساناً أنكر أن الزكاة واجبة، أو أنكر أن الصلاة واجبة، أو أنكر أي واجب من الواجبات -ونقصد بها ما كان ظاهراً متواتراً معلوماً من الدين بالضرورة، فجاء أحد فأنكره فقامت عليه الحجة- فإنه كما يقول المصنف: "يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً"؛ لأنه أصر وعاند في إنكار أمر ظاهر معلوم من الدين بالضرورة.
      وأما استحلال المحرم فكأن يأتي من يقول: إن الزنا -والعياذ بالله- حلال، أو أن الخمر حلال، وجاهر بذلك، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه قد استحل أمراً مجمعاً على تحريمه، معلوم لكل مسلم أنه محرم، ولا يدخل في ذلك من أسلم حديثاً، أو من جاء من بادية أو غيرها، ولم يعرف أحكام الإسلام فإن المقصود بالحكم هو حال أغلب الناس، أي: من كان مسلماً ويعرف شيئاً من دينه، فيعلم وجوب الصلاة، ويعلم حرمة الزنا، فمثل هذا إذا استحل شيئاً من ذلك، وقامت عليه الحجة، واستتيب فلم يتب وقتل؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً، وسيأتي مزيد بسط لهذا قريباً إن شاء الله تعالى.
      ومن الأمثلة على ذلك: حديث قدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة متأولين قوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[المائدة:93]، فلما ذكر ذلك لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً تزوج امرأة أبيه، فأرسل إليه من قتله؛ لأن هذا استحلال لأمر قد علم من دين الإسلام بالضرورة أنه حرام.. وهكذا، فالحال في مثل هذا أن من شرب الخمر وأُتي به، فإن اعترف بالتحريم جلد؛ لأن غالب من يشرب الخمر فإنه يشربها عصياناً، لكن لو جاء أحد وقال: هي حلال؛ فإنه يقتل في هذه الحالة ردة وكفراً والعياذ بالله! وكذلك لو استحل شخص الزنا؛ كحال كثير من الناس في هذا العصر الذين يرون أن الزنا مباح، ويسمونه: حباً، ويقتدون في ذلك بالغربيين الذين لا يرون هذه الفاحشة إلاَّ مجرد علاقة شخصية، ولا يرون فيها جريمة إلاَّ إذا كانت اغتصاباً! أو كانت من الزوجة على فراش الزوجية! أما إذا كانت علاقة مع أحد خارج البيت -عياذاً بالله- أو مع امرأة غير متزوجة، فتعاشر هذا يوماً وهذا ساعة كما تفعل الكثيرات منهن، وهي راضية وهو راضٍ، فإن هذا الأمر لا يعد جريمة في عرف الغرب! والقوانين الغربية صريحة في إباحة ذلك.
      فجاء بعض من ينتسب إلى الإسلام وأخذوا يبثون هذه الأمور: الشعراء منهم في شعرهم، والكتاب في كتاباتهم، والصحفيون في صحافتهم.. ومما عرض علينا من ذلك ما كتبته تلك المرأة التي كانت عميدة كلية الشريعة والحقوق في جامعة الكويت، فقد كتبت تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية -وهي تعني تعديل الشريعة- فتقول: لابد أن تعدل الأعراف، أو ما هو مألوف عندنا نحن في الشرق بأن المرأة أقل من الرجل، وأنها ترث نصف ميراث الرجل، وأن القوامة للرجل، وإباحة الحب للمرأة، وهي تطالب بتعديل ذلك بحجة مواكبة العصر!! وما أكثر ما كنا -وما نزال- نقرأ ونسمع عن ذلك! نسأل الله العفو والعافية.
      المقصود: أن استحلال المحرمات الظاهرة المعلوم تحريمها كفر وردة، وإن كان صاحبها يدعي أو يزعم أنه مسلم، حتى مسألة الحجاب، فإن المرأة التي تخرج متبرجة متكشفة، وهي تعلم أن هذا معصية، ولكن دواعي الهوى والشهوة والغفلة دعتها إلى ذلك، فهي عاصية مذنبة فاجرة، ولكن لو أنها خرجت بناءً على أن الحجاب غير واجب عليها، وإن كان في القرآن، وإن كانت الصحابيات ملتزمات به، وإن رددت ما يزعمه البعض بقولهم: إن الحجاب كان في عصور الظلمات، ونحن الآن في عصور التحرر والانطلاق والحرية والتقدم والتطور! فهي إن نزعت الحجاب معتقدة أنه غير واجب عليها، فليس فعلها مجرد معصية، وإنما ردة وكفر والعياذ بالله!
      وقد كتب في مسألة عدم وجوب الحجاب الكثير من المفكرين والكتاب، وحاربوا الحجاب أشد المحاربة، ومن هؤلاء: درية شفيق، وأمينة سعيد، وقاسم أمين، وأمثالهم ممن لا يزالون يكتبون ويدعون إلى مثل ذلك، وبعضهم قد أهلكه الله عز وجل. فمستحلة التبرج والسفور مرتدة كافرة وليست مجرد عاصية؛ إذ أن العاصية إذا خُوفت وذكرت فإنها تقر وتلتزم بالحجاب، أما هذه فإنها تعاند وتكتب وترد على من يستدل بالآيات والأحاديث، ولو قيل لبعضهن: إما أن تتوبي وإلاَّ قتلناك؛ لاختارت -عياذاً بالله- أن تموت على غير توبة؛ لأنها أصبحت عندها عقيدة ومنهجاً.
      وكذلك في الربا، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى مستدلاً على كفر التتار، أن أناساً من ثقيف امتنعوا عن تحريم الربا، مع أنه من آخر ما نزل من المحرمات -ومعنى قوله رحمه الله: مع أن الربا من آخر المحرمات: أنه أي قد يخفى تحريمه بالنسبة لمن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام- ومع ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))[البقرة:279]، فدل ذلك على وجوب قتال الطائفة إذا اجتمعت على فعل محرم أوترك واجب، وهذا القتال ليس من جنس قتال البغاة، ولكن من جنس قتال أهل الردة، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وذلك لأن الطائفة اجتمعت لتدافع عن هذه القضية بالسيف، فمعنى ذلك: أنها أصبحت لديها عقيدة ومبدأ، وليست مجرد معصية، ولو أن رجلاً واحداً في ذاته شرب الخمر فيحمل في الأصل على أنه عاصٍ، لكن إذا كانت قبيلة -أو مدينة أو دولة- أعلنت أن الخمر من روافد اقتصادها، وأنها تعصر الخمر وتبيعه وتصدره، فكتب إليها المسلمون وناصحوها، فقالت: لا نمتنع أبداً! ونحن مستعدون أن نقاتل دون هذا الشيء، وتجمعوا وحملوا السلاح، وجاءوا لقتال من يقاتلهم من أجل هذا الحرام، فهؤلاء يقاتلون قتال ردة وليس قتال بغاة؛ لأن الباغي أو قاطع الطريق يُقَاتل مع اعتقاد أنه مسلم، أما هؤلاء فقتالهم قتال ردة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا الأمر.
      ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله في ضمن الفتوى أن بعض أهل العلم قال بقتال من عطل شيئاً من الشعائر، وحتى ما هو أقل من الشعائر مثل ركعتي الفجر أو صلاة الاستسقاء، أو ما أشبه ذلك، وإذا امتنعت أمة عن الجهاد في سبيل الله وقالت: لا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على أهل الكتاب، فإنها أيضاً تقاتل؛ لأنها تركت أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهو الجهاد وفرض الجزية. وهذا من باب الامتناع عن أداء واجبات معلومة من الدين بالضرورة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح الذي ذكرناه فيما سبق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرية، فإن سمعوا الآذان وإلاَّ أغاروا؛ لأن سماع الأذان يعني أن هذه دار إسلام، فهم معصومون، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا عليهم، فهم ليسوا بمعصومي الدم والمال؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لأذنوا للصلاة، وهذا هو الفرق بين الدارين.
      إذاً: المثال الأول على أن بعض أهل القبلة كفار: هم المنافقون، والمثال الثاني: هم الممتنعون عن الالتزام بالشريعة. ولا يستطيع المرجئة إنكار ذلك؛ فدل ذلك على خطأ دعواهم في عدم تكفير أحد من أهل القبلة.
    4. الواجبات التي يكفر منكرها والمحرمات التي يكفر مستحلها

      والواجبات التي يكفر منكرها هي الظاهرة المتواترة، وهناك واجبات ليست ظاهرة متواترة، وهناك فرق بين هذه الواجبات وشعب الإيمان عموماً، فمثلاً: إذا نكح رجل امرأة أبيه، أو تزوج من محارمه كأخته -عياذاً بالله- فإنه يكفر؛ لأن هذا ظاهر متواتر، لكن قد يغفل بعض الناس عن بعض أحكام الرضاعة، فيتزوج أخته من الرضاعة مثلاً، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا الأمر غير ظاهر، فيمكن أن تخفى الأخوة من الرضاعة، لكن لا تخفى الأخوة من النسب. وكذلك الأمر في المحرمات، فمثلاً: تحريم الزنا لا يخفى على أحد، لكن بعض النساء في بلاد كثيرة لا ترى أن ترك الحجاب حرام، مع أنه ظاهر متواتر بالنسبة للدين، لكن نقول كما قال رحمه الله: (فإنه يستتاب) أي: يبين له أن هذا واجب وأن هذا حرام. فالمقصود: أن بعض الواجبات أدق من بعض، وبعض المحرمات أظهر تحريماً من بعض، فمثلاً: الربا الصريح عند الجاهلية وظاهر مشهور متواتر، لكن -مثلاً- بيع العينة، وبعض أنواع البيوع كبيع الغرر؛ فإنه محرم، لكنه أقل وأخفى ظهوراً أو تواتراً من الربا، وكذلك في العبادات نجد أن بعض الأمور أظهر من بعض، فإن الناس -مثلاً- يعلمون أن الأذان واجب؛ لأنه معلوم وظاهر في بلاد الإسلام، وأن الصلاة أيضاً واجبة ظاهرة في بلاد الإسلام، لكن قد يخفى على بعضهم واجبات أخرى، كبعض الصلوات التي قد يرى بعض العلماء وجوبها، أو بعض الواجبات في الصلاة نفسها، والمقصود بكلام الشيخ رحمه الله هو الواجب الظاهر المتواتر.
    5. تنزيل الحكم على المعين

      أما عند تطبيق الحكم على المعين، فإنه يجب ملاحظة أن الناس يتفاوتون في الحكم عليهم بحسب أحوالهم، فلو أن عالماً درس الشريعة وأخذ عليها الشهادات، وهو يعد من العلماء، أفتى بأن الخمر حلال؛ فإنه يكفر، ولا يُتردد في تكفيره؛ لأنه عالم، لكن لو أن رجلاً جاء من البادية وقال: أنا مسلم، وهو يرى أن الخمر حلال، أو أن الزنا حلال؛ فإنه يعذر ويُعلَّم.
      فهناك فرق بين الناس بحسب البيئات وبحسب الأحوال عند التطبيق، كما سيأتي شرحه كاملاً، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع حتى يكفر المعين بذاته، لكن من حيث الحكم العام فإنه يطلق على الفعل بأنه كفر، ومن بُين له الدليل وقامت عليه الحجة وأصر على الإنكار، فإنه يكفر، أي: أن من بين له الدليل على أمرٍ محرم فأصر، فإنه يكفر، وهذا من باب كفر العناد، لكن ينبغي ألاَّ نخلط بين من عاند ورد الدليل وعنده شبهة، وبين من رده دون شبهة، فمن لم يكن لديه شبهة ورد الآية أو رد الحديث، أو ردهما معاً، وأصر على رأيه ولم يقبل الإذعان لأمر الله ورسوله، فهذا هو الذي يكفر، وأما المتأول وهو الذي يرد الدليل، وعنده دليل آخر، ولكن لا دلالة فيه، وهو يرى أنه دليل بالنسبة له، كأن يستدل بكلام عالم من العلماء، وهذا العالم مخطئ ولا يجوز تقليده، أو قد يكون كافراً مرتداً ولا يؤخذ بكلامه، لكنه يرى أنه إمام معتبر؛ فهذا يسمى متأولاً.
      وكلامنا هنا إنما هو فيمن يرد الآية أو الحديث رداً بلا شبهة ولا تأويل، وهذا يدخل فيه أمور قد تساهل فيها بعض الناس، فمثلاً: هناك أشياء يرى بعض الناس أنها سهلة ولا محذور في إتيانها، فإن كان دافع المرء لإتيانها الإنكار والجحود ورد الأدلة؛ فإن الأمر خطير جداً - نسأل الله العفو والعافية-؛ لأنه ينافي أصل الإيمان؛ إذ أن أصل الإيمان هو الإذعان والانقياد والرضا، فإذا لم يوجد عنده أصل الإيمان أو الإذعان فإنه يكفر، وإن كان العمل في الأصل لا يكفر من فعله إن كان محرماً، أو من تركه إن كان واجباً، لكن إذا لم ينقد للأمر في ذاته وفي نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يكفر، ولهذا قلنا: إن الطائفة الممتنعة عن أداء الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة تقاتل قتال ردة؛ لأن اجتماعها وامتناعها ومقاومتها للحق ليس مجرد عصيان ومخالفة غير مكفرة، وإنما هو كفر ناتج عن اعتقاد؛ لأنها رد للحق، وهذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب فقال: ((وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ))[التوبة:29]، فقوله: (لا يدينون دين الحق) لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول -عياذاً بالله من هذا الزيغ والكفر- وهذا واضح، لكن زيادة على ذلك فإنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فإنهم يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، وهذا من أسباب كفرهم، مع أنهم كفار في العقيدة، لكن الكفر تجتمع له أسباب كثيرة، فالنصارى مثلاً يكفرون بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وأيضاً يكفرون باستحلالهم أكل الخنزير، وشرب الخمر.
  2. أسباب الوقوع في الردة والنفاق

    يقول: [والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور]، فالإيمان له أبواب والكفر له أبواب، فمن أبواب الإيمان الطاعات جميعاً، فإن الإنسان إذا سلك باباً من أبواب الإيمان مثل: الصبر، والصيام، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه يهتدي إلى أوضح السبل ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت:69]، ويصل بإذن الله إلى كمال الإيمان وتحقيقه وطمأنينته في قلبه.
    وإذا سلك الإنسان طريق البدع والفجور، فإنه يصل إلى النفاق والرد عياذاً بالله! فإن المبتدع قبل أن يصبح زنديقاً منافقاً يبدأ بالشك في بعض الأحاديث، فيرد الأدلة بالشبهات، ويقول: هذه الأحاديث أخبار آحاد.. وهذه الأحاديث تخالف العقل؛ حتى يفضي به الأمر إلى أن ينكر أموراً معلومة من الدين بالضرورة، دلت عليها هذه الأحاديث، وربما أنكر السنة كلها، وربما طعن في الرواة بأجمعهم، وربما طعن في كتب الحديث بأكملها، وربما طعن في الصحابة الذين رووها، نسأل الله العفو والعافية.
    1. البدع من أسباب الردة والكفر بالله

      وهكذا تبدأ البدعة، كما قال بعض السلف : (واحذر صغار البدع، فإن البدع تبدو صغاراً، ثم تغدو كباراً)، وقال الآخر: (ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً)، فالبدع لا تقف عند حد، فيأتي أحدهم فيقول: أنا لا أفضل علياً على أبي بكر وعمر، ثم بعد ذلك يقول: أبو بكر وعمر فيهما كذا وكذا، فيطعن فيهما، ثم يئول به الأمر إلى أن يخرجهما من الدين، وفي شأن عائشة رضي الله عنها يقول: لقد قاتلت علياً، وأخطأت، ثم يتجرأ أكثر فيقول: فعلت .. وفعلت .. حتى يصبح -عياذاً بالله- كـالرافضة الذين يفترون عليها الإفك الذي برأها الله تبارك وتعالى منه.. وهكذا.
      ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه أن أكثر الناس نفاقاً في هذه الأمة وردة هم الرافضة؛ لأنهم يبتدعون بدعاً تجعلهم يصلون إلى النفاق بسرعة، وقد ذكر أبو الربيع الزهراني رحمه الله تعالى أنه لقي رجلاً كان له جار من أهل الزندقة وكان يظهر الرفض، ثم لما تاب سأله، فقال: إنا فكرنا فوجدنا أقرب أهل الأهواء إلينا الرافضة.
      فمن أراد أن يصل إلى الكفر من طريق البدعة فليأتِ من طريق الرافضة ؛ لأنهم شر أهل البدع، فيبدأ الرافضي بالطعن في الإسلام من خلال عقيدة الرافضة، فإذا كان في مجلس طعن في أبي بكر وعمر، وطعن في بقية الصحابة، وتكلم في القرآن، وأن فيه كذا وكذا، فلو قيل: إن هذا كافر زنديق، لقيل: إن هذا شيعي، وهذه عقيدته، وهذا هو مذهب الشيعة .
      ولذلك فإن الباطنية والقرامطة كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وغيره ممن كتب عنهم، قالوا: أول ما يدخلون على المريد أو العامي أو الساذج من باب علي والتشيع له، ويظهرون له بعد ذلك مثالب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيقولون: أبو بكر فعل.. وعمر فعل.. والصحابة فعلوا.. حتى يقتنع بأن هؤلاء الصحابة كلهم مرتدون إلاَّ الاثني عشر أو الأربعة.. وهو إلى هنا لا يزال يسمى رافضياً، ولا يزال يرى نفسه مسلماً، ثم بعد ذلك -كما قال:- إذا تمكن من ذلك أظهروا له مثالب علي والأربعة الباقين، أو الخمسة أو السبعة أو الاثني عشر، فيظهرون عيوبهم ويقولون له: إن علياً فعل أشد من عمر، فلماذا لم ينكر علي على عمر عندما غير المصحف؟! وقد زوجعلي عمر ابنته! إذاً: علي كان موالياً ومداهناً لـعمر وللكفار؛ لأنه قد تقرر عنده أنهم كفار، فيكفر هؤلاء البقية، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي قولهم: إن الأنبياء ما هم إلا ساسة عباقرة، فيدخلون على أتباعهم بمثل قول الشاعر:
      ولا ترى الشرع            إلاَّ سياسة مدنية
      فيقولون: إن الأنبياء أرادوا أن يصلحوا الناس بالشريعة التي هي سياسة مدنية، فلو جاءوا إلى العامة من باب العقل لما قبل كلامهم إلاَّ الحكماء -والحكماء دائماً قليل- لكن العامة لا ينزجرون إلاَّ بالتخويف، فاختلقوا ما يسمى: الجنة والنار والوعد والوعيد، وقالوا: إن هذا من عند الله، وفي النهاية يكفر بالرسل -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا تكون مداخل أهل البدع قديماً وحديثا!!ً
    2. المعاصي من أسباب الردة والكفر بالله

      ثم يأتي بعد ذلك سبب آخر: وهو المعاصي والفجور -نسأل الله العفو والعافية- فإن الشاب إذا ذهب إلى بلاد الكفار كـ أمريكا أو غيرها للنزهة وللتمتع ونحوها، فلن يقال له من أول الأمر: اكفر، ولو طلب منه ذلك فإنه لن يقبل، لكنهم يتدرجون معه في بادئ الأمر، ويحثونه على ارتياد المسارح والمراقص؛ معللين ذلك بوجود كثير من الشباب ممن يصلون يفعلون ذلك، فيبدأ بالانحراف معهم، ويبدأ بالفاحشة -عياذاً بالله- فيقع في الزنا، ثم يقال له: إن الخمر يقوي الطاقة والنشاط، فيشرب الخمر حتى يدمن عليها، ثم بعد ذلك يقال له: إن التمتع والتحرر هو أصل الحياة، أما الدين والتقاليد والعادات فإنما هي قيود لا حقيقة لها.. فيكفر -عياذاً بالله- ويرتد.. والسبب في ذلك هو الفجور والمعصية.
      قال المصنف رحمه الله: [كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: [[w=8000701>إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء]] ] وصدق رحمه الله، وهذا أمر واقع في أهل الأهواء كـالرافضة والخوارج والصوفية؛ فإن الصوفي قد يبدأ بالذكر البدعي وينتهي بوحدة الوجود وبعبادة القبور، كما هو معلوم من حال كثير من الصوفية والشيعة .
      قال: "وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ))[الأنعام:68]"، كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى يرى أن هذه الآية نزلت في أهل البدع، والمقصود بالخوض في الآية: هو الخوض الكفري، فهو أصل الخوض المنهي عنه من أساسه، وهو أعظمه، وهو يعني: خوض الكفار في أمر يعد كفراً في ملتنا، لكنه يشمل ما دونه وهو خوض أهل البدع في آياتنا، فيضربون كتاب الله تعالى بعضه ببعض، ويضربون الأحاديث بعضها ببعض، ويقولون: هذا يخالف النص.. وهذا يخالف العقل.. وهذا يخالف الإجماع.. فهم يخوضون في الآيات، ويتكلمون في دين الله، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، ولا يبالون أن يقعوا في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصحابة؛ فضلاً عن الفقهاء أو العلماء، فإنهم يقعون فيهم ويستسهلون ذلك تماماً، ويطعنون فيهم بكل عيب ومنقصة، فهؤلاء قد نهينا عن مجالستهم تبعاً للنهي عن مجالسة من يخوضون في الكفر؛ لأن أهل البدع قد يصل خوضهم إلى الكفر -نسأل الله العفو والعافية- عندما يصلون إلى درجة النفاق الأكبر، ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68].