لقد كان ظهور الرازي مرحلة جديدة من مراحل المذهب الأشعري، انصرف بعدها المذهب إلى التجريدات الفلسفية العميقة، بعد أن لم يكن كذلك، كما نجد مثلاً في كلام أبي المعالي الجويني الابن، ففيه شيء من الوضوح وشيء من الدلائل العقلية مع الدلائل النقلية، وما أشبه ذلك، أما بعد أن جاء الرازي فإنه أوغل بالقوم في المسائل العقلية والأمور الفلسفية، وكانت المشكلة الكبرى التي أحدثها كتاب التأسيس وما بعده أن آل الأمر بـالأشعرية والماتريدية وبمن تأثر بـالفخر الرازي إلى أن يبحثوا عن مسألة: هل الذين يثبتون علو الله، وأنه فوق المخلوقات؛ هم كفار أو مسلمون؟ وهل يعذرون بالجهل لأنهم أخذوا بظواهر الأدلة أم لا يعذرون؟
بل صرح بعضهم بأن أكثر العامة كفار؛ لأنهم يثبتون علو الله، وأنه فوق مخلوقاته، قالوا: لأن هذا إثبات للجهة والمكان، وهو دليل على الجهل، والجهل في العقيدة لا يجوز، فكفروا بذلك عامة المسلمين - نسأل الله العفو والعافية-.
وإن مما يكفي لنقض كلام الرازي ومن اتبعه: ما حدث للرازي نفسه قبل وفاته، فإنه صرح بهذه المسألة كمثال للمسائل التي يجب على الإنسان أن يرجع فيها إلى الحق ويترك الباطل، فقد قال قبل موته: (لقد تأملت المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أن أفضل الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، واقرأ في النفي قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11]).
فهذا كلام واضح وصريح في أنه قد رجع إلى المذهب الحق في آخر حياته؛ بل إنه دعا الله وهو على فراش الموت أن يغفر له خوضه في علم الكلام؛ فقد صرح بأن كل تلك الطرق والمناهج لا خير فيها ولا حق، وإنما فيها الضلال والشر، وأن طريقة القرآن هي الحق، وذكر مثالاً في الإثبات قوله تعالى: : ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، وهو ما نقضه نقضاً طويلاً في تفسيره في سورة الأعراف آية (54) كما سيأتي.