من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، خلافاً لأهل الأهواء الذين اجتمعوا على أن الإيمان كلٌ لا يتجزأ؛ فهو عند الخوارج يرتفع مطلقاً عن العاصي فيكون كافراً، كما أن المرجئة يحكمون بكمال الإيمان وعدم نقصانه لجميع أهل القبلة وإن كانوا عصاة. ولا يخفى ما في ذلك من الإفراط والتفريط الذي يعد مخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإجماع أهل السنة والجماعة قاطبة.
  1. الخوارج

    الخوارج جمع خارجة مثل: فواكه جمع فاكهة، أو فواطم جمع فاطمة -مثلاً- وهذا كثير في لغة العرب أن تجمع (فاعلة) على (فواعل)، وكما جاء في القرآن ((وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ))[النور:60] القواعد: جمع قاعدة، وكلمة (خارجة) صفة، فكأننا قلنا: فرقة خارجة، ثم تركنا كلمة فرقة؛ وقلنا: خارجة وجمعها خوارج.
    1. الفرق بين الخوارج والبغاة

      والخوارج : هم الفرق التي تكفر المسلمين بمجرد الذنوب؛ بالأمور التي لم يكفّر بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلفظ الخوارج علم على هذه الفرقة، تحت أي اسم، وفي أي مكان أو زمان كانوا، وسواءً خرجوا على الإمام أم لم يخرجوا.
      وليس كل من خرج على الإمام يكون خارجياً فقد يكونون غير خوارج من حيث العقيدة فيسمون (بغاة)، و(الباغي) من الناحية اللغوية: هو الظالم، وكذلك كل من خرج عن شيء ما فهو (خارج) من الناحية اللغوية، لكن من الناحية الاصطلاحية العقدية: (البغاة) اصطلاح على فئة معينة، والخوارج اصطلاح على فئة معينة، وقد يخلط بينهما بعض الناس فيسمون البغاة خوارج، وممكن أن تصح هذه التسمية، لكن هذا الإطلاق خطأ من الناحية التاريخية ومن الناحية العلمية، فمن الناحية التاريخية: ليس كل من خرج على علي رضي الله عنه يقال: إنه من الخوارج، فـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه -مثلاً- ومن كان معه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين خرجوا عن طاعة علي رضي الله عنه، فهل سماهم خوارج ؟ أو اعتبرهم خوارج ؟ لا. إذاً: هذا من الناحية التاريخية.
      وعليه فليس كل من خرج على الإمام الحق يسمى خارجياً هذا من الواقع التاريخي، وأيضاً من حيث الاستدلال المجرد نقول: إن الإنسان قد يخرج على الإمام الحق وهو معتقد بعقيدة أهل السنة والجماعة، وقد يظل في طاعة الإمام وهو معتقد لأحد مذاهب الخوارج، فليست القضية مرتبطة بطاعة الإمام أو اعتقاد ولاية الإمام الحق، وإنما هي مرتبطة بالعقيدة، وقد يكون الإمام والباغي الذي خرج عليه على عقيدة واحدة؛ كل منهما -مثلاً- على عقيدة أهل السنة أو غيرها، المهم أنه لا يشترط أن يكون هذا الخارج على عقيدة الخوارج، لكنه أخطأ إذ خرج على الإمام الحق، وسمي باغياً لخروجه وعدم دخوله في طاعته، أما (الخارجي) فسواء كان داخلاً تحت حكم الإمام أو خارجاً عنه، قاتل المسلمين أو لم يقاتلهم فيطلق عليه (خارجي)، وليس شرطاً أن يكون له إمام؛ فمن فرق الخوارج من عينت إماماً، ومنهم من يعتقد عقيدة الخوارج وليس له إمام معين، فإذاً: نحن بهذا نكون قد ميزنا بين اصطلاحين: وهما الخوارج و(البغاة).
    2. فرق الخوارج

      والخوارج ثلاث فرق -أي الغلاة- وهي حسب شدة غلوها على هذا الترتيب: الأزارقة، ثم النجدات، ثم الإباضية، وإلا ففرق الخوارج كثيرة، لكن هذه الفرق الغالية جداً.
      وأشهر فرقهم الأزارقة، وسموا أزارقة نسبة إلى نافع بن الأزرق وهو مذكور في كتب التفسير في سؤالاته لحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأهم عقائد الأزارقة أن كل المسلمين كفار إلا من كان معهم؛ حتى (القعدة ) -كما يسمونهم- كفار في عقيدة الأزارقة، وهم: من كانوا على عقيدتهـم ولكنهم قعدوا ولم يلتحقوا بهم؛ فهم عندهم كفار، وهذه أكبر وأعلى درجة يمكن أن تُتصوَّر في الغلو، إذ كيف يعقل أن توجد فرقة أو طائفة تكفر كل من عداها من المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- والمجتمع الإسلامي في نظر الأزارقة هو فقط ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ثم ما كان في أيام أبي بكر وعمر، ثم ينتقل إلى نافع بن الأزرق وطائفته التي كانت طائفة محدودة في وسط الجزيرة العربية وشرقها فقط -هذا هو كلامهم- ومن عداهم ارتدوا وكفروا حتى من كان على عقيدتهم ولكنه لم يلتحق بهم، ولا يوجد عندهم شيء اسمه (تقية)، فهؤلاء القعدة وإن ادعوا أنهم قعدوا تقية فهم كفار -نسأل الله العفو والعافية- وهذ خلاصة معتقد الأزارقة .
      الفرقة الثانية: النجدات : نسبة إلى نجدة بن عامر الحنفي زعيم النجدات، كان من أتباع نافع فتركه وانفصل عنه -وهكذا الفرقة دائماً- وهو أقل غلواً من الأزارقة، فقال: من لم يكن على عقيدة الخوارج فهو كافر سواء التحق بهم أو لم يلتحق بهم، ومن كان على عقيدتهم ولم يلتحق بهم فهذا يعتبر آثماً ومقصراً لكنه لا يكفر، وهذا هو الأمر الذي كان فيه أقل غلواً مقارنة بـالأزارقة، إذ كان الاعتبار عند نافع التبعية، فمن اتبعه ووالاه فهو المسلم، أما نجدة فجعل الاعتبار المعتقد، فمن اعتقد العقيدة التي هو عليها فهو عنده مؤمن، لكنه لا يجعل من اتبعه وناصره وحارب معه مثل من كان على عقيدته وهو قاعد، فـالقعدة مقصرون وآثمون في معتقده، لكنه لا يخرجهم من الدين.
      الفرقة الثالثة: الإباضية : نسبة إلى عبد الله بن إباض، وخلاصة عقيدتهم: تكفير الحاكم وعسكره فقط، وهم عندما يتكلمون على السلطان لا يعنون سلطانهم هم، بل يعنون خلفاء بني أمية، وخلفاء الدولة العباسية؛ فضيقوا دائرة الكفر، فالكافر عندهم هو السلطان وعسكره، ومن والاه، وأما البقية فهم في كفر لكنه ليس بالأكبر، وإنما كفر دون كفر، والمؤمن من وافق الإباضية وكان على دينهم، وهذه الفرقة هي التي بقيت باسمها إلى عصرنا الحاضر، ويوجدون في عمان، وهم ما يقارب (50 %) من السكان، وهذا أقوى وأشهر مكان لهم، ولهم تواجد في ليبيا والجزائر، وفي تنزانيا، وفي كينيا كان لهم وجود قليل جداً، فهذه أماكن تواجدهم.
      والإباضية الموجودون في العالم اليوم عندهم قضية من قضايا العقيدة يجعلونها محل المفاصلة والموالاة والمعاداة، ويكفرون من خالفهم فيها مع أنها إحدى جزئيات العقيدة، لكنها -في نظرهم- أهم شيء، وهي نفي رؤية الله تعالى.
  2. تقارب المعتزلة والخوارج في العقيدة

    يلاحظ أن بين المعتزلة والخوارج تقارباً في العقيدة، ومن المسائل التي تقاربت فيها الفرقتان مسألة الإيمان والكفر، فـالمعتزلة والخوارج يتفقون في الحكم ويختلفون في الاسم؛ فهم متفقون على أن مرتكب الكبيرة الذي يموت غير تائب خالد مخلد في النار، لكنهم يختلفون في الاسم، فأما الخوارج -ونعني بهم النجدات والأزارقة، وكذلك الإباضية فيسمون من ارتكب معصية أو خالف عقيدة الخوارج أو من والى السلطان كافراً في الدنيا، وفي الآخرة يخلد في النار.
    أما المعتزلة فقالوا: يخرج من الإيمان، ولكنه لا يدخل في الكفر وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين؛ فلا نقول: مؤمن ولا نقول: كافر.
    فهم لم يستطيعوا أن يلحقوه بالكفار لأنه من الواضح جداً لكل مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعامل مرتكب الكبيرة معاملة اليهود أو النصارى، وقد رجم الزاني والزانية وشهد لكل منهما بالإيمان ولم يعاملهما معاملة المرتدين، وكذلك السارق وشارب الخمر، وأقروا -أي المعتزلة - أن الخوارج عندهم غلو، قيل: فلماذا لا تقولون: إنه مؤمن؟ قالوا: كيف يكون مؤمناً وقد عصى الله تعالى؟! فهم يخالفون منهج أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان.
    وهذا ينقلنا إلى الحديث عن المنطلق الذي تنطلق منه جميع الفرق وأصل الضلالة الذي ضلت به جميع الفرق في هذا الباب، وهو زيادة الإيمان ونقصانه.
    فهذا هو وجه الشبه بين المعتزلة والخوارج -في أول الأمر- ولذلك قال أحد الشعراء:
    برئت من الخوارج لست منهم            من الغزال منهم وابن باب
    ومن قوم إذا ذكروا علياً            يطيلون التأمل في السحاب
    وهذا على اعتبار أن كل من خرج عن السنة خوارج، أو بسبب التشابه الشديد بين المعتزلة والخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة.
    هذا وقد قامت للخوارج دول في بلاد فارس، كما وجدت لهم دول في بلاد المغرب وبلاد الجزائر وما حولها من قبائل البربر، ثم استمرت لهم دول، ولهم وجود إلى عصرنا الحاضر.
    والخوارج المعاصرون متأثرون جداً بعقيدة المعتزلة، ولذلك نحاول أن نربط الأمور بجذورها حتى تعلق في الذهن، فنقول: القضية الكبرى عند المعتزلة والتي حصلت بسببها الفتنة والمحنة، هي فتنة القول بخلق القرآن التي بسببها عذب الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من قبل المعتزلة، والخوارج المعاصرون أيضاً يعتقدون في القرآن أنه مخلوق.
    إذاً: فأهم عقيدة يعتقدها الخوارج المعاصرون هي:
    أولاً: تكفير مرتكب الكبيرة، وبالذات الموالي للسلاطين في نظرهم.
    ثانياً: نفي الرؤية فيقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، ومن قال: إن الله تعالى يُرى في الآخرة، فهو عند الخوارج كافر، وعليه فالمتشدد منهم -على أصل تلك العقيدة- يرى أن أهل السنة والجماعة الموجودين اليوم -والذين تبلغ أعدادهم الملايين- كفار، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤكل من ذبائحهم؛ لأنهم يقولون: إن الله يُرى في الآخرة، فهذه هي المشكلة، وليس كما يظن البعض أنها مجرد خلافات فرعية غير جوهرية، هذا ما يظنونه ويعتقدونه فينا، ويصرحون به في كتبهم، وهذه المشكلة صارت عندهم ضخمة جداً، إذ إن الإنسان منهم ليس عنده وسط، إما أن يتمسك بعقيدته، فيرى أن أهل السنة والجماعة كفار؛ لأنهم يثبتون رؤية الله. وإما أن يصلي خلف أهل السنة أو يأكل ذبائحهم أو يخالطهم، فيرى نفسه مقصراً غير مستمسك بعقيدته -نسأل الله العفو والعافية- وبعض الناس يرى أن هؤلاء من أقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة، ومن أقل الفرق غلواً، نعم هم كذلك بالنسبة إلى الخوارج الغلاة، أو بالنسبة إلى القاديانية، أو الروافض، لكن أين هذا القرب بالنسبة إلى الحق الصريح المحض؟ لا! هم بعيدون عن الحق ما دامت هذه نظرتهم، وهم الآن يعتقدون عقيدة المعتزلة في نفي الرؤية، وفي اعتقاد أن القرآن مخلوق وجعلوا من ذلك ذريعة إلى تكفير أهل السنة.
    1. تقارب أهل البدع في عقائدهم

      ويعجب المتأمل إذ كيف يكون الخوارج على عقيدة المعتزلة، حتى أعداؤهم المقابلون لهم وهم الرافضة والشيعة نجدهم على عقيدة المعتزلة نفسها، فإن أشد أعداء الرافضة هم الخوارج ؛ لأن الرافضة يعظمون علياً إلى حد أنهم جعلوه الإله، وقالوا فيه ما قالوا من الغلو، والخوارج تقول: هو كافر، ومع ذلك إذا نظرنا إلى عقائدهم نجدها واحدة فيما يتعلق بصفات الباري تعالى، والقدر، وخلق القرآن، ونفي الرؤية، عجباً!! كيف حصل هذا؟
      نقول هنا -حتى لا تتعارض الأمور في أذهاننا-: إذا أخذنا الأمور بالنظرية الصحيحة وحللناها تحليلاً دقيقاً جداً نجد أنه لا إشكال في هذا أبداً، فالفترة التي اتحدت فيها الفرق؛ كانت في القرن الرابع الهجري تقريباً بعد قوة أهل السنة والجماعة، عندما انتصر الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأهل السنة في أيام المتوكل، وعاد الخلفاء إلى السنة، وعُممت على البلاد المنشورات، كما حدث من القادر بالله حيث نشر المنشور القادري الذي عُمم على جميع أنحاء الدولة من أطراف الصين إلى أطراف المغرب : أن العقيدة التي عليها الدولة والأمة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، أما المعتزلة فقد ثار ضدهم العامة وعلماء وقضاة السنة؛ لأن أهل السنة كانوا مكبوتين أيام المعتزلة، فقد كانوا يرغمونهم على القول بأن القرآن مخلوق، ويعذبونهم ويؤذونهم ويقطعون وظائفهم، ولا يولون أمرهم ولا قضاءهم إلا من يقول: إن القرآن مخلوق؛ فلما أزاح الله هذا الشر قامت العامة، وهاجت على أهل البدع، فكبت أهل البدع عامة والمعتزلة خاصة وذلوا، فتقارب أهل البدع ليكوّنوا جبهة واحدة ضد أهل السنة، فتحول الروافض -في الاعتقاد- في باب الصفات من التمثيل إلى النفي، فالتمثيل الذي كانوا عليه على مذهب هشام بن الحكم الرافضي وداود الجواربي تركوه وأصبحوا يردون الصفات كما هو مذهب المعتزلة، وصار كل أهل البدع يتعاطفون ويتكتلون مع المعتزلة لما نبذوا، وظهرت البدع -تقريباً- في بوتقة واحدة وهي بوتقة الاعتزال وعلم الكلام الذي شهره المعتزلة، فـالروافض -كما تجد شيخهم ابن المطهر يتكلم في نفي الصفات وفي القدر- على مذهب المعتزلة، وتجد الخارجي في أي كتاب من كتب الخوارج يؤيد وينتصر لمذهب المعتزلة، وكذلك الزيدي ينتصر ويؤيد مذهب المعتزلة، رغم الخلافات الموجودة بين الزيدية وبقية الروافض، وبين الشيعة في عموم المسائل، وهكذا وحَّدتهم العداوة لـأهل السنة، وهذا ابتداءً من القرن الرابع، أما قبل ذلك فكانت الخلافات بينهم مشهورة، و شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يأتي بنظرة عميقة جداً، ذكرها في أكثر من كتاب له ومنها الرسالة التسعينية يقول: "إن الذين كان الإمام أحمد يناظرهم لم يكونوا جميعاً من المعتزلة "، الشائع والمشهور لدى الكثيرين أن الخصم هو ابن أبي دؤاد والمعتزلة، ولكن كان ثمة فرق أخرى، إلا أنها لم تكن بذاك الوجود والظهور والقوة التي كانت عليها المعتزلة، يقول رحمه الله تعالى: "بل كان ممن ناظرهم: النجارية والبكرية والضرارية "، وثمة فرق أخرى تأخذ من الاعتزال بعض الشيء وتخالف في البعض الآخر.
      هذا وأصل الضلالة الذي تجتمع عليه كل الفرق المخالفة لـأهل السنة والجماعة في الإيمان -سواء من خالفها غلواً وإفراطاً، أو خالفها إرجاءً وتفريطاً- هو: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
  3. زيادة الإيمان ونقصانه

    وقد شرحنا فيما مضى معنى قوله: "قولاً وعملاً" والآن سنشرح قوله: "يزيد وينقص" ونبين أهمية كون الإيمان يزيد وينقص، ولماذا أجمع عليه السلف، ولماذا أعتبر من عقيدة أهل السنة والجماعة .
    1. أصل ضلال الفرق في باب الإيمان

      جميع الفرق المخالفة لـأهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو شيء واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ولا يتركب؛ وكله كلام متقارب، بناءً على أنه شيء واحد، لكن وقع الخوارج في الإفراط والغلو ووقعت المرجئة في التفريط والإرجاء، فالإيمان بناءً على قول الخوارج : لا يزيد ولا ينقص، وقالوا: إذا فعل كبيرة، فلا يمكن أن يقال: هذا كامل الإيمان وهو يزني ويشرب الخمر، إذاً: هذا فاقد الإيمان؛ لأن أصله شيء واحد، فما دام أنه لا يوجد عنده فهو مفقود معدوم، فبناءً على هذا الأصل لديهم كفّروا مرتكب الكبيرة، أما المرجئة -بناءً على تأصيلهم- فيقولون: إن الذي يشرب الخمر أو يزني كامل الإيمان؛ لأنه لا يمكن أن نقول ذهب إيمانه على الإطلاق.
      ولا يمكن أن نقول: إنه صار كافراً إذ إن هذا ليس معقولاً، فهو مؤمن وإن شرب الخمر، مؤمن وإن زنى، إذاً: ليس لنا أن نقول في إيمانه إلا أنه كامل؛ لأن الإيمان لا يتجزأ أو يتركب!!
      وقد امتنّ الله تعالى على هذه الأمة الإسلامية بأن جعلها أمة وسطاً، وكذلك أهل السنة وسط كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله -وهو بحق من أعظم الأصول، ومن أعظم صفات أهل السنة -: "أن أهل السنة وسط بين فرق الأمة كما أن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل" وقد جاءت وسطيتهم ناتجة عن اتباع الدليل، ولأن الدين هو نفسه وسط دائماً، فقال أهل السنة : دل الدليل على أن الإيمان يزيد وينقص ويتركب ويتجزأ، وعليه فنقول: إنه قد يجتمع في الإنسان المعصية مع الإيمان، لكن لا يكون إيمانه كاملاً؛ فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
    2. الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه

      والدليل على أن الإيمان يزيد وينقص، الإجماع وهو أقوى الأدلة لأنه لابد أن يستند إلى نص إما بدلالة ظاهرة، وإما بدلالة خفية، المهم أنه مستند إلى نص ولو إلى عمومات النصوص، فأجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص.
      ومن النصوص الصريحة التي استند إليها الإجماع في الحكم بزيادة الإيمان؛ قوله تعالى: ((أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا))[التوبة:124]، فهذه الآية من جملة أدلة صريحة في زيادة الإيمان.
      أما النقصان فقد قال بعضهم: إنه لا يوجد دليل على أن الإيمان ينقص! وفي الحقيقة هناك دليل، وقد يقال: إن الآيات الدالة على الزيادة هي نفسها تدل على النقص؛ لأن ما يقبل الزيادة يقبل النقص وهذا كلام صحيح، لكن نريد أن نورد الأدلة النصية الصريحة التي تنص على النقص، وهنا حديث أصرح وهو أن الله سبحانه وتعالى في أول الأمر يأمر الشفعاء فيقول: {أخرجوا من كان في قلبه مثقال شعيرة} وفي رواية: {من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من إيمان} بعد ذلك يقول: {أخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة أو حبة} بعد ذلك يقول ثلاثاً: {أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة …} .
      ومن الأدلة وصف النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بقوله: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين.. قيـل: وما نقصان دينها؟ قال: أليست تمكث الأيام لا تصلي؟! فهذا من نقصان دينها} لأن الصلاة من الإيمان، وقد ورد في القرآن إطلاق لفظ (الإيمان) على الصلاة، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، كما في الحديث الصحيح الموضح لسبب نزول الآية.
      على ذلك فالصلاة من الإيمان، ونقص الصلاة معناه نقص في الإيمان، فالمرأة أنقص ديناً من الرجل بهذا الاعتبار؛ لأنها أقل منه عملاً، فلو أن رجلاً وامرأة عاش كل منهما -مثلاً- خمسين سنة، فإن الرجل يصلي أكثر؛ لأن المرأة يمر عليها في كل شهر بضعة أيام لا تصلي فيها، وكذلك مع كل ولادة أربعون يوماً -تقريباً-.
      ومن أدلة النقصان قوله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
      وهكذا أيضاً في حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} وهناك أدلة أخرى على نقص الإيمان، مثل حديث شعب الإيمان المعروف بروايتيه الصحيحتين: {الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة} فهذا يدل على أن الإيمان يتعدد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه شعب متعددة متنوعة، وهذا يدل على زيادة الإيمان ونقصانه.
      وحديث حنظلة المشهور وفيه {ساعة وساعة} وهذا شيء يشاهده كل إنسان في نفسه أثناء حلقات الذكر وفي لحظات العبادة الصافية، أو وهو يطوف ببيت الله، أو يقرأ كتاب الله، أو حين يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، أو يزور المقبرة ويتفكر في أحوال الموتى، أو يرى مصارع الغابرين وهلاك الأمم التي عصت الله سبحانه وتعالى، ويرى آثارهم، ففي هذه الحالات هل يكون إيمانه مثل ما يكون في حالة معافسة الأزواج والأموال؟!
    3. الرد على الخوارج والمرجئة في باب زيادة الإيمان ونقصانه

      ونرجع إلى حديث شعب الإيمان؛ فهو مهم جداً في الرد على كل الفرق وعلى كلا الاتجاهين الضالين في باب زيادة الإيمان ونقصانه، فعندما يقول صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} ففي هذا القول الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال ورد لكل مذهب انحرف عن المذهب الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، وهذا يتفق مع أي فطرة سليمة وأي تفكير سليم، وأي عاقل يتفكر ويتأمل في هذا الحديث فسيجد أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق الذي لا مرية فيه ولا إشكال ولا نزاع فيه، فالإنسان يدخل في الإيمان بالشعبة الكبرى وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا حققها قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، فقد جاء بأعظم شعبة من شعب الإيمان، ويستلزم مجيئه بها تحقيقه لها ظاهراً وباطناً، ويستلزم تحقيق الشعب الأخرى؛ لأنها ليست منفصلة؛ بل هي شُعب عن أصل واحد، فهذه الشعبة العظمى والأساس والأصل، ثم بعد ذلك تأتي شعب الإيمان، وقد نص بعض العلماء على تعيينها وتعدادها،كما فعل ابن حبان رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، وذكر هذا عن بعض العلماء، ونحن لا يهمنا أن نعدد أشياء معينة حتى يصل الرقم إلى بضع وستين شعبة، بل المهم عندنا هو أن نوقن -بدون تفصيل ولا تعداد- أن كل طاعة من الطاعات شعبة من شعب الإيمان، وهذا يكفينا، لكن أول ما يدخل في هذه الشعب بعد الشهادة بقية أركان الإسلام الأربعة، ثم بقية الحقوق والواجبات مثل: حق الوالدين، وحق الزوج على الزوجة، والعكس...، ثم بقية الشعب، فكل طاعة إيمان، وكل نقص في الطاعة نقص في شعبة من شعب الإيمان.
      وعلى هذا فإن الناس يتفاوت إيمانهم؛ لأن منهم من يأتي بخمسين شعبة، ومنهم من يأتي بستين، أو بأربعين، وهكذا، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف يجتمع في الإنسان ارتكاب الكبيرة وامتثال الطاعة، فمثلاً شخص يحافظ على الصلوات الخمس جماعة في المسجد ومع ذلك يغش في تجارته، بل ربما أكل الربا، وهذا في الواقع موجود، ولا يمكن أن نفهم هذا إلا على ضوء مذهب أهل السنة والجماعة، أما الخوارج فإن هذا عندهم كافر ليس في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وأما المرجئة فهو عندهم كامل الإيمان؛ لأنه يؤدي كل الصلوات الخمس في المسجد، نقول: كلا القولين خطأ، أما عقيدة أهل السنة والجماعة -التي هي والحمد لله وفق صريح النصوص- فإنه يمكن أن تجتمع هذه وهذه، فتجد من الناس من يزني -نسأل الله العفو والعافية- لكن قد يكون من أصحاب الأموال ويتصدق وينفق ويعطي الفقراء والمساكين، ولا يمكن أن يتصدق إلا بإيمان، وهذا واضح، وفي إنكاره مكابرة، ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة في كل الأمور الاعتقادية -والحمد لله- هو الذي يصدقه الدليل ويصدقه الواقع أيضاً، فمستحيل أن تجعل هذا الزاني مؤمناً كامل الإيمان، أو أن تقول: إنه ارتد وخرج من الملة، وهو يصلي ويتصدق، وينفق، ويجاهد.
    4. دلالة العقل على زيادة الإيمان ونقصانه

      ولنضرب مثالاً ذكره الله تعالى في القرآن لنبين كيف أن الأدلة يصدق بعضها بعضاً، وأن العقل السليم يصدقها، يقول الله سبحانه وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم:24-25] الآية.
      فقد فسر السلف هذه الشجرة بأنها (لا إله إلا الله) أي أنها هي الإسلام وهي الإيمان أيضاً، كيف تكون هذه الشجرة؟ نأخذ هذا المثال لنوضح ولنستدل به على أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق، وأن غيره باطل سواء أكان مذهب الخوارج أو المرجئة .. كيف ذلك؟
      أولاً: أن الشجر يتفاضل وهذا معروف، فهناك شجرة طويلة تزن أطناناً وثمارها كبيرة، وهناك شجرة صغيرة وثمرتها صغيرة جداً، فهذا واضح وقد تكون الأشجار من جنس واحد، وشجرة الإيمان الجنس فيها واحد وهو جنس الإيمان، لكن هناك اختلاف بين شجرة وشجرة، ثم إن الشجرة لها جذور تحت الأرض ولها أجزاء ظاهرة لا يمكن أن يصدق عليها اسم الشجرة إلا إذا تركبت من النصف الظاهر الذي هو الجذع والأغصان والورق والثمرة، والنصف الباطن، وهو الجذور المتعمقة في الأرض، فلو جاء أحد إلى شجرة ما وقطعها، ثم وضعها فوق الأرض، فعندها لا تسمى هذه شجرة على الحقيقة؛ لأنه ليس لها جذور، ولن تثمر، بل إنها ستجف وتسقط، فهذا مثل من يأتي بالإيمان الظاهر وليس له عمق ولا وجود في الباطن.
      إذاً: فكيف يُعقل أن يكون لدى الإنسان الإيمان الظاهر وليس لديه الإيمان الباطن؟! وكذلك لا يمكن عقلاً أن يكون الإنسان لديه إيمان باطن وليس لديه إيمان ظاهر، وهذا ما نص عليه الإمام الخطابي رحمه الله ونقله النووي في شرح مسلم -وإن كان لم يقرره وإنما اكتفى بنقله- فيقال: أي إنسان عنده إيمان ويقين وخشوع وإخلاص وتوكل كامل، ولا يظهر على أعضائه شيء من ذلك! هذا مستحيل في الواقع، وهو كالنصف الباطن للشجرة التي استؤصل جزؤها الظاهر، فيقول لك قائل: هذه شجرة ألا تراها؟ فتجيبه لا يوجد شيء، ولا نرى شيئاً! فيقول: هي موجودة، لكن تحت الأرض! ولو فرض أن هناك جذوراً تحت سطح الأرض مغطاة فإنها لا تسمى شجرة ولا تعتبر شجرة، فإن الشجرة هي ما كانت تجمع بين الجذور وبين الساق والفروع.
      والشجرة التي جذورها عميقة وتشرب من الماء المتوفر لها دائماً تكون لها نضارة وجمال، أما الشجرة التي جذورها ضعيفة ولا يتهيأ لها كفاية من الماء فلابد أن يؤثر ذلك في نضارتها، بل قد يكون سبباً في جفافها وهلاكها.
      وهناك تناسب وعلاقة بين وجود الجذور وامتدادها، ووجود الماء الذي تشرب منه وصلاحيته للنبات من جهة، وبين نماء الشجرة، وازدهارها وكبرها وتناسقها من جهة أخرى، وضعف هذا أو انعدامه يجعل الشجرة ضعيفة ولا تلبث أن تموت.
      والخلاصة: أن الإنسان إذا لم تكن أعماله الظاهرة مرضية عند الله، وفق أمر الله فلا شك عندنا في أن إيمانه الباطن ناقص أو مفقود، فنحن نستدل استدلالاً ظاهراً واضحاً جلياً بالظاهر على الباطن؛ لأن هذا يؤثر في هذا، ولأن هذا فرع عن هذا، فتفاوت الشجر من جهة -وإن كان في مكان واحد، ومن جنس واحد، ويسقى بماء واحد- دليل على تفاوت المؤمنين أيضاً، والشجرة الواحدة أهم ما فيها -مثلاً- الجذع، وهو أهم من أي فرع من الفروع، وبعض الفروع مهم ويمتد منه غصن أقل أهمية.. وهكذا.
      فهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة على أن الإيمان يتركب ويتجزأ من ناحية الاستدلال بالعقل الصريح الموافق للنقل الصحيح المأخوذ -كما رأينا- من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
      فالإيمان يزيد وينقص، وليس كما زعم -واتفق عليه- طوائف الضلال من خوارج ومرجئة ومن شاكلهم.