{قلت: يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعَمْرُ الله وعلم أني أبتغي السقطة}، أي: أسأل في الشيء الذي لا ينبغي أن أسأل عنه ولا أتكلم فيه، وعلم أني أريد أن أرى جوابه صلى الله عليه وسلم.
فقال: {ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله}، أي: استأثر الله عز وجل بمفاتيح خمسة أمور لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
{وأشار صلى الله عليه وسلم بيده -يعني: خمساً- فقلت: وما هن يا رسول الله؟ قال: علم المنية، قد علم متى منية أحدكم، ولا تعلمونه}، قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ))[لقمان:34]، فلا يدري أحد كيف تكون منيته؟ ولا متى يكون موته وأجله؟ فإن علم المنية مما استأثر الله بعلمه، فلا يعلمه أحد غيره، قال: {وعلم المنيّ حين يكون في الرحم، قد علمه وما تعلمونه}، أي: علم مآل صاحبه في السعادة والشقاء، والهداية والضلال، وعلم عمره ورزقه، وعلم خلقته وخاتمته، كما ورد {أن الملك يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد}، وهذه الأمور التي لا يمكن أن يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى وليس الأمر مقتصراً على معرفة أذكر هو أم أنثى؟! كما يظن بعض الناس، بل إن الله سبحانه وتعالى يعلم عنه كل شيء.
قال: {وعلم ما في غدٍ، قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه}.
انظر إلى هذا المربي العظيم والمعلم الجليل صلى الله عليه وسلم! كيف يضرب مثلاً بالشيء الواقعي! فمهما كان هذا الإنسان مثقفاً كبيراً، أو جاهلاً عادياً، فإنه يحتاج إلى الطعام، وكل الناس يحتاجون إليه، حتى الكفار الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، يحتاجونه، وهم غافلون عنه، فيقول: إن الذي يعلم الغيب هو الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أنك لا تعلم أمر مستقبلك، فما تدري ماذا ستجني غداً؟ وماذا سيعرض لك؟ وماذا ستأكل؟ وقد لا تأكل.
قال: {وعلم يوم الغيث، يشرف عليكم أزلين مشفقين}.
(أزلين): أي: قانطين يائسين هلعين مترقبين.
و(مشفقين): أي: وجلين ليس عندهم شيء، فهم يشتكون القحط، ويتضرعون ويلجئون إلى الله؛ وذلك لعدم الغيث، وهم في سنة قحط مجدبة، وفي حالة ضنك، ومع ذلك فالغيث قريب، لكن من يعلم أنه قريب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فإذا أنزل الغيث فإذا هم يستبشرون بعد أن كانوا قانطين مشفقين.
يقول: {فيظل يضحك، قد علم أن غوثكم إلى قريب}، فالله تعالى يضحك من قنوط الناس، في حالة قحطهم وجدبهم، وكان عليهم أن لا يقنطوا؛ لأنه سبحانه سيغيثهم عما قريب.
قال لقيط {فقلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً يا رسول الله!}، الله أكبر! هذه هي نظرة العرب الأصيلة، وهي من مكارم الأخلاق عندهم، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي له صفات الكمال؟ فالإنسان الكامل الخُلُق يستقبل ضيوفه بالفرح والبشاشة، أو إذا رأى حالهم ضحك لهم، وهذا دليل على أنه سوف يعطيهم ويجود عليهم، فكيف بمن له صفة الكمال سبحانه وتعالى ولا يملكها أحد سواه؟ فيقول: (لن نعدم من رب يضحك خيراً)؛ لأن رحمته عز وجل سبقت غضبه، فإذا كان الله عز وجل يضحك فلن نعدم منه خيراً، وإن قنطنا وجزعنا وأجدبنا، فالخير قادم ورحمته واسعة.
قال: {وعلم يوم الساعة}، فيوم الساعة لا يمكن أن يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. {قلنا: يا رسول الله! علمنا مما تُعلِّم الناس وتعلم، فإنا من قبيل -أي: من قبيلة- لا يصدقون تصديقنا أحداً. من مذحج التي تربو علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها}، أي: أن هذه الثلاث القبائل لا تصدق أحداً مثلما تصدقنا؛ وذلك لما لنا عندهم من مكانة ومعرفةٍ وشهرة بالصدق والأمانة، وبالخصال الشريفة، يقول: علَّمنا وسننقل ذلك إلى هذه القبائل الثلاث: إلى قومنا بني المنتفق، وإلى خثعم ومذحج، فإن هذا الخير سوف يعم بإذن الله هذه القبائل كلها.
وهكذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، يتعلمون عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعون لينذروا عشيرتهم وقومهم، قال تعالى: (( وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ))[التوبة:122] ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يخبرهم بهذه الأمور العجيبة الغريبة.