قال الإمام اللالكائي رحمه الله: "أخبرنا محمد بن جعفر النحوي إجازة، حدثنا أبو عبد الله نفطويه قال: حدثني أبو سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي ...) -وميزة الإمام اللالكائي رحمه الله أنه يذكر الأثر بالسند، وهذا الكلام نجده أيضاً مذكوراً في كثير من الكتب، مثل مختصر الصواعق، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي كتاب العلو للذهبي - يقول: (كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، فقال: (هو على عرشه كما أخبر عز وجل) -يعني: أنا لا أعلم الكيفية، فكوني إماماً أو لغوياً أعرف لغة العرب، لا يعني أنني أعرف كيفيات صفات رب العالمين، لكنه على عرشه كما أخبر، يكفينا أن نثبت علوه عز وجل واستواءه على عرشه، فهذا جواب أهل اللغة، وجواب أهل الإيمان والأثر- قال: يا أبا عبد الله، ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى. قال: اسكت! ما أنت وهذا؟! -أي: ما يدريك؟! ما أنت وكلام العرب؟! ليس هذا شأنك ولا هو فنك ولا علمك، نحن الذين نعلم كلام العرب ولغتهم -قال: (اسكت! ما أنت وهذا؟! لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى".
يقول ابن الأعرابي : لا تقول العرب (استوى)؛ بمعنى: (استولى) على الشيء، إلا إذا وجد له مضاد منازع منافس مغالب، فغَالَبه فغَلَبه، فنقول: استولى عليه، أما غير ذلك فلا، فإذا تنازع اثنان أو أكثر على مال أو ملك، فغلب أحدهما، واستحوذ على ما اختلفا عليه، نقول: استولى عليه فلان، يعني غالبه على شيء وانتزعه منه، وليس لله عز وجل منافس ولا مغالب، أخذ العرش منه، ثم نازعه الله تعالى فأخذه منه تعالى الله عما يصفون.
وهذا أحد الوجوه العقلية التي أطال الكلام فيها الإمام العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى عليه حين رد على نفاة العلو، كما سنشير إليه إن شاء الله فيما بعد.
قال: أما سمعت النابغة :
ألا لمثلك أو من أنت سابقه            سبق الجواد إذا استولى على الأمد
أي إذا قطعه وغالبه.
فهذا دليل على أن استوى في كلام العرب ليست بمعنى استولى، وإنما هذه فيها نوع مغالبة ومنازعة.
وبسند آخر إلى أبي بكر محمد بن أحمد بن النضر وهو ابن بنت معاوية بن عمرو : (قال: كان أبو عبد الله بن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل) أي: في علم وعبادة وزهد وورع.
وأئمة اللغة الأثبات الثقات كـالخليل بن أحمد والنضر بن شميل، وسيبويه، والكسائي وابن الأعرابي، هؤلاء كانوا أئمة علم ودين وقراءة وفقه، وفيهم الخير والصلاح، ولم يكونوا في شيء من البدع، فـالأصمعي الإمام الجليل المشهور لم يكن فيه شيء من البدع، بل كان ينكر على أهل البدع وأهل التأويل والضلالات، وجميع الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، وهذا من فضل الله تعالى، وهكذا صان الله لغة العرب وإنما وقعت البدع في القرون والأجيال المتأخرة.
يقول: (وذكر لنا أن ابن أبي داود سأله -ولعله ابن أبي دؤاد - قال: أتعرف في اللغة استوى بمعنى: استولى؟ فقال: لا أعرف).
سبحان الله! هؤلاء -من حرصهم على الابتداع- يبحثون عن أي شيء يقوي بدعتهم، لو قال: نعم أعرف ذلك؛ لتهالكوا وتهافتوا عليه، وتركوا المعاني الأخرى الواضحة، إذ قد يكون في الكلمة معنيان، فلِم التهالك والتهافت على أحدهما؟! إنه الهوى، أما الإنسان الذي يأخذ الأمور من غير هوى ولا تعصب، فالمعنيان يستويان عنده، وقد يستوي المعنيان في اللغة، فإذا تأملنا كلام السلف، ووجدناهم رجحوا أحد المعنيين، أخذنا بكلام السلف .